دراسات ومقالات

دنيا عوض عبده تكتب ألف ليلة وليلة (جودر ) والمسارات الثلاثة

ثمة سؤال مازال يتردد بين الفينة والأخرى ، هل ألف ليلة وليلة مصرية الأصل والمنشأ ..؟!

وأنا أتابع مسلسل جودر المصري للكاتب أنور عبد المغيث ، دار بخلدي ما أوردته في كتابي ” إشراقة نفس ” منذ أكثر من ست سنوات عن ألف ليلة وليلة ، وأن أصلها المصري يرجع إلى الأسرة الرابعة في مصر القديمة (٢٨٠٠ ق .م )، حيث سجلت بردية وستكار (المسماة ببردية المعجزات الثلاث من بلاط الملك خوفو ( إبداعات الكاتب المصري القديم وقدرته وسبقه الخلاق في الخروج من عالم الواقع إلى عالم الخيال ، ووصف خوارق الأعمال في عالم السحر والأساطير ، سابقاً كل ما عداه من إبداعات إنسانية لاحقة .
وقد سجل متن هذه البردية ( المعجزة ) سرد قصصي متسلسل ومتعاقب واحداً تلو الآخر كمثل ما بات معروفاً لدينا في العصر الحديث بقصص ألف ليلة وليلة ، وقصص (البردية ) رويت على ألسنة الأمراء التسع من أبناء الملك خوفو في مجالس سمره والتي كان يجمع فيها الحكماء والندماء و الأدباء والسحرة من معلمي أولاده ، وكان كل أمير يروي في ليلة من ليالي مجلس السمر قصص من قصص معجزات السحر وجولات الفكر في عالم الخيال .
وتكرر الأمر بإبداعاته وشمائله الفريدة مرة أخرى في الأسرة الثانية عشر ( ١٩٩٠ ق . م) ، وقد سجلتها بردية أخرى ( هاريس ) والتي دونت بين ثناياها ما يؤكد السبق الفكري والأدبي من حيث الرؤى والمضامين قبل قصص ألف ليلة وليلة بقرون .
وقد نجح الكاتب المصري القديم في الانتقال – بإبهار ساحر– بعالم الأساطير والخيال والعودة به إلى عالم الواقع الذي يمس حياة المجتمع من جديد ،وهو ما نجح فيه الكاتب المصري القدير أنور عبد المغيث في تطويع الأسطورة وخوارقها للواقع وإشكالاته ، بسلاسة وعمق و تؤدة ، أضفت على الأسطورة جمالاً فوق جمالها ، وعلى الواقع بعضاً من سجاياه الغائبة ، أو لربما التي تم تغييبها..!
ومن الوهلة الأولى أقنعنا صناع المسلسل بأننا إزاء عمل جديد كل الجدة في حرفيته ، مبدع ، ممتع ، فائق الجودة في سرديته ، ولعل النجاح الأكبر يكمن في الحفاظ على الخط الدرامي للسرديات ، واضح الغاية ، محدد الهدف مهما تداخلت سردياته ، فهو يشق طريقه بروية السهل الممتنع ، حيث المنطقية السردية طاغية رغم الأسطورية المفعمة ، وكأن الواقع والخيال ، الأسطورة الساحرة والحكاية الذاعقة ، كلاهما ينهض من مشكاة درامية غلب فيها المنطق على الأسطورة ، أو قل أبدع المؤلف في عجم ما اسميه الأسطورة المنطقية …!
لوحات فنية من الجمال الكلاسيكي والتجريدي والطبيعي ، تتتابع و تتداخل بلا انقطاع ، عجمها الجرافيكس المذهل والممتع الذي أضاف إليها واقعية تجريدية زادت من جمال المشهد وروعة ( اللوكيشن ) وهو ما أضفى على الرؤية البصرية فتوناً وامتناناً ، خاصة نجاح المخرج المدهش إسلام خيري في استخدامه لتقنية الذكاء الاصطناعي فجاءت لوحاته الإخراجية كما يتصورها الخيال فأصبحت وكأنها شيئاً من الواقع فأضفى بلمساته و تقنياته العالية مهابة و فتوناً و روعة على العمل بشكل عام ، من خلال شخصيته المميزة في السيطرة على أدواته الإخراجية فأضاف إلى المتعة الأسطورية ذاك النفس الواقعي النافذ خطوة بخطوة مع الأسطورة المهيمنة .
نقلات سريعة ومبهرة من عالم لآخر في سحر ودلال ينافس – وربما يتفوق – على سحر الساحرة الشريرة ..!
الكاميرا كانت ذكية إلى أبعد حد امتلك زمامها مدير التصوير الفنان تيمور تيمور ، حيث غاص في أعماق المشاهد والشخوص بحرفية الغواص صائد اللؤلؤ الماهر، وقد نجح إلى أبعد حد في نقل الأحاسيس والانفعالات ، الفرح والغضب ، الخوف والطمأنينة ، هالات القداسة وحالات الشر ، سواء كان وجداً وهياماً أو ألاعيب سحرة وشياطين ، ومما زاد من سحر و حضور السردية ، الموسيقى التصويرية للفنان شادي مؤنس التي صعدت برسوخ و عذوبة على درجات السلم الدرامي بالتوازي مع امتلاكها لوتريات درجات السلم الموسيقي ، فاستحالت كل هذه المضامين شخوصاً حية حقيقية تحاكي وتنطق بما عصى على الأفهام و ما لم تتوقعه الأذهان، وهو ما زاد المتعة البصرية والحسية على السواء ، و يرجع الفضل الأول إلى السردية المبهرة للكاتب أنور عبد المغيث الذي أمتعنا بأحداث و حوادث و أساطير حملت على أكفها لمحات من إشكاليات الواقع وهمومه في لوحاتٍ دقيقة ، سريعة وحاسمة.
ولعل المسار السردي المطعم بالصوفية مخلوطاً بالأسطورة و إسقاطه على الواقع بنجاعة و حرفية – فبدا العمل أقرب للحقيقة منه إلى الخيال – هو ماجعله من جنس الأعمال الدرامية عالية القيمة عالمية القامة .
أبطال العمل كانوا أبطالاً فوق العادة ،أخذونا من سحر المؤلف البديع إلى سحر التجسيد المبهر المنيع ، ياسر جلال كعادته أقنعنا إلى أبعد حد ، سواء وهو جودر أو شهريار ، فثبت في وعينا أن جودر ابن البلد لا يدانيه سوى الملك شهريار ابن البلد أيضاً ، وكلاهما اختط مسار ابن البلد بسجاياه و خصاله ، مروءته و نبله ، سواء أكان ذلك بالحارة أو في القصر وهي لمحة ذكية من المؤلف الذي (مصَّر) الملك شهريار كما الراوية شهرزاد ، وقبلهما السردية ذاتها ، حينما أضاف للأسطورة مواجيد صوفية وعلوم فلكية و حكايا مصرية ، (فأغرقنا ) في حالات المروءة والأصالة كما سربل لنا أوكار الخسة والنذالة .
عبدالعزيز مخيون أتقن دوره بشكل مُلفت ، و نور ( الساحرة الشريرة ) أذهلتنا بأدائها التلقائي الساحر ، ياسمين رئيس ( شهرزاد ) كسرت التقليدية والنمطية فجسدت شهرزاد جديدة مصرية لحماً و دماً ، القدير رشوان توفيق والكبيرة إنعام سالوسة و الرائعة وفاء عامر أعطوا زخماً مميزاً للدراما.
غير أنني أجد نفسي أقف عند جيهان الشماشرجي ( شروق ) التي فاجأتني بأدائها السلس الطبيعي غير المصطنع ، فتسللت إلى القلوب ، وأكاد استشعر ميلاد سعاد حسني جديدة .
وبنفس القدر و بذات الحرفية العالية جاء أداء وليد فواز ( سالم ) وفتوح أحمد ( الشيخ عبد الرحيم ) .
مشهد محكم ثلاثي الأبعاد:-
ومن المشاهد العبقرية نصاً و إخراجاً و تجسيداً ذاك المشهد الذي تكالبت فيه كل قوى الظلام من ( الإنس والجن ) لتصنع حالة ميلودرامية أبدعها الكاتب و قننها المخرج رغم تشعب و تداخل هذا المشهد إلا أنه بدا لنا لوحة – رغم بشاعتها – ثرية في تفاصيلها و مرامي عجمها حين تلاقت خيانة الأخوين ( سالم و سليم ) مع شرور الساحرة ( شواهي ) و عماء البلطجي ( شومان ) الذي أدى دوره بحرفية عالية أحمد كشك و كأننا أمام محمود مليجي جديد !!
وبكل هذا التنوع أحكم سيناريو الخط الدرامي رغم السرديات المتداخلة والمتلاحقة ، والعوالم الخفية والظاهرة فنقلنا بجدارة من العبث الدرامي الذي حاصرنا ولا زال سنوات طوال وفي الشهر الكريم تحديداً من دراما أراها مُفلسة لأنها لا تقدم سوى النموذج الممل المتهافت ، حيث ( الخيانة ، تجارة السلاح ، تجارة المخدرات ، تجارة الآثار ، تجارة البشر ، وكل ما هو غير مشروع من سفك الدماء والجريمة المنظمة وقعقعة الرصاص بداعٍ وبغير داع ، وما يؤسف له أن جل الدراما نحت هذا المنحى ، حياة فاسدة شديدة التعقيد ، عفنة كريهة زائفة تسعى إلى ترسيخ هذه الصورة الذهنية البشعة في المحيط العام ، ومن هنا جمال إطلالة جودر من نافذته ، محملاً بهواءٍ نقي يُجلي صدأ النفوس و يغشي الحياة بعودة للأصالة والنبل والمروءة .
جودر أشعرنا بمعالجة اجتماعية لطالما غابت لعقود عن الدراما التي أوغلت فيما سلف ذكره ، وقد نجح المؤلف في عجم رسالته عبر الصورة المثالية لبطله وهو ينثر أقانيم الخير و يصارع بقاع الشر ، ذاك الشر وأهله الذي يلاحق و يحاصر الخير والمروءة على مر الزمان والمكان والذي يسعى جاهداً لطمسها و محوها من الحياة ، فيسن سيوفه ويُشعل مكره في مطاردة لا حدود لها ، وكأني بالراحل كريم العراقي وهو ينشد في موضع مشابه:-
(كل السكاكين صوب الشاة راكضةٌ
لتطمئن الذئب أن الشمل ملتئمُ )
وكم من الذئاب المنفردة و الملتئمة تتربص بالحياة و أناَّ يكون لنا منها فكاكاً ..!؟
ومن اللفتات الباسقة ظهور شيوخ المغاربة بزيهم التقليدي و تصاعد دورهم من حلقةٍ إلى أخرى .. وإن كان لي هنا بعض الملاحظات مع إدراكي أن المؤلف عقلن أسطورته بثلاث مسارات متلازمة :-
المسار الأول :- مسار علوم الأفلاك المُطعم بمسحات صوفية فبدت الأسطورة معها منطقية أقرب منها إلى الحقيقة وتزعمها الشيخ عبد الأحد ، وإن كنت استشعر بعض الاشتباك بين فكر الشيخ عبد الأحد و سلوكه ، فهو صوفي أو روحاني زاهداً على وجه ما ، ومع ذلك يعيش حياة القصور ، ويسعى خلف الكنوز من جهة .
ومن جهة ثانية كم التحرر المبالغ فيه من ابنته و مطاردتها لجودر و ولعها به والذي أراه خارج السياق تماماً ، مثله كمثل المشهد الصادم ، مشهد ذبح الشيخ (وردان) على يد البلطجي ( شومان ) ، والذي لم يضف إلى العمل الدرامي إلا بعضاً من الصدمة لبشاعته ، وكان يمكن الاستغناء عن هذا المشهد تحديداً.
على العموم وفي غالب الظن أن المؤلف ربما أراد تسوية ما ، ما بين حياة القصور المترفة واللاهية وبين مسحة الزهد الصوفي التي زادها غموضاً والتباساً امتهان الشيخ عبد الأحد للسحر واستخدام الجان ، وهو ما جسده بإتقان رائع الفنان أحمد بدير .
أما المسار الثاني :- هو مسار ابن البلد بسجاياه و خصاله ونبله وشرفه ، وهو مسار مسح عنا الكثير من زيف الدراما التي طاردتنا عبر سنوات ماضية وخصوصاً في الشهر الكريم ، حيث أقنعنا بحضوره المُلفت وتنوع انتقاله من مشهدٍ إلى مشهد ومن شخصية ابن البلد جودر إلى شخصية الملك شهريار وفي كل تنقلاته.
والمسار الثالث :- أهل الشر من الإنس والجن ، أولئك الذين لا همَّ لهم سوى مطاردة الخير و التربص به !
في المجمل بدا المسلسل وكأننا إزاء سيمفونية لشتراوس أو فاجنر يعرف كل عازف فيها طريقه صعوداً وهبوطاً على أعتاب و مواجيد الدراما في ارتقائها إلى القمم العالية والتي نرجو أن تتابع صعودها المحمود .
يبقى لي أن أشير بالبنان لتحالف شركات الإنتاج ( المتحدة ، ميديا هب ، أروما ) أصحاب الرؤى المستقبلية التي قدمت لنا هذا العمل الذي لا يقل إبداعاً و إنتاجاً و رسالةً عن الأعمال العالمية الكبرى .

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى