أخبار عاجلةدراسات ومقالات

الناقد / هشام شوقي أمين يكتب الدلالات السيميائية في قصيدة [ في الطائرة]

للشاعرة / ندى السيد يوسف الرفاعي

قصيدة [في الطائرة ] ص ٤٢٥ في ديوان رفاعيات طبعة الكويت ٢٠٢٢م للشاعرة /ندى الرفاعي ، ومنشورة في مجلة البيان الكويتية عدد 508 نوفمبر ٢٠١٢.

 قصيدة (في الطائرة) تجربة شعرية شفافة وجميلة وفريدة من نوعها نبحر في تحليلها مع رؤية شعرية عميقة ، و متميزة ، ومليئة بالدلالات السيميائية [الدلالية] الرمزية ، وبالغوص في عمق الدلالات النفسي والفكري والجماليات النسقية ، والمقامات السياقية ، نفيء من خلال الاستقراء الشعري بالمعطات الفنية المتنوعة.

■ الرحلة في الطائرة هيَّأتْ للشاعرة رؤية العالم المادي المجتمعي، المليء بالصراعات ، وبالذوات المتضخمة بفعل عناصر المادة الفانية ، رأت الشاعرة كلَّ ذلك صغيراً ، كُلَّما حلَّقت الطائرة إلى أعلى يظهر ذلك العالم أقل صغراً حتى يتلاشى ولا يبقى منه سوى ترديدات الخيال في الذاكرة ، كما تفجر الرحلة المحلقة فوق السحاب رؤية الفضاء الرحب بكثير من معطياته ، التي تجعل المرء يعيش في حالة التأمل والدهشة والانتقال من زحمة الواقع وصخبها إلى هدوء الفضاء مع الإحساس بالفوقية المكانية والنفسية ، ثم تنعكس هذه الحالة المتجدة من دفع الشاعرة إلى قراءة الذات والنفس بشكل عميق لا تشوبهُ المؤثراتُ السلبيةُ ، و تصف الشاعرةُ هذا المنظرَ المدهشَ حيثُ المدن والقرى والشوارع والصحاري، مجرد خيالات لا مرئية بوضوح من بعيد ، وكأن صورة البحر العظيم ، هو الذي يبدو واضحاً لحد ما بعدما دخلت المادة الأرضية في حيز التلاشي ، ويبقى في دائرة الرؤية الواضحة السحاب بحركاته السريعة وقد انعكست عليها أشعة الشمس فأكسبته حمرة واتضح الأفق وأضحى العالم الفضائي الحقيقي واضحاً مدهشاً للرائية، ويسبي عقلها وفكرها ويأخذ بأحاسيسها ومشاعرها إلى منطقة جديدة لم تألفها على الأرض متولدة من التحليق فوق السحاب ، فتتوالد في نفسها أفكاراً ومشاعرَ جديدة مليئة بالتأمل والفلسفة والحكمة والإيمان والألم وقراءة الذات وفلسفة الكون والحياة .

تقول الشاعرة :
● فوقَ السحابِ قياسُ الأرضِ مختلفُ ◇◇ فتستوى هُوَّةُ الوديانِ والشُّرفُ .

حيثُ السماء زهاء الكون مؤتلقٌ ◇◇ وترتمي حمرة أذيالها السُّجَفُ

تختالُ من حولها الآفاق تبهرنا ◇◇أقصى مداها فضاء مالهُ سُقُفُ

بين الغيوم ومن تحت الغطاء بدا ◇◇ يمٌّ رحيبٌ إليه تنتهي الجُرَفُ .

■- تنتاب الشاعرة نزعة تأملية فلسفية مشحونة بالحزن والأسى على من فارقتهم ، ثم تمتزج المشاعر والأفكار بين من تم فراقهم بأجسادهم وأرواحهم ويحيون وقد انقطعت الصلة بهم إثناء الطيران وبين الأموات الذين غيبتهم ظلمات القبور وثمة نوعين من المفقودين ؛ مفقودين أحياء ، – بسبب الفراق- ومفقودين أموات – بسبب الموت- وفي كلتا الحالتين تنتاب الشاعرة مشاعر الهم والحزن على هؤلاء ،وهؤلاء، وثمة أمر جامع بين الحالتين وهو الغياب والفقد ، و المفارقة واضحة وخصوصاً مفارقة الموتى الغائبين، بأجسداهم، والحاضرين بأرواحهم، مما جعل الشاعرة تقول :
《دنيا الغرور لكم نشكو مفاوزها ◇◇نشكو مسافات من غابوا ومن ذَرَفُوا 》.
وتستمر الشاعرة في فلسفة موقفها من الموات والفراق والبعد عن الأحبة ، في حالة من الوعي والإدارك ، فتؤكد أنها بجوار نافذة الطائرة تنظر الى العالم الحقيقي المتلاشي مؤقتاً بسبب علو الطائرة في السماء، وعالم الأموات [الغيب ] المتلاشي دائماً بفعل ارتفعهم إلى الرفيق الأعلى ، ولتداخل المشاعر واضطرابها ينتاب الشاعرة عاصفة من الألم والتوجع النفسي، ثم بكلمة [لو] في قولها [لو كان في وسعنا أشجاننا نصفُ ] ولو حرف امتناع لامتناع يفيد امتناع وقوع الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط وكأنها تريد أن تقول : لو كان في وسعنا الوصف لوصفنا أشجاننا – وثمة استحالة القدرة على وصف الاشجان لعدم تحقق القدرة والإستطاعة على هذا الوصف .
ومع [لو ] وبلاغتها نجد القرآن مع أهل الضلالة وقد رأي كل منهم مقعده يقول كما قال الله: {لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:٥٧] فامتنعت عنهم الهداية، فامتنع أن يكونوا من أهل التقوى، وامتنعت رحمة الله عنهم فامتنع أن يكونوا من أهل الجنة .
على أن [لو ] في استخدام الشاعرة ضرب من المبالغة في المعنى ، وسعة في تأكيد سيطرة الهم والحزن عليها ، ومحاولة الإيحاء السيميائي بشدة الوجد على الراحلين ، وعدم القدرة على وصف الأشجان لأن مصاب الفقد كبير .
وتؤكد الشاعرة على أن غيابهم لنا فيه الصبر والسلوان ،والأحياء الأفذاذ لنا فيهم القدوة والعبرة والعظة وأن الحياة دَوَالِيك [لو دامتْ لغيركَ ما وصلتْ إليكَ ] حكمة كويتية .
مع بقاء فسحة لتلاقي الأرواح وهي منة من الله فالأرواح لاتقيد بل تظل تحوم في دائرة الأحباب .

تقول الشاعرة :
● دنيا الغرور لكم نشكو مفاوزها ◇◇نشكو مسافات من غابوا ومن ذَرَفُوا

جوارَ نافذةٍ يفري بنا أَلَمٌ ◇◇ لو كان في وسعنا أشجاننا نصفُ

حياتنا سفرة درب لنقطعه ◇◇ رِحالنا أبداً سعيٌ له كِفَفُ.

فنقتفي أثر الأفذاذ إنهمُ ◇◇ نبع الحياة إذا ما غيرهم عُجُفُ

وتلتقي بيننا الأرواحُ في سَجَحٍ ◇◇ إذ إنَّ في فسحة الأرواح مؤتلفُ

■- تصفو نفسية الشاعرة من المشاعر المختلط بها فراق الأموات وفراق الأحياء ، وهي فوق السحاب بجوار نافذة الطائرة ، ثم تركز في الواقع بشكل تأملي تخرج من دائرة التأمل بتعجب وتخرج من التعجب بتأكيد أن حياتنا رهينة للرجاء الذي من أجله نسعى لتحقيق أهدافنا.
تبحر خيال الشاعرة متخيلة الأحياء للرائي من نافذة الطائرة وكأن الأرض بها بحر عظيم وكأن البيوت والقصور نوع من الصدف الغالي ، يحوي في داخله النفوس وكأنه الدرر في قولها : [ بحرٌ وإن هاج في قيعانه مُهَجٌ ◇◇ كأنها دررٌ قد ضمها صَدَفُ]

وتؤكد الشاعرة أنها ستكون سعيدة قريرة العين برؤية هؤلاء الأحباب ولقياهم، والإطمئنان عليهم ، وأن لقاءهم يحقق السعادة والراحة النفسية لها . كما تؤكد الشاعرة أن المحبة واللقاء والفراق كلها أقدار بيد الله سبحانه وتعالى .
-وقد استخدمت الشاعرة أسلوب التعجب[ بما التعجبية] تعجب من اجتماع الناس افتراقهم في قولها : [ ما أعجب الدهر بالأيام يجمعنا ◇◇ حتى إذا ما انتهت أوقاتهم أسفوا ]
– وقد استخدمت الشاعرة [لولا ] وهي حرف امتناع لوجود في قولها [ لولا الرجاء لما أسرى بنا هدفُ ] .
فلولا الرجاء (موجود) لَمَا أسرى بنا هدف أي وجود الرجاء سبب للسعي لتحقيق الأهداف .
واستخدمت الشاعرة الجمل البيانية مشبعة بالاستعارات والتشبيهات مثل قولها[ ما أعجب الدهر / تجري بنا رحلة /كأنها درر قد ضمها صدف/ستبقى للمنى قدم] .
كما استخدمت الشاعرة التجنيس بين الكلمات مثل [ صَدَفُ و الصُدَفُ ]

ندى السيد يوسف الرفاعي
ندى السيد يوسف الرفاعي

تقول الشاعرة :
● بحرٌ وإن هاج في قيعانه مُهَجٌ ◇◇ كأنها دررٌ قد ضمها صَدَفُ

نختارُ أحبابنا أم أنه قدرٌ ◇◇ نلقاهمُ مثلما من قبلُ قد عرفوا

ترتاح نفسٌ لمرآهم ورفقتهم ◇◇ ومقلة الغيب لا تعلو بها الصُدَفُ

● ما أعجب الدهر بالأيام يجمعنا ◇◇ حتى إذا ما انتهت أوقاتهم أسفوا

تجري بنا رحلة الإياب مبطئة ◇◇ كأنما أعلنت أعمارنا الصحفُ
بعد الفراق ستبقى للمنى قدمٌ ◇◇ لولا الرجاء لما أسرى بنا هدفُ .

■ – في الثلث الأخير من القصيدة ، تقدم الشاعرة خلاصة تجربتها في رحلتها التأملية الفلسفية الإيمانية بأن العالم تراه من فوق السحاب حقيراً صغيراً وأن مشيئة الله نافذة فيه ، وأننا شغوفين بالحياة لأننا بشر ، ولكن الحياة حبالها قصيرة وأن السعادة والبقاء والخلود والحياة الحقة بجوار رب العالمين ؛ وفي نقلة نوعية إلى الأسلوب الإنشائي وفي مقام الدعاء تدعو للموتى الغُيَّابِ أن يسكنهم الله الجنة وأن يتنعموا بغرفها وتختم القصيدة بالقفلة الشعرية المعروفة لها، وهي الصلاة على النبي وآل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين .

– ولغة الشاعرة فصيحة منتقاة غير مبهمة ولا مستوحشة، و جزلة دالة على المعاني ، مشبعة بالدلالات والإيحاءات السيميائية المتوقدة في وجدان الشاعرة .
– وأسلوب الشاعرة مشع بالعاطفة مشرق متوهج بالبلاغة، مرصع بالمحسانات اللفظية بدون تكلف ولا ركاكة ، ويستم بالرمزية الإيحائية الجزئية المتنامية لتكوين لوحة شعرية كلية تنبض بالحركة والحياة وتعدد الأفكار والشجن وتعدد الدلالات بعضها لمعان قريبة والآخر لمعان بعيدة ، و فيها التعجب والدهشة والتأمل والحكمة والنظرة المستقبلية .
– وموسيقى الشعر رنانة آثرة بموسيقى بحر البسيط المركب والقافية حرف [الفاء] المطلقة بالضم التي يتوالد من تكرارها نغم ساحر يشنف أذن السامعين ويطرب المتلقين .

تقول الشاعرة :
● فوق السحاب حقير شأن عالمنا ◇◇ مشيئة الله لا تسهو ولا تقف

فوق السحاب قصيرٌ حبل غربتنا ◇◇ لكننا بشرٌ أودى بهم شغفُ

صلاةُ ربي على الهادي البشير غدت ◇◇ تسقي العطاش وتروي كلما غَرَفوا
————
ولا يخلو النص من بعض اللغويات التي قد يعز ادراكها على القاريء غير المتخصص مثل
– سجح: السَّجَحُ: لِينُ الْخَدِّ. / وَخُلُقٌ سَجِيحٌ: لَيِّنٌ سَهْلٌ.
– عُجُفُ : بلاخير ولا نفع
: زال السمنُ منه ، وهو أعْجَفُ، وهي عَجْفَاءُ
-الأفذاذ : الأقوياء مفردها- فذٌّ.

■ وفي نهاية القراءة للقصيدة نخلص إلى أن الشاعرة /ندى الرفاعي قدمت تجربة شعرية حداثية في إطار الشكل الكلاسيكي للقصيدة العمودية محافظة على روح الأصالة والمعاصرة والتجديد الشعري .

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى