أميرة عبدالعزيز تَكتُب : عبقرية شكسبير..!
وُلِدَ ويليام شكسبير في مدينة ستراتفورد في إبريل عام 1564 وتُوُفِيَ عام 1616 ، لقد عاش شكسبير في عصر الملكة إليزابيث الأولى التي حكمت إنجلترا في الفترة ((1558-1603 ولأنها لم تتزوج فَسُميت بالملكة العذراء.
كان عصر تلك الملكة العذراء يتميز بصراع بين تصورين مختلفين لنظام الكون والمجتمع، هذا الصراع سَلبَ العصر الإليزابيثي الأول في النصف الثاني منه الكثير من استقراره فكان يتسم بالتوتر سياسياً واجتماعياً، زاد من حدته وصعوبته إنتشار وبائين عام 1592 وآخر عام 1603 تقريباً كان في نهايات حكم الملكة إليزابيث الأولى، بالإضافة إلى تدهور إقتصاد الدولة نتيجة الحروب لعدة سنوات متتالية دامت قُرابة تسع سنوات، فقد كانت سياسة إليزابيث تهدف إلى منح أتباعها الأراضي ومنع المتمردين أن يسمحوا لأسبانيا بإتخاذ قاعدة لهم تهاجم من خلالها إنجلترا، وفي سياق ذلك كان كل شئ مباح من حرق الأراضي وذبح الرجال والنساء والأطفال، مات من الجوع ما يَقرُب من 30.000 من السكان الأيرلنديين، حتى أن الشاعر إدموند سبنسر كتب عن الضحايا ” لقد كانوا في حالة من البؤس حتى أن قُساة القلوب سيرثون لها.. ” يا لوقع نتائج الحروب مدمرة بكل ما تعنيه الكلمة، حتى أن القاسية قلوبهم يشعرون بآلام ضحاياها إنها مآساة مريرة، وبالطبع كل ذلك أدى إلى إفلاس الدولة.
لقد كان التصور القديم يرى أن كل نظام يتكون من درجات حتى تكوين الإنسان نفسه يتكون من درجات بشكل هرمي يكون العقل في قمة الهرم ملكاً مُتوجاً على كل ما عداه والمتحكم في كل الأهواء، إنه يتحكم في كل الأحاسيس والمشاعر الجارفة، العقل وحده هو المتحكم في كل الخيوط والممسِكُ بها تماماً كمن يُحَرِكْ عرائس ماريونت.
أما التصور الثاني أو الجديد فهو وليد عصر النهضة، عصر الإصلاح الديني والذي تتساوى فيه كل أنظمة الكون وجميع الظواهركما تتساوى فيه كل طبقات المجتمع وجميع الكائنات وكافة طوائف البشر، فيرسم بدلاً من الصورة الرأسية للمجتمع صورة أفقية له يتساوى فيها الجميع.
ولو أمعنا النظر في كتابات شكسبير والسر وراء إهتمامه بموضوع واحد له السيطرة الكبرى على معظم كتاباته ويسعى دائماً إلى إيجاد حلول لمعالجته في كل مسرحياته، ألا وهو ضرورة هيمنة وسيطرة العقل على الأهواء التي تسبب في خطر الفوضى وفرض أهمية النظام، وبمعنى أدق أنه يميل إلى التصور القديم الذي يرى في كل نظام وفي الكون كله بما في ذلك الكائنات والبشر كأنهم درجات سُلم أو شكل هرمي قمته العقل المتوج على ما عداه، المتحكم والمهيمن على الأحاسيس والمشاعر، في مقابل التصور الثاني والجديد الذي أودى بإنجلترا إلى التوتر الإجتماعي والسياسي وسوء الأحوال الإجتماعية وانتشار المرض ومن ثَمَّ إفلاس الدولة.
إن العبقري شكسبير لم يُعالج فقط إشكالية خطر الفوضى في مقابل أهمية النظام وضرورة سيطرة العقل على المشاعر في تراجيديا مسرحياته وحتى التاريخية منها، وإنما أيضاً في الكوميديا منها بحيثُ كان يحرِص على جعل البطل يبدو في بداية الرواية عاقِلاً رَزيناً، لكن تبدأ الكارثة العُظمى عِندَما تتغلب الأحاسيس والمشاعر على العقل.
لقد كانت روايات روميو وجولييت، ويوليوس قيصر، وهاملت كل واحدة منهم إنما تمثل حالة إستثنائية خاصة، فعلى سبيل المثال نجد أن هاملت كان يُقَاوم كل المشاعر والأحاسيس الجارفة فكان يصبر ويتأنى بشكل مبالغ فيه مغالياً في التردد والإنتظار بدرجة كبيرة، هكذا كانت شخصية هاملت.
وبالمِثل التراجيديا المتمثلة في مآسي العجز، والفشل، والعناد، والغيرة والحب، والإصرار على طلب أشياء قد تبدو في باطِنها مستحيلة، كل هذه المشاعر المأساوية كانت تتجسد في شخصيات أبطال رواياته المسرحية فكان ماكبث فاشلاً في التغلب على طموحه، وعطيل ضحية الغيرة، وشيلوك يتمادى في العناد ويُصِر عليه، أما الملك لير فكان عاجِزاً يَغلِبه غضبه الشديد وعدم وضع الأمور في نصابها الحقيقي ومن يهتم لشأنه ويُحِبه، من يُخلِص له بالفعل ومن يتظاهَرُ بالحب والإخلاص، كان لا يستطيع كبح جِماح غضبه وكظم غَيظه مما جعله في النهاية يهيمُ على وجهه، بينما أنطونيو فكان ضحية الحب، كل هؤلاء جرفتهم المشاعر والأحاسيس وعجزت عقولهم عن السيطرة على أهواء النفس فكانت الكارثة والمآساة هي النتيجة.
لقد كان شكسبير على قدر كبير من العلم، لم يَكُن مُؤلِفاً عظيماً لمسرحيات دامت قرون وتُدَرسْ في الجامعات المصرية والعربية ليس هذا وحسب بل والعالمية أيضاً.
لقد كانت رواياته تتميز بإنحيازها للجانب الإنساني والنفس البشرية بكل ما تحمِله من معاناه تَنُم عن فنان وكاتِب رُوائي متميز غير عادي، ومن المدهش أنه كان يَعشق إيطاليا وكان يعرِفُها حق المعرفة لدرجة قد لا تتوفر عند المواطن الإيطالي نفسه، كأنه تربطه علاقة وثيقة بهذا البلد الجميل، فمعظم مسرحياته تدور أحداثها في إيطاليا حتى أسماء الشخصيات في الغالب تكون أسماء إيطالية، ونجد أن في مسرحية “هاملت” كان صديقه “هوراتسيو” يفتخر بأنه مواطناً تابعاً لروما وليس مواطناً دانِماركياً.
إن شكسبير وبحق كان عبقرياً مُتَبحِر في النفس البشرية، فيلسوف في تقديم أبطال الشخصيات الروائية المسرحية بكل معاناتها النفسية ومشاعرها وأحاسيسها الجياشة.
أنه وبحق فنان كاتب بدرجة فيلسوف عبقري، فنه وفلسفته لكل العصور.
أوبرا مصر ، دراسات ومقالات