زكريا صبح يكتب مرثية وطن في ( عائد الى قبرى ) للكاتبة الجزائرية والاعلامية زكية علال

كثيرة هى المداخل النقدية لهذا العمل على عكس جل الروايات التى تقع بين ايدينا ، ففى اغلب الاحوال نستطيع القبض على مفتاح واحد يفتح لنا بابا واحدا نلج منه الى موقفنا النقدى ومن ثم نطوف فى جنبات العمل محل الدراسة ، لكن هذا العمل نحار من اى ابوابه ندخل ،
هل يكون مدخلنا انكسارات الاوطان ؟
هل نجعل موضوع دراستنا العشرية السوداء فى الجزائر ؟
هل ننطلق من الحب الذى تتماهى فيه المرأة مع الوطن ؟
هل نبدأ الدراسة باستدعاء اطلس الخرائط العربية كى نرى مناطقه المشتعلة ؟
هل من الافضل اللجوء الى اطلس التاريخ كى نسير معه حقبة تلو اخرى متتبعين كل لحظات الهزائم المتتالية منذ تحول الحكم من الخلافة الرشيدة الى الملك العضوض ثم الوصول الى اللحظة الراهنة ؟
لست ابالغ اذا قلت ان كل ماسبق يصلح ان يكون مدخلا مهما وجادا ومنصفا لمثل هذا العمل الذى عالج فى سلاسة وهدوء كل هذه الموضوعات ، ولكن ليكن مدخلنا الانسان العربى ،
هذا الانسان الذى جعلت منه الكاتبة لب المرثية ، فهى اذ ترثى الوطن انما ترثى الانسان العربى والعكس صحيح تماما،
يوسف البطل الاول فى روايتنا والراوى المشارك الذى جعلت منه الكاتبة لسانا متحدثا ليس لينقل لنا مأساته او جانبا من حياته التعسة فقط ، بل ايضا لينقل لنا حكايات من حوله والتى جاءت تعسة ايضا ،
اختارات الكاتبة ان يكون البطل صحافيا نابها بعد ان مهدت لذلك بحبه للقراءة والاطلاع وميله لكتابة الشعر ،ولذا لم يكن غريبا ان يتولى هو بلسان مفوه رسم كل الاحداث ، ووصف كل الشخوص. وادارة كل العلاقات ، ولأنه صحافي نشط متميز فقد كان قادرا على التعبير عن الوطن كله ، ليس وطنه ( الجزائر ) الذى ولد فيه وحسب بل وطنه العربى الممتد من المحيط الى الخليج ،
يوسف القارئ الذى اختط لنفسه خطا فلسفيا ورؤية شكلتها ثقافته من ناحية وشكلها كذلك واقعه الحزين ، فأصبح يرى فى الوطن كله تاج عار يكلل جبهته ، اصبح فى خصومة من الوطن الصغير ( الجزائر ) الذى استباح قتل ابيه ، والوطن الكبير الذى استباح بتر ساقه وفقأ عين انعام المصرية وقتل عمار الفلسطينى ،
يوسف جعل من الوطن شخصا حمله كل انكسارته واخفاقاته ،
يوسف اختصم الوطن لانه _ اى الوطن_ لم يستطع حمايته او رفع هامته ،
يوسف يلوم الوطن الذى لم يستطع ان يطهر نفسه من دنس الاوغاد
وانى والله اشفقت ايما شفقة على الوطن كبيره وصغيره لان الوطن لا حيلة له فى كل ذلك ، لكن العار كله جلبه انسان هذه الاوطان بضعفه وضيق افقه وخيانته وجبنه وتخلفه وانبطاحه ،
يوسف كان سيئ الحظ وكل من عاصره ، اذ قدر الله ان يعيشوا هذه الفترة الحالكة من تاريخنا العربى ، ايام انهزامات ولحظات انكسارات ،
اختارات الكاتبة للبطل اسم يوسف بما له من ظلال دينية ، ومن ظلال مأساوية ، فنحن اذ نذكر يوسف نتذكر نبى الله يوسف صاحب غيابة الجب ، ويوسفنا ليس الا رمزا للانسان العربى الذى سقط فى جب الذل والخنوع والمهانة والهزيمة ،
اختارت الكاتبة اسم يوسف لنتذكر على الفور طهر يوسف النبى ،ويوسفنا كان طاهر القلب ، نقى السريرة ، طاهر الفعل لم يتورط فى دنس الشهوة بل ارتقى بصفاء الحب ونقائه ، فرغم علاقاتة التى دخلها مع ثلاث نساء ، فيروز ثم سعاد ثم انعام الا انه لم يشته احداهن شهوة تدنس صفاء محبته ، ولذا خلت الرواية من اى مشهد ساخن او مثير كما يحب ان ينزلق الى ذلك كثير من الكتاب ،

يوسف ليس الا رمزا للانسان العربى ، نشأته ، تعليمه ، طموحاته ،
هو نموذج للانسان العربى الذى تتحطم كل خططه امام عقبات تكاد تكون متشابهة بين الاقطار العربية جميعها ،
رحلة يوسف ليست الا رحلة معظم الانسان العربى ، تعلم ، تفوق ، احب فتاة ، ثم هجرة لتحقيق الذات ، ثم انهزام وانكسار
بوعى شديد جعلت الكاتبة روايتها تجريدا لرحلة الاوطان ، عرجت على لحظات الهزائم الكبرى ، الاندلس وما جرى فيها ، هزيمة العرب امام التتار ، هزيمة العرب فى ٦٧ وهزيمة العرب بسقوط بغداد وهزيمة العرب بالعشرية السوداء فى الجزائر ،
** هذه ليست مرثية ليست للبكاء بل من اجل التطهر ، نكأت الجراح وناقشتها من اجل مستقبل يحلم به كل انسان عربى ، لكن لن يتحقق هذا المستقبل المشرق الا بالوقوف قليلا امام لحظات الهزيمة ، نتأملها كى نتعلم منها ، نتأملها لنعرف كم كنا متحضرين عندما كان الاخر متخلفا ،
طوفت بنا فى لحظات الفخر ايام الرشيد كى تذكر قارئها بمجد اجداده التليد ، تعقد المقارنات بين ماض كنا فى بعض محطاته اولى قوة واولى علم وحضارة وحاضر بائس منهزم هزيمة نكراء
** قد يظن قارئ المقال اننى اتحدث عن رواية تاريخية تستعرض تاريخ الوطن العربى ، ولكن الامر ليس كذلك على الاطلاق ، فالتاريخ ليس الا هامشا على متن الواقع وخلفية باهتة امام مستقبل نأمل ان يكون مشرقا ،
** لطالما قلنا ان الرواية ليست حكاية يحكيها الكاتب من اجل التسرية عن قارئه ،بل هى رؤية وفلسفة خاصة بكاتبها ، يقدم من خلالها رايه بين سطورها ، راسما عبر صفحاتها طريقا للمستقبل ، لامسا بين احداثها اسباب الاخفاقات والانكسارات ،
وهذا ما رأيناه فى هذا العمل ، كأنى بالكاتبة فوق بساط سحرى يجوب ارجاء الوطن العربى والاسلامى كسندباد رحالة راحت تتنقل بين اقاليم الامة ، راصدة اسباب ضعفها و كاشفة عن عللها ، ، هانحن فى الجزائر نرى كيف فعل فيها التطرف ما فعل حتى راح يعمل القتل فى اهل الجزائر بلا هوادة، وفى مصر من خلال لقاء يوسف بإنعام رأينا كيف يفعل الفساد فعله وصولا الى قتل من يفكر فى مطاردته ، وليس والد إنعام عنا ببعيد
وفى فلسطين رأينا كيف يفعل الاحتلال بأهل فلسطين وليس ما فعله بزوجة عمار وابنها عنا ببعيد ايضا ،
اما ليلة سقوط بغداد فقد كانت لحظة اعلان سقوط كل العرب من الماء الى الماء
ابت الكاتبة الا ان تدخلنا دائرة سردية تماثل دائرية التاريخ ، فقد فضلت ان تبدأ من النهاية لحظة عودة يوسف فاقدا ساقه اليسرى ووقوفه امام قبر ابيه المقتول بلا جريرة وربما كانت جريرته حسن اخلاقه وشهامته وانسانيته وتعاطفه مع بنى وطنه ، ثم ينتقل يوسف عبر ( الفلاش باك ) الى سرد كل الحكاية منذ كان طفلا حتى صار رجلا ناضجا يحمل هم وطنه الصغير. ويعانى من هزائم وطنه الكبير ، ثم اذا ما انتهينا من الرواية وشرعنا فى قراءتها مرة اخرى وجدنا الدائرة قد اكتملت ،
كأن الكاتبة ارادت ان تشرك القارئ فى متاهة الحياة العربية وعبثيتها
** القضية عربية ، والابطال عرب ، القضية عامة لا تخص قطرا بعينه ، والابطال صحافيون ، والراوى صحافى متميز ، لكل هذا ليس غريبا ان يأتى الحوار فصيحا ، عميقا ، رامزا ، لم تحتج الكاتبة ان تجرى الاحاديث بلسان اللهجات المختلفة
** لسنا امام كاتبة يغلبها النص ، بل امام كاتبة تكتب بوعى مقصود ، وتختار اللحظات التاريخية بفلسفة عميقة لذا ليس غريبا ان تختار اسماء ابطالها بهذه العناية بحيث يكون لكل اسم رمزا ، رأينا كيف كان اسم البطل الرئيس ( يوسف ) فيه ما فيه من الرمزية ، وكذا عمار الذى يمثل فلسطين الحبيبة ، وإنعام ذلك الاسم الشائع فى مصر ،اما اسماعيل والد يوسف ففيه من الاشارة ما يعنى انه ليس والد يوسف وحسب بل هو والد كل العرب
** وعلى الوتيرة نفسها تضع بين ايدينا اشارات دالة ، فهل يخفى على نابه كيف اختارت صورة قتل اسماعيل والد يوسف بجز رأسه ؟ انها صورة تجسد المهانة فى اذل معانيها ، وكذا صورة اسقاط رأس الرئيس السابق صدام حسين ،
وكم كان الحوار رائعا بين يوسف وانعام الذى اكدت فيه الكاتبة على قدر مصر الكبير باعتبارها اما لكل العرب ،
، ولست اغفل عن روح السخرية من الاوضاع العربية حيث نجد لافتة الفندق بعنوان فندق السعادة ثم مقهى البهجة ، وساحة الفردوس ، ،فأى بهجة واى سعادة واى فردوس نتحدث عنه والاوطان ليست الا خرائب كبيرة ممتدة ، والبهجة ضلت طريقها الى غيرنا ، والسعادة اختفت بين دموع المقهورين والضعفاء ، اما الفردوس فليس امامنا الا انتظاره فى الاخرة
لم يفت الكاتبة ان تتماهى مع قصة النبى يوسف ( تناص ) حيث نراها فى ص ٥٨ تقول على لسان يوسف بطل الرواية : كنت احس انى داخل جب يشبه ذاك الذى رمى فيه الاخوة الذين اعمت الغيرة بصيرتهم اخاهم يوسف ، وانى فى انتظار معجزة تنجينى مما انا فيه ، …..الى اخر الفقرة
** تظل فكرة انسنة الوطن حاضرة فى الرواية منذ السطر الاول الى السطر الاخير
الوطن كأنه رجل يقمع اهله ، ويسحق هامات اهله ، بل ويعتقل اهله وربما قتلهم ،
تقول فى صفحة ١٢٥ بحس ساخر بل بحس متذمر على لسان يوسف متحدثا عن والد سعاد الصحفى الكبير ( سعد الجزائرى ) تقول الكاتبة : تمنيت ان اقبل يده التى ظلت تمسك بالقلم لأكثر من ثلاثين سنة وتتقلب بين مزاج وطن يغير بدلته الرسمية كما يغير الانسان ملابس نومه وغالبا ماتكون على غير مقاسه فاما فضفاضة يبدو فيها باهتا لا تفاصيل له ،او ضيقة تكشف عيوبه ،
وهذه الفقرة ليست الا نموذجا ضمن نماذج كثيرة متناثرة فى صفحات الرواية
ووثيق الصلة بذكر الوطن لابد من الاشارة الى ان مفردة الوطن والاوطان ذكرت عشرات المرات فيما لم تأت لفظة المواطن او المواطنين سوى مرة واحدة فى ص ٢٧ فقط عندما ذكرها واحد من المرشحين فى الانتخابات البرلمانية وكأنه كان مضطرا لقولها : ايها المواطنوان الاعزاء اعدكم ان فزت فى هذه الانتخابات ان ….كذا …وكذا من الوعود ، وهى اشارة ذات مغزى ان يكون الوطن هو الحاضر وان يغيب المواطن ، وكأن الوطن ستقوم له قائمة بغير المواطن ، بل ان هذه الاشارة ليست الا تأكيدا على تهميش المواطن فى كل الوطن
والحقيقة ان كثرة ذكر كلمة وطن لم تكن على سبيل التكرار الممل ، فى كل مرة تأتى مفردة الوطن اما مقترنة بكونه اهان اهله او ظلم اهله او قتل اهله او تنكر لأهله
اللغة
لم يزل الفن الروائى بخير مادام الكاتب يعرف كيف يعبر سردا عن حكايته ،
ولم تزل الرواية بخير ما ظل الكاتب ممتشقا قلما رشيقا يعرف كيف يكتب بلغة ادبية تغاير لغتنا العادية ، وتختلف عن لغة الصحافة المباشرة
والحقيقة بغير مبالغة نحن امام وجبة من لغة ادبية لا تعرف الا الاستعارة والتشبيه والايحاز والتكثيف و اختيار المفردات ذات الظلال الساحرة
لغة مقطرة حتى كادت فى بعض جملها ان تكون حكمة تجرى على السنة الناس ، تقول مثلا فى ص ٢٤١ : كل عربى مشروع مقتول ،كل عربى يحمل قبرا مفتوحا ويتحرك به اينما ذهب ويتوقع ان يقع فيه بين اللحظة والاخرى .
وتقول فى ص ٢٤٤ : كم هى جليلة دموع امرأة لا تبكى زوجا ولا ولدا ..بل تبكى وطنا !
وتقول فى ص ٢٤٦ : الفجائع كالأم الولود ،تنجب لك اخا او اختا عند كل خيبة
،ولست بحاجة الى التأكيد انك واجد فى كل سطر لغة مثل التى سقت لك امثلتها
،وامر اللغة لا يقتصر على نحت الجمل ذات المعانى الساحرة بل يتصل بأمر اللغة ايضا وظيفتها فى التصوير الحى المفعم بالحركة حتى لكأننا نرى الحدث كأنه يقع لتوه ، وهنا اجد من الصعوبة بمكان سوق نماذج اذ الرواية كلها تعد تطبيقا لما ذكرت
الزمن ،
لولا الضرورة الفنية التى اضطرت الكاتبة ان تتخذ من سنوات العشرية السوداء وكذا لحظة سقوط بغداد المؤسفة ، اقول لولا الضرورة الفنية لما احسسنا بأى زمن وقعت هذه الاحداث ، لان ذلك لن يفيد القارئ فى شيئ _ ان يعرف متى وقعت هذه الاحداث _ اذ الحاضر مثل الماضى ونسأل الله وحده الا يكون المستقبل مثلهما ،
لذا لم نجد الكاتبة فى معظم الرواية تتحدث عن يوم بعينه ، او ساعة بعينها ولم تشر الى الليل والنهار الا فى اضيق حدود ،
وفى النهاية ربما يتأبى القلم ان يكتب خاتمة للمقال كما كنت اتمنى الا تنتهى الرواية ، فما اجمل ان تستمع الى كاتب او كاتبة تهمس فى اذنك همسا بأمراض الاوطان فتثير فيك شجنا وحزنا يطهرك من ركام جلد الذات المختبئ فى اللاوعى ،
ما اجمل ان ترسم الكاتبة خريطة حزينة للاوطان ليس من اجل البكاء بل من اجل تشخيص الداء ، ونصف العلاج فى تشخيص الداء





