أخبار عاجلةالرئيسية

الدراما والوعي الجمعي بين مسؤولية الفن وإغواء الترند

بقلم/ طارق مختار سعد (كاتب وناقد)

 

بلغ تأثير الدراما على الوعي الجمعي للمجتمع المصري حدًا بعيدًا؛ فلم يعد العمل الدرامي وسيلة للترفيه، وأصبحت الدراما قوة ثقافية ناعمة تستطيع توجيه قناعاتنا الذاتية، وتحديد الصورة الذهنية عن طبيعة الأشياء التي تتشكل في وعى المجتمع ، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على سلوك الأفراد ونمط حياتهم اليومية، حيث تتلاشى الحدود بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، وتصبح منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع مرهونة بالرؤية الانتاجية التي تحكمها نسب المشاهدة، والفئة التي تخاطبها الأعمال الدرامية بمختلف طرق تقديمها، وهكذا تحولت الدراما من جسر فني وثقافي للتنوير وتطوير الذوق العام؛ إلى مادة مستهلكة تنشغل بالشكل على حساب المحتوى الفني، وأصبحنا نشهد في الآونة الأخيرة تغيُّرات جوهرية في الساحة الفنية، تستدعي طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة هذه النصوص الدرامية، وأهداف صناعها، والرسائل التي يتم تسريبها إلى وجدان ملايين المشاهدين، بهدف التلاعب بمشاعرهم وذوقهم الفني.
وقد شهدت الساحة الفنية مؤخرًا موجة من النصوص الدرامية التي غلبت عليها السطحية وإثارة القضايا الشائكة، بدلاً من معالجة القضايا المجتمعية وتقديم الحلول المنطقية، وهو ما يفسر افتقادها للعمق الفكري والإنساني الذي ميّز الدراما عبر تاريخها الطويل، فقد كانت الدراما المصرية – حتى زمن قريب- منصّة فنية لمعالجة قضايا المجتمع بشكل جاد ومسؤول؛ له وجاهته ومنطقيته، يراعي في طرحه طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده، بعيدًا عن توجه بعض الأعمال المستحدثة التي باتت تُكتب على عجل أو بنظام ورش كتابة السيناريو، وتُبنى على حبكات هشة وشخصيات نمطية تنافي طبيعة الشخصية المصرية الحقيقية، ما أفقدها دورها التثقيفي في مقابل تحقيق الإثارة والجدل، الأمر الذي يحول دون تحقيق الغاية الحقيقية للدراما، وهى معالجة القضايا وتطوير الوعي المجتمعي وتهذيب سلوكه.
يمكننا القول أن أبرز أسباب الأزمة الحالية في صناعة الدراما، هو ابتعاد كُتّاب السيناريو عن النصوص الروائية التي أثرت الدراما المصرية لعقود طويلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أعمال نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، بهاء طاهر، وغيرهم من الذين انشغلت أعمالهم بتقديم محتوى اجتماعي توعوي له أهداف مجتمعية نبيلة، وسرعان ما تراجعت هذه الغايات النبيلة التي تبنتها النصوص الدرامية، وحلّ محلها نصوص سريعة التحضير، مثل الوجبات السريعة، تفتقر إلى القيمة الفنية وتتجاهل البُعد الاجتماعي، وقد خلق هذا التحوُّل فجوة بين الدراما والواقع، وجعلها تبدو مفارقة للواقع الذي نعيشه، فلم تعد الدراما قادرة على أداء رسالتها المجتمعية، بعدما اتجهت بعض الأعمال إلى إثارة الجدل بوصفها وسيلة لجذب الانتباه ورفع نسب المشاهدة، فطرحت قضايا خلافية لا تعبّر عن حقيقة المجتمع المصري، ولا تتفق مع هويته الثقافية أو منظومة القيم الحاكمة فيه، ورغم أنّ تناول القضايا الخلافية أمر مقبول فنيًا واجتماعيًا؛ فإن افتقاد حرفة الكتابة في طريقة تناول هذه القضايا في بعض الأعمال، دفعتها إلى أن تصدم المشاهد وتُحدث ضجة إعلامية تتصدر بها الترند، الذي أصبح أداة أساسية في قياس مؤشرات النجاح، دون النظر إلى الأثر السلبي الذي قد يحدث.
وقد افتتن العديد من المنتجين بهذا الترند، وصار هدفهم الأكبر هو جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدات، مستخدمين الشخصيات المتمردة على الأعراف (البلطجي بكل أشكاله)، والتي تنافي هوية الإنسان المصري، فتحولت الدراما إلى سلعة تجارية تُقاس نجاحاتها بالأرقام دون النظر إلى القيمة، وبتصدر الترند لا بالأثر المجتمعي أو الثقافي، وهذا ما دفع بعض الأعمال الدرامية إلى افتعال الجدل والتركيز على مشاهد العنف، و تهويل الانحرافات، وانتقاء نماذج مشوهة سلوكيًا و أو التركيز على أنماط سلوكية هامشية، لتبدو وكأنها هي الوجه الحقيقي للمجتمع المصري.
نتيجة لهذا التوجه التجاري، نشأت مفارقة حادة بين الواقع الحقيقي للمجتمع المصري والصورة الذهنية التي تقدمها الدراما، تتمثل في تقديم الدراما صورة المجتمع بوصفه مجتمعًا شديد العنف، مُفكك العلاقات، يفتقد الروابط الأسرية، وتغلب عليه النزاعات والانحرافات السلوكية، وهو ما خلق حالة من الارتباك لدى الجمهور، تؤدي إلى تشويه الوعي، ما يقودنا إلى فقدان الثقة في الدراما كليًا، وهو ما ينعكس سلبًا على قيمة الفن ومكانته ورسالته المجتمعية.
أقول، إن الدراما ليست عابرة، بل باقية وذات أثر في تكوين الشخصية وتشكيل الوعى الجمعي للأفراد، حيث تشكل خطابًا ثقافيًا عميقًا يتسلل إلى اللاوعي الجمعي، ويُسهم في تشكيل هويته ومنظومة القيم التي يؤمن بها، وفي ظل ما نشهده اليوم من تحوّلات في طبيعة الأعمال الدرامية، فإن الأمر يستدعي وقفة نقدية جادة تسعى إلى مساءلة الكُتّاب والمنتجين وصنّاع الدراما، لإعادة الفن إلى دوره التنويري والتثقيفي، من أجل تحقيق غاياته الإنسانية، ومنها: الارتقاء بالوعي، وتقديم صورة ناضجة للمجتمع، الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية من التشويه والابتذال، فإن لم تتم صياغة الدراما بوعي؛ تصبح واحدة من أقوى أدوات هدم المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى