د. محمد سعيد شحاتة يكتب قراءة في نص في رثاء المطر المعلق لمنال رضوان
النصوص الجيدة تغري بالتحليل، وتظل تراوغ المتلقي، ولا تتركه حتى تعطيه بعض مفاتيحها رغم أنفه، مشاكسةً له، وممسكةً بتلابيبه، فلا يملك منها فرارًا، ويستسلم لها مرغمًا.
النص ينهض على لغةٍ عالية التوهّج، تتجاوز المباشر الحسيّ إلى التجريد الميتافيزيقي؛ حيث يُرثى “المطر المعلّق” لا كظاهرة طبيعية، بل كرمزٍ لتوقٍ روحيّ مكسور، يراوح بين الخلق والانطفاء، وتبدأ الشاعرة بانفلات الضوء من “وترٍ خفيّ” ليعلن ميلادًا مرتبكًا للمعنى، وكأنّ الوجود نفسه يحاول أن ينطق فيتعثر، وتكرار فعل الانفلات، والتكسّر، والتلعثم، والانسحاب يشي بأنّ اللغة عاجزة عن احتواء التجربة، وأنّ “الفكرة” تتراجع خشية الاكتمال؛ لأن الاكتمال يعني نهايتها، وهذا الانكسار الداخلي يُحيل إلى جدلية الخلق والمعرفة، فالكلمة تُولد من الصمت، لكنها تخاف أن تصير صوتًا صريحًا، ولذلك تختار الغياب على التعيين، وفي هذا المستوى يتحوّل النصّ إلى مرثية للوجود المؤجَّل، وللفكر الذي لا يكتمل؛ لأنه يعي تمامًا هشاشته أمام “حافة الوعي”.
ويتكثّف البعد الفلسفي عبر مشهدٍ كونيّ تتأمّل فيه الجمادات، فالأحجار تنصت بوعيٍ ميتافيزيقي، وتدرك أن “الثقل صلاة للأرض” عبارة تكشف رؤية صوفية ترى في السقوط طاعةً وفي الهبوط حنينًا إلى الأصل، فحتى الضوء، رمز الكشف، “يقف يتأملني” ليعيد السؤال حول ماهية الوعي، هل هو ما نراه أم ما يظلّ متخفّيًا؟ وفي هذا الحيّز يتحوّل المطر إلى استعارة للكشف المعرفي، لكنه “معلّق”؛ لأن الأرض لم تتعلّم بعد “هيئة الارتواء” أي أنّ الإنسان لم يبلغ بعد نضج التلقّي، ولم يتعلّم كيف يفهم النعمة، والسماء التي نسيت “معنى البكاء” رمز لفقدان البُعد العاطفي أو تراجع الحسّ الإنساني.
وهكذا تختم الشاعرة بنبرة رؤيوية تجمع بين الحيرة والرجاء، حيث يصبح الخلقُ نفسه سؤالًا، ويغدو الشعر محاولة دائمة لكتابة نص آخر لا ينتهي؛ لأن اكتماله يعني موتَه.
القصيدة
نصٌ في رثاء المطر المعلّق
١١٨ : ٢٢
لنكتب نصًا آخر(…)
الآن..
ينفلت الضوءُ من وترٍ خفيّ،
يتكلّمُ.. فلا أراه،
يوقظَ الغبارَ من نومِه الأبدي
كليمة كعادتها..
تتكسّرُ على جدارِ الهواء،
اعترافُ الوجود بعثرة أخرى،
صدىً يحاولُ أن يتلعثمَ صوتًا،
يذكّر نقطة..
تتكور في دفترها الأبيض!
في رحمِ المعنى،
تنبضُ فكرة خشية الاكتمال
تنسحب إلى الغيبِ؛
لئلّا تصطدم بحافة وعي
تتركُ خلفها ارتباك الكائن
ما كان(…)
ما سيكون (…)
تُنصتُ الأحجار بانتباهٍ ميتافيزيقي،
تعرفُ أن الثقلَ صلاةٌ للأرض،
أن السقوطَ نوعٌ من الطاعة،
كلُّ هبوطٍ قياس الحنين إلى مركزه
في الدائرةِ المشرعة نحو الفراغ،
يقفُ الضوءُ يتأملني:
الوعيُ ليس ما نراه؛
فلنكتب نصًا آخر
هل خلق النور سؤالٌ؟!
أم رجع يرتد يبحث عن صوته؟
يهمسُ للمطر:
ابْقَ معلّقًا؛
فالأرضُ ما زالت تتعلّمُ هيئة الارتواء،
والسماء ما عادت تذكُر معنى البكاء!
#منال_رضوان
#نص_في_رثاء_المطر_المعلق
القاهرة ١٠ من نوفمبر ٢٥



