أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

عبد الغفور مغوار يكتب الومضة كفضاء للفكر: من الإيجاز اللغوي إلى الكثافة الوجودية

في نص "قراءة حرة" ل.. منال رضوان

 

النص: قراءة حرة
القصة الومضة تستدعي مفارقة
هاك مثالًا:
(كنتُ إنسانًا…)
أتُراه يصلح مثالًا؟
لم تتضح الفكرة، أليس كذلك؟
هاك فكرة أوضح
(كنتُ إنسانًا مع وغد)
هنا تكتشف حقيقة:
الإنسان لا يَهزمه الموت،
الخطر لا يكمن في.. كنت
بل في سقوط الكينونة عند مسّ الوضاعة.
تأمّل…
إن النبل لا يُعرَف إلا بظلّه
جوهر الإنسان لا يُفصح عن ذاته…….
……..
………
حسنًا،
فلنختصر الدرس
إليكَ مفارقة أكثر حبكة:
كنتُ إنسانًا أتى من خواء؛
فأجاد الوغد معزوفته من طنين. تمت!
المقدمة
تمثل الومضة الأدبية أحد أبرز التحولات التي عرفها الأدب العربي المعاصر، بوصفها شكلا تعبيريا جديدا يقوم على التكثيف والاختزال، ويعيد تعريف العلاقة بين اللغة والفكرة، وبين القارئ والنص. فهي أكثر من مجرد قصة قصيرة جدا أو بيت شعري نثري، إنها تجربة لغوية متوترة تشعل المعنى دفعة واحدة، وتدع القارئ أمام أثر رمزي يفوق حجمها النصي. من هذا المنطلق، تندرج تجربة الدكتورة منال رضوان في نصها “قراءة حرة” ضمن هذا المسار التجريبي الواعي، إذ تنحت بالاقتصاد اللغوي عالما دلاليا مكثفا، وتستثمر المفارقة والسكوت لتصوغ نصا يقرأ على أكثر من مستوى: تعليمي، فلسفي، ووجودي في آن واحد.
يهدف هذا المقال إلى مقاربة نص “قراءة حرة” باعتباره نموذجا فريدا للكتابة الومضية التي تتجاوز حدود التجنيس الأدبي نحو أفق فلسفي وأخلاقي عميق. وسنعالج ذلك من خلال محاور متعددة تتناول الأسس النظرية للومضة كمفهوم وجنس أدبي، وتفكك بنيتها الداخلية في نص رضوان من حيث المفارقة والاختزال، كما نتوقف عند جدلية الإنسان والوضاعة بكونها لب المعنى الأخلاقي الذي تحمله، لنكشف في النهاية عن الرسالة المضمرة التي تكتبها الكاتبة ضد السقوط الإنساني ومن أجل استعادة الكينونة النبيلة عبر اللغة.
المحور الأول: الومضة كجنس أدبي – نظرية المصطلح وموقع نص “قراءة حرة” فيها
إن مفهوم الومضة الأدبية من أبرز التحولات التي شهدها الأدب العربي المعاصر، إذ مثل ميلادا جديدا للغة تجيد الإيجاز دون أن تفقد عمقها، وتنتصر للكثافة الدلالية على الامتداد السردي. والكاتبة الدكتورة منال رضوان في نصها «قراءة حرة» تدخل هذا الحقل بكثير من الوعي كصانعة رؤية تتوسل شكل الومضة لتقول أكثر مما تسمح به القصة أو القصيدة التقليدية. إنها تستثمر «الاقتصاد اللغوي» لتفتح «اقتصادا في المعنى»، حيث كل كلمة تبدو وكأنها تحمل ما لا تستطيع الجمل الطويلة احتواؤه.
-Iالومضة بين المفهوم والممارسة
الومضة الأدبية ـ في صورتها القصصية أو الشعرية ـ هي نص يقوم على الاختزال الشديد والتركيز المكثف في اللحظة الدلالية، بحيث يحدث صدمة أو كشفا في وعي القارئ. هي تميل إلى القصة القصيرة جدا، إلا أنها ذات بناء دلالي يقوم على المفارقة، والانزياح، والمباغتة. يقول النقاد بأن الومضة لا تروى، بل تلمح، وهي تشتعل دفعة واحدة ثم تترك أثرها الرمزي. من هنا نفهم أن منال رضوان لم تكتب درسا في فن الومضة، بل قدمت ومضة تعلم نفسها بنفسها، إذ يندرج نصها فيما يسميه الناقد الفرنسي رولان بارت بـ “النص الذكي (texte scriptible) “، أي النص الذي يشارك القارئ في صنع معناه.
في «قراءة حرة»، تبدأ الكاتبة بعبارة توهم القارئ بأنها تفتح درسا نقديا أو تأملا تعليميا: “لقصة الومضة تستدعي مفارقة، هاك مثالا: (كنتُ إنسانًا…)”
الافتتاح يشي بخطاب تعليمي، لكنه سرعان ما يتحول إلى خطاب تأملي، فلسفي، وشخصي في آنٍ واحد. فالكاتبة توظف بنية الدرس كقناع سردي، لتخفي خلفه حكاية رمزية عن الإنسان والوضاعة، عن الكينونة والسقوط الأخلاقي. إنها تقدم نموذجا تطبيقيا، لكن هذا النموذج هو في ذاته النص الحقيقي، بينما «الدرس» ليس سوى ستار بلاغي يهيئ المتلقي لتلقي المفارقة الكبرى.
-IIالومضة القصصية والومضة الشعرية: الخط الفاصل المموه
منذ بدايات ظهور هذا الشكل الأدبي، ظل السؤال قائما: هل الومضة فرع من القصة القصيرة جدا، أم من الشعر النثري؟ إن نص «قراءة حرة» يبرهن أن الحدود بينهما وهمية. فالكاتبة تكتب ومضة هجينة تستعير من القصة شرطها البنيوي (حدث مفارقي، تطور، خاتمة صادمة) وتستعير من الشعر أدواته الإيحائية والإيقاعية.
ففي الجملة “كنتُ إنسانًا…”، يفتح الفعل الماضي باب الزمن والذكريات، وهو سلوك سردي بامتياز. لكن سرعان ما يتحول النص إلى خطاب تأملي يعتمد على الإيقاع الداخلي والمجاز، كما في: “الإنسان لا يهزمه الموت، الخطر لا يكمن في.. كنت، بل في سقوط الكينونة عند مس الوضاعة”.
هذه الجملة تبدو ظاهريا سردية غير أنها شعرية في جوهرها، لأنها تقوم على استعارة فكرية وانزياح لغوي. من هنا، يمكن القول إن منال رضوان تنتمي إلى تيار الكتابة التي تذيب الحدود بين الأنواع الأدبية، وتجعل الومضة فضاء لتجريب الوعي قبل اللغة.
-IIIالاقتصاد اللغوي والكثافة الدلالية
أحد أهم خصائص الومضة الأدبية هو ما يسميه غاستون باشلار بما معناه اقتصاد الحلم في الصورة، أي تحويل اللغة إلى لحظة مكثفة تلمع فيها الفكرة كما يلمع البرق في السماء. وفي نص «قراءة حرة»، لا توجد جملة زائدة، ولا تفصيل عرضي، بل كل كلمة تعمل كحجر صغير في فسيفساء المعنى.
لاحظ كيف يختصر السطر الأخير “كنتُ إنسانًا أتى من خواء فأجاد الوغد معزوفته من طنين” تجربةً كاملة في تلاشي الهوية أمام الانحطاط. هذه الصورة الأخيرة تعتبر تجليا رمزيا لا حدثا عابرا، يجمع بين الصورة السمعية (طنين)، والوجودية (الخواء)، والمجاز الأخلاقي (الوغد). إن الاقتصاد هنا ليس في الألفاظ فقط، بل في البنية الرمزية نفسها، إذ تتكثف المفاهيم الثلاثة: الإنسان، الخواء، الوغد، في صيغة موسيقية قصيرة.
الكاتبة توظف علامات الوقف («…»، «؛»، «تمت!») كأدوات إيقاعية تنظم الصمت كما تنظم الكلمة. فالحذف المتكرر «…» يبدو فراغا ولكنه في الحقيقة هو مساحة تفكير للقارئ، حيث يتكفل الذهن بإتمام المعنى. وهكذا تمارس الكاتبة أحد أهم مبادئ الومضة: الكتابة بالسكوت، أي أن تقول أكثر حين تتوقف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى