أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

محمد رضوان يكتب حين نصبح نسخة أعقل مما كنّا

 

قد لا تدرك في أي لحظة تحديدًا أنك نضجت. الأمر لا يأتي على شكل إعلان داخلي ولا كإحساسٍ مفاجئ بالمعرفة، بل يحدث كتحوّل بطيء يتسلل بين أيامك دون أن تلاحظ. ربما تدركه حين تجد نفسك لا ترد بنفس الحدة التي اعتدت عليها، أو حين تتراجع خطوة قبل أن تنفجر، أو حين تكتشف أنك لم تعد تستنزف طاقتك في مواقف كان يمكن أن تجرّك أيامًا من التوتر. أشياء بسيطة جدًا، لكنها تكشف أن شيئًا تغيّر فيك: أنك لم تعد الشخص الذي كنته قبل سنوات.

النضج—في الحقيقة—لا يشبه الكتب ولا المحاضرات. إنه يشبه التعب الذي مررت به، والخيبات التي لم تعرف كيف تتعامل معها، واللحظات التي وقفت فيها وحدك تفكر: “هو أنا ليه أتأذيت بالشكل ده؟”. وفي كل مرة خرجت من تجربة مؤلمة، خرجت وفي داخلك طبقة إضافية من الفهم، ليست حكمة كاملة لكنها وعي خفيف يشبه بقاء أثر جرح قديم. التجربة تُعلّمك بطريقة عملية جدًا: مرةً بأنك لا تستطيع السيطرة على كل شيء، ومرةً بأن بعض الأشخاص لا ينفع معهم حسن النية، ومرةً بأن الصبر ليس ضعفًا كما تخيلت.

ومع كل درس عملي من هذه الدروس، يتغير شكل استجابتك للعالم. تصبح أكثر هدوءًا، ليس لأنك قررت ذلك، ولكن لأنك لم تعد تملك رفاهية الانفعال المبالغ فيه. تعبت بما يكفي لتميل إلى الاقتصاد في الطاقة، فتبقيها لما هو أهم. تتعلم أن تسمع قبل أن ترد، وأن تمشي بعيدًا بدلًا من الدخول في جدال لا ثمرة له، وأن تقبل بأن الحياة ليست عادلة دائمًا، لكنها قابلة للعيش بقدر ما نتوقف عن محاولة السيطرة عليها.

ومن الأشياء الغريبة التي تكتشفها حين تنضج أنك تصير واقعيًا دون أن تفقد حسّك الإنساني. تفهم الناس أكثر، لكنك لا تبرر كل شيء. تقدر مشاعر الآخرين، لكنك لا تسمح لهم بتجاوز حدودك. تصبح قادرًا على رؤية الصورة الأوسع: أن كل إنسان يحمل ما يكفيه، وأن السلوك الظاهر غالبًا له جذر لا نراه، وأن قسوة البعض ليست شخصية بقدر ما هي انعكاس لتجارب لم يعيشوها جيدًا. ومع ذلك، تفهم في اللحظة نفسها أن التعاطف لا يعني البقاء في علاقات ترهقك.

وتجد نفسك تقبل أمورًا لم تكن تقبلها من قبل: أن تخسر شيئًا دون أن تبحث عن سبب، وأن تبتعد عن أشخاص كانوا مهمين، وأن تغلق بابًا لم يعد يناسبك. تقبل لأنك مررت بما يكفي لتعرف أن البقاء في المكان الخطأ أثقل من المغادرة. وأن الوقت لا يعيد ما كسرته العلاقة، لكنه قد يعيد بناءك أنت.

ومع كل خطوة في هذا الطريق، يصبح داخلك أكثر ترتيبًا. الأشياء التي كانت تربكك صارت واضحة، والأشياء التي كنت تلاحقها صرت ترى أنها لا تستحق الركض. حتى أحلامك تتغير: لم تعد تبحث عن المثالي، بل عن الممكن. لم تعد تطلب الحياة الكبيرة، بل الحياة التي تشبهك. وفي هذا التخفف شيء من الراحة، شيء من الصدق مع النفس.

وحين تنظر للوراء، لا ترى بطولات ولا حكمة مفاجئة، فقط سلسلة تجارب—بعضها مؤلم، وبعضها مضحك، وبعضها ثقيل—لكنها مجتمعة صنعت شخصًا أعمق قليلًا، وأهدأ قليلًا، وأقل اندفاعًا بكثير. نسخة من نفسك تعرف أنها لن تفهم كل شيء، لكنها تبحث عن أن تعيش بشكل أوضح. نسخة لم تعد تقاتل العالم، بل تتعامل معه كما هو. نسخة تتعلم كل يوم، ولو بشكل بسيط جدًا، أن تصبح… أعقل مما كانت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى