د. أحمد ناصر يكتب قراءة في نص منال رضوان رثاء المطر المعلق

النص يفتح أفقًا تأمليًّا عميقًا يتجاوز الصورة الحسيّة للمطر إلى فضاء رمزيّ يتناول علاقة الوجود بالمعنى، والوعي بالنور، والاكتمال بالنقص. تبدأ الكاتبة بانفلات الضوء من “وتر خفيّ”، وكأنّها تشير إلى انبعاثٍ داخليّ لا يُدرك بالحواس بل بالحدس. يتخذ النص منحى صوفيًّا يتأرجح بين الانكشاف والحجب، إذ يتحوّل الغبار إلى كائنٍ يوقَظ من نومه الأبدي، والضوء إلى ناطقٍ لا يُرى، في إشارة إلى يقظة المعنى الغائب ومحاولة الإمساك باللامرئيّ عبر اللغة.
يتكرر في النص حضور المفارقة: النبض خشية الاكتمال، الإنصات الميتافيزيقيّ للأحجار، الطاعة في السقوط، الضوء المتأمل للذات. كلّ هذه الصور تؤسس لعالم رمزيّ ينهض على فكرة التوازن بين الحركة والسكون، الانكشاف والستر، الكلمة والفراغ. اللغة هنا كيان حيّ يتهشّم ويتكوّر، تلد المعنى ثم تتراجع عنه، وكأنّها في صراع دائم مع حدود التعبير.
في ختام النص يبلغ التأمل ذروته: المطر المعلّق يصبح استعارة كبرى للوجود المعلّق بين السماء والأرض، بين المعنى والعدم. الهمس للغيث بأن “يبقى معلّقًا” يكشف وعيًا مأزومًا بالاكتمال، فالتعليق هنا ليس عجزًا بل حكمة تأجيل، إذ لم تكتمل بعد دروس الأرض ولا ذاكرة السماء. هكذا يتحوّل النص إلى رثاء مزدوج: رثاء المطر، ورثاء القدرة على التجلّي الكامل.
الأسلوب متكثّف، محمّل بالصور الرمزية والاستعارات الكونية، تتجاور فيه الفلسفة والشعر، ويغلب عليه نفسٌ وجوديّ شفيف يجعل القارئ في حالة تأمل صامت أمام أسئلة النور والوعي والخلق، دون أن يمنحه إجابات نهائية.
النص
نصٌ في رثاء المطر المعلّق
١١٨ : ٢٢
لنكتب نصًا آخر(…)
الآن..
ينفلت الضوءُ من وترٍ خفيّ،
يتكلّمُ.. فلا أراه،
يوقظَ الغبارَ من نومِه الأبدي
كليمة كعادتها..
تتكسّرُ على جدارِ الهواء،
اعترافُ الوجود بعثرة أخرى،
صدىً يحاولُ أن يتلعثمَ صوتًا،
يذكّر نقطة..
تتكور في دفترها الأبيض!
في رحمِ المعنى،
تنبضُ فكرة خشية الاكتمال
تنسحب إلى الغيبِ؛
لئلّا تصطدم بحافة وعي
تتركُ خلفها ارتباك الكائن
ما كان(…)
ما سيكون (…)
تُنصتُ الأحجار بانتباهٍ ميتافيزيقي،
تعرفُ أن الثقلَ صلاةٌ للأرض،
أن السقوطَ نوعٌ من الطاعة،
كلُّ هبوطٍ قياس الحنين إلى مركزه
في الدائرةِ المشرعة نحو الفراغ،
يقفُ الضوءُ يتأملني:
الوعيُ ليس ما نراه؛
فلنكتب نصًا آخر
هل خلق النور سؤالٌ؟!
أم رجع يرتد يبحث عن صوته؟
يهمسُ للمطر:
ابْقَ معلّقًا؛
فالأرضُ ما زالت تتعلّمُ هيئة الارتواء،
والسماء ما عادت تذكُر معنى البكاء!
#منال_رضوان
#نص_في_رثاء_المطر_المعلق
القاهرة ١٠ من نوفمبر ٢٥



