أ.د مصطفى لطيف عارف يكتب الوصف السردي في رواية ( صباغو أحذية الوطن)
الوصف السردي في رواية ( صباغو أحذية الوطن) وارد بدر السالم
سوف نتحدث عن الوصف السردي عند الروائي (وارد بدر السالم) في روايته (صباغو أحذية الوطن), وهو يسرد لنا سلسلة الأحداث التي عاشها الروائي في وطنه العراق و لشد ما يؤلمه وصف الأحداث الدموية من قبل السلطة على أبنائها سواء العائدين من المنافي أو الماكثين فيها حين يطفو كل ذلك في سيل الرواية الجارف الذي يعطي للعراق صورته السوداء القائمة ,والجمال الباقي في تلافيف الروح التواقة لان ترى العراق من جديد بصورته الجديدة , تلك الصورة التي لن تنسى في ذاكرة الأديب وارد بدر السالم , فنراه يقول : ذلك هو الهدف أستاذ علم النفس المستقيل المدعو ليث العربي حفظت شكله وطوله وعرضه من خلال الصور التي زودني بها الرفيق الأشقر , قبل ان أجده هنا منذ بضعة أيام في مقهى ضاجة بالنساء والرجال وغيوم النراجيل وأبخرة رؤوس الشاي والزهورات والاكسبريسو والقهوة ذات النكهة التركية, يدير الآن ظهره إلى الزبائن, يسترسل شعره المفتول على كتفيه ورأسه يتجه إلى قوس مجرى الماء .
تميز أسلوب الروائي وارد السالم بأسلوب يحيل اليوم إلى فن اليوميات أكثر من فن السيرة , فهو يوم ليس ككل الأيام , أو هو احتدام الأيام في دورة زمان قياسية محددة , تتصادم فيها أيام الدكتاتورية مع أيام الاحتلال , وصباحات الألم ساعات الإحباط بأوقات الأحلام بالحياة إلى هذا الحد , شاء الروائي العراقي لإصداره المغايرة عن عادة كتاباته الشعرية بالافتراق عنها خارج الشعر, وخارج الأشكال ,والتقنيات التي إلف الكتابة بها في إصداراته السابقة فروايته (صباغو أحذية الوطن ) سردا يكاد يكون مرئيا,مخترقا بأضواء الذاكرة عن بلده العراق تحديدا ,حيث اللغة هنا بأبسط أشكالها , وليست عبارة (صباغو) على غلاف الرواية سوى توثيق افتراضي فني لهؤلاء , وهنا كناية عن مناسبة لوصف ما يجري في العراق قديما وحديثا , له ما قبله,وما بعده في حياة الزمن,بينما الأيام الشخصية للروائي تجري عميقا في تاريخه الشخصي عبر نهر طويل , فنراه يقول : صرت أراه بوضوح يتحدث مع صباغ الأحذية الذي لم أره من قبل , صباغو الأحذية كثيرون في المقاهي ومثلهم بائعو اليا نصيب والمتسولون والمخبرون السريون وجماعة الرشوة من المفتشين التجاريين العلنيين الذين يجوبون المقاهي والأفران والبارات والمطاعم.
إن ما كتبه المبدع وارد السالم هو تسجيل بأقل ما يمكن من الصفة الأدبية واقل منها الشعرية لكي يقترب أكثر من هذا الواقع الذي اعتقد انه بمجرد تصويره يحتوي على أبعاد شعرية إنسانية وتاريخية على مستوى كبير من الأهمية , لان التاريخ يكتب الآن ,وليس هناك مؤرخون مكلفون وحدهم بكتابة التاريخ ,كلنا نكتب التاريخ ,والتاريخ الحديث هو محصلة كل الكتابات , فكانت عينا الكاتب السالم عدسات لرؤية صور مأساوية نقلها إلينا الراوي بريشته كفنان محترف , فنراه يقول :هذه المرة كانت المطالبات الجماهيرية تستهدف إسقاط النظام في تصعيد خطير, كنا نخشى منه ان تنظم التيارات الإسلامية بعناصرها العقائدية المعقدة , وتثير الحماسة الطائفية والمناطقية عند الرعاع الذين يشكلون قاعدة واسعة في المجتمع وهذا ما حصل أولا عبر الشعارات واليافطات الكثيرة التي برزت بوضوح والتقطتها عدسات الهواتف النقالة التي ترتفع بين الأيدي كالفئران السود في نذير شؤم لم نكن نتوقعه .
ولعل عنوان الرواية ( صباغو أحذية الوطن ) يعد من أهم مفاتيح الدخول إلى عالمها الفني , واستكشاف مكامنها , وسبر أغوارها , وإنارة الأماكن المظلمة فيها , بل حتى الغموض المهيمن عليها , أو على بعض أجزائها ينجلي حينما نلجأ إلى العنوان وندرس بنيته , فيصبح عونا على فهم التركيب الأكثر غموضا وإيهاما من اجل الوصول إلى الدلالة الاشمل في النص الأدبي , واستيعابه ,ولم يخطئ محمود عبد الوهاب حينما سمى العنوان ثريا النص لتألقه , وتشظيه وإنارته للنص , ويعد العنوان منبها أسلوبيا لا يستهان به في النص لما يحمل من بنية دلالية , والنص له دلالته ولغته الخاصة ذات الإبعاد المتعددة, التي يوضحها المبدع السالم , فنراه يقول : يصبغ حذاءه مرة واحدة في الأسبوع وصباغو الأحذية هم عادة من الصبيان العاطلين عن الدراسة الذين يتجولون في المقاهي والبارات والمحال , حذاؤه ذو بوز طويل من النوع القديم , ولم الحظ انه قد غيره,وهنا الذي يشرف النص لا ليضيء ما يعتم منه فحسب ,بل ليوجه القراءة كلها , وهذا ما يفهمه شعراء الحداثة من فلسفة العنونة , وعد العنوان في الدراسات النقدية الحداثوية بنية نصية وليس لافتة مجردة من الدلالة فهو قراءة نصية تستوقف وتوجه بقدر محمولها ذاته , وما تتشكل منه في عملية الكتابة أولا,ومن ثم فهو في أضاءته السبيل التي تتناغم مع القراءة, واعتلائه صهوة النص يسمح بنشر النور اللازم لتتبع الدلالات الحافة للنص ثانيا ,وإذا ما تطرقنا إلى الزمن في الرواية نجده محور العملية الجدلية التي تقوم بتوظيف الأفكار والرؤيات , والتصورات المندرجة ضمن خصائص كل عصر لتميزه عن غيره من العصور ,إذ به يكشف عن آفاق التجارب الإنسانية التي يمكن أن تقف معطياتها عند حد معين , إنما تسعى للبقاء في استمرارية تنأى بها عن الوقوع في ثبات دائم , وذلك عبر إدراكها ضمن بنيات التحول المحتضنة لها , والمتجسدة في مركبه المتناوب الأبعاد , إذ ما من شيء إلا ناله الزمن بجانب من التغير والتبدل , بل إن الزمن هو التغير عينه , وبدونه تبور الحركة وتنعدم الحياة , سيبرز المبدع السالم للشارع الواحد , وللساحة الواحدة , وللنهر وللبساتين , سيبرز لكل صورتين , صورة الماضي , وصورة الحاضر , وستبدو الصورة الأولى القديمة هي الأجمل , فيما ستبدو الصورة الثانية بائسة , وليس السبب مردودا على الاحتلال فقط , فالمسؤول عنه أيضا نظام الحكم السابق ,إذ بدأت الأمور تسوء قبل يوم (9/4/2..3 ), بعقود عدا المعلومات التاريخية عن العراق, وعدا الكتابة عن حياة الناس فيها الزمن الجميل , والزمن القبيح , أي في الستينيات وما بعدها , يقرأ المرء تفسيرا معقولا عن ظاهرة تدمير البلد , لان الكتاب لم يتوقفوا أمامه , وهو ترييف بغداد , فمأساة هذه المدينة بدأت حقا منذ اللحظة التي بدأ فيها الريفيون العراقيون يغزون المدينة , وبدلا من أن تمدنهم المدينة , فقد ريفوها أي حولوها إلى ريف , وهذا هو سر مقتل هذه المدينة في الزمن الحالي , إذ فقدت بذلك دورها الحضاري , وما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا الترييف , ومن ثم الدكتاتور, ولو واصلت المدينة نزوعها المدني , ومدنت الريف والريفيون لأسهمت أسهاما كبيرا في التطور , ولربما كان للعراق دور مهم جدا في العالم العربي ومن خلال النصوص السردية التي قدمها وارد السالم في روايته (صباغو أحذية الوطن) نستنتج ما يأتي :
- إنها رواية سياسية مخابراتية عالجت ظروف ما قبل ثورات الربيع العربي.
- تألفت من ثنائية المخابرات العراقية والعربية والعلمية المتمثلة بالرفيق الأشقر , ومن المعرضة العراقية الداخلية المتمثلة بــ ليث العربي .
- لم يظهر اسم ضابط المخابرات الذي جند للتجسس على الأستاذ الجامعي المتقاعد .
- ظهور المقاهي في الرواية للدلالة على الدول العربية التي قامت فيها الثورات ومنها مقهى العرب , والخرطوم واليمن , وغيرها .
- احتوت الرواية على مجموع من الرموز منها الرفيق الأشقر للدلالة على أمريكا , وليث العربي للدلالة على قمع المثقف , وندى المرأة العراقية الشجاعة .
أ.د مصطفى لطيف عارف
ناقد وقاص عراقي