نعيم عبد مهلهل يكتب شوقي عبد الأمير عالم سردية الشعر في كتاب أ.د مصطفى لطيف عارف
بجهد استثنائي وعلمي وجمالي ونقدي يبحر الدكتور الناقد مصطفى لطيف عارف في عالم الشاعر شوقي عبد الأمير عبر منجز كتابي يناقش فيه وبأبواب عديدة منجز الشاعر في رؤاه الجمالية والسردية والتاريخية وتجارب الحياة السفر والاهتمامات ، ومن يقرأ الفصل بدءا من مفهوم الشعرية وحتى قانون الحوار سيكتشف جهدا استثنائيا وغورا عميقا منصفا أجاد فيه الدكتور مصطفى لطيف عارف وهو يناقش الشعرية التي سايرت تجربة شوقي عبد الأمير عبر نبؤة النبوغ الأولى في وطنه ثم المهجر ثم العودة إلى الوطن .
ويختصر تجربة السرد الشعري لدى شوقي عبد الأمير ويقول :ويبدو لي أن الشاعر شوقي عبد الأمير أراد أن يكتب شيئا خارج الشعر.
وأنا أقرأ كتاب الدكتور مصطفى لطيف عارف عن تجربة شوقي عبد الأمير حيث أتوقف عند جانبها السردي أصل إلى أحساس وكانت تجربة شوقي في كل كتبه الشعرية البحث وإيجاد الخلاصة التي تمنحنا القدرة على ان نشعر ان الشعر في أوله مكان وفي أخره رؤية الدكتور مصطفى العارف وسارد يقص علينا حكاياته وتجاربه ورؤاه بصيغة سرد.
لم تكن محاولة شوقي عبد الأمير في المعايشة القسرية مع المنفى سهلة ،لكن الاجتهاد والاندماج والعلاقات التي صنع منها طقوس صالونات الأدب هيأت له مكانا محترما ، جعلته الأقرب إلى أرصفة العودة من آخرين توقعت منهم ان يجيئوا ببغداد حلم نزهة ويعودون إليها والى الناصرية التي كانت في بدأها أبجديتهم وبلوغ تجربتهم والصانع الأمهر في تأسيس موهبتهم.
وقد درس الدكتور مصطفى العارف هذا أثناء دراسته لسردية يوم في بغداد ، حيث نجح المؤلف ليتتبع المشاعر الجديدة التي سكنت الشاعر وهو يواجه تجربة جديدة في العودة إلى وطنه.
وفي محطة مفهوم الشعرية نجح المؤلف في وضع مفهوما علميا وأسانيد لنقاد بلاغة وباحثين قرب فيها مفهوم الشعر بعموميته إلى خصوصية تجربة شوقي الذي ربط تلك المفهومية بفصل عن حياة الشاعر ومحطاته وثيمة نتاجه وعناوين منجزاته ثم تحدث عن الكثير من الذين تحدثوا عن شوقي عبد الأمير وتجربته الشعرية التي يؤكد المؤلف أنها تجربة غنية ومؤثرة تناولها برؤية سيمائية حداثوية ومطبقا عليها الكثير من نظريات والرؤى المتحدثة عن الشعرية بدلالتها ونصيتها وسرديتها ورؤيتها ،وهو بذلك يمهد إلى غور عميق في تجربة الشاعر وقراءتها بمستويات من الأطروحات النقدية والجمالية لم تطرح من قبل ،فهو يناقشها وفق رؤية علمية ولغوية ومنهجية وفلسفية أيضا بدءا من الجرجاني وانتهاء بأود نيس وفي النهاية نجد دلالات الربط ومقاصده واضحة ولكنها مكتوبة بأمانة وجهد كبير .
في كل فصول الكتاب نقدا وتحليلا إجرائيا مهما وجهدا كبيرا في التعقب والتحليل والبحث الواسع في المصادر وما كتب ليس عن شوقي عبد الأمير فقط بل عن نظريات الشعر وتطبيقاته ومفاهيمه وعكسها بوعي ودراية على تجربة الشاعر في شتى اشتغالاتها .
وأخيرا وعبر هذه المقدمة التي تحتاج ان تتطور لتعكس رؤيتها على فصول الكتاب أقول ان الدكتور مصطفى لطيف عارف يكتب هنا مؤلفا مهما عن تجربة شاعر مهم وقد نجح لينتج لنا كتابا نقديا حداثويا ينم عن الفهم والوعي بتجربة شاعر هو الصديق شوقي عبد الأمير.
وبعيدا عن إدراج أمثلة النقد وبنيويته في تفكيك الشعر وإظهار ما فيه من لغة السرد وهي تتحاور معنا أو تخاطبنا ، اقرأ فقط ما أشعره جماليا في التناول عندما يتعامل الدكتور الناقد مصطفى لطيف عارف مع تجربة شوقي عبد الأمير ، وهي حتما تجربة غنية تناولها بحرفة ناقد ومؤلف هذا الكتاب الذي يحتاج إلى دار طبع رصينة جدا ليوصل ما تمناه الناقد أن يَقرا الذين يحبون تجربة شوقي عبد الأمير على أنها جزء من جمالية المشهد الشعري العربي منذ بدايات السبعينات والى اليوم .
تجربة يحللها المؤلف من نافذة مهمة وحساسة وهو يبتعد عن الكثير من مضامين تجربة الشاعر ليأخذ الجانب الأصعب والمهم وهو الجانب السردي .
يقع شعر شوقي عبد الأمير ضمن دائرة الابتهاج الروحي في محاورة المعلن والخفي مما يراه أو يشعر به ،وحتى في محطات المنافي تشعر أن لشوقي عبد الأمير جهة متسعة لقراءة الأشياء من خلال نوافذ الضوء التي تسكن روحه ( بيروت ،عدن ، باريس ، دمشق ، بغداد ، مسقط ، الجزائر ) كلها محطات احتاجت من الشاعر ليكون رحالة وناقته القصيدة ،وفي تلك القصيدة كانت هناك دايلوجات لحديث أشبه بما يكون قراءة لفصول الترحال بين تلك المدن .مكتوبة بهاجس السرد الشعري الذي يتناوله الدكتور مصطفى لطيف عارف بعلمية ورؤية أدبية وقراءة ممتعة في بعض الفصول ، ولكن ربما تختلف عن قراءاتي لجماليات ذات الشعر ،الفرق إنه يضع العبارة ( الشوقية ) على منضدة التحليل والتشريح والقراءة ، وأنا أضعها عند أطياف مخيلة الآلهة والاستذكار والشوق لاستعادة ما ضاع وذهب ونعود إليه .
انتبهت في رؤية الدكتور مصطفى لطيف عارف انه تتبع جانبا مهما من أزمنة الشاعر وحولها لنا إلى قراءة طبوغرافية وبطريقة سرد تاريخي لأنشطة شوقي الثقافية منذ محاولاته الحماسية في تأسيس المجلات الأدبية ومشاريعه الثقافية ، وحتى أشرافه على المشروع الثقافي الكبير ( كتاب في جريده ) مرورا لتأسيسه مجلة البيت ثم أدارته لصحيفة الصباح وملحقها الأدبي كرئيس تحرير ، وانتهاء بإدارته الحالية لمعهد العالم العربي في باريس . وكان نقاش المؤلف مع تلك المحطات التاريخية في حياة الشاعر أنما هي سردا لسيرة ذاتية ولاحقا تشعر ان هذا السرد ينعكس في القراءة التحليلية لهاجس الزمان والمكان في شاعرية شوقي ،وهو ما جعله ظاهرة تتعدد مواهبها ليس شعرا بل ترجمة ونشراً وحضورا فاعلا في أنشطة ثقافية عديدة ، توجتها رؤية الناقد بإشارات وشهادات عديدة من نقاد وكتاب كبار بشأن ما قالوه عن تجربتة وقيمة وشعرية الشاعر والمترجم والناشر شوقي عبد الأمير .
واهم ما في رؤى الناقد هو تحليلاته العلمية الجادة والحادة عن مقتربات المكان والزمان وجعل مسودة ( يوم في بغداد ) رؤية إجرائية ودلالية على استشعار الشاعر بما يحيط به ويحسه ويعيد إليه هاجس المكان الغائب عنه .
العلمية التي اعتمادها الدكتور مصطفى لطيف عارف في تلك المقتربات اعتمدت على منهجية صعبة وتناول دقيق وقراءة حاذقة وان كانت لغتها علمية بحته حيث غاب عنها القارئ الشفاف للتجربة السردية لشوقي عبد الأمير لكنه في النهاية نجح في تحليل الكثير من نتاج الشاعر عبر قراءة حاذقة عبر الرؤية النقدية الأكاديمية لأشعر بالفرق عندما يقرأ الدكتور مصطفى لطيف عارف وبين ما اقرأه أنا ..
انتهى هذا الجزء من رؤيتي وانطباعاتي عن قراءة الدكتور مصطفى لطيف عارف لما يعتقده سردا ساحرا في تجربة شاعر اشعر دوما معه أنه يكتب ليكتشف ما فينا من أزمنة وأمكنة ، وحتى في كتابه الأخير نادو فقد كان يتحدث عن زمن بعيد يخضع لذاكرة الشعر فيتحول سردا عن عودة أخرى لجلجامش ليس من أجل خلود آخر بل من أجل المكان وانكيدو.
يقف الدكتور مصطفى لطيف عارف أمام تجربة شعرية تقرأ بمستويات عديدة ، ويحاول عند تفكيك منجز شاعره شوقي عبد الامير أن يطبق الكثير من نظريات تعلمها ودرسها ويلقيها اليوم على طلبته في قاعات الدرس الجامعي.. وكل الذي يقدمه الدكتور مصطفى في رؤيته يقوم على قراءة النص والتشبع به ثم تحليلة وتفكيكه والدخول الى عالمه الخفي ومضامينه التي قد لايشعرها القارئ في مرات كثيرة.
وأظن أن مهمة الدكتور مصطفى لطيف عارف لن تكون سهلة في معايير النقد ودراسة الشعر عبر رؤيتين هما الباطن والظاهر ،وهنا ينشغل الناقد في رؤية الباطن وممكناته ، ليدرس التجربة الشعرية لشوقي عبد الامير من خلال ابواب كثيرة مستفيدا من معرفية يمتلكها عن محطات الشاعر وتجاربه الحياتية ومدن منافيه ، فهو لايقرأه كنص فقط موجودا امامه في مدونة أو كتاب ، بل يقرؤه معرفة ذاتية وشخصية ، وبهذا يكون ربما قد ناله التوفيق ليصل الى حقائق نقدية وجمالية عن ثيمة السرد التي وجدها عند شوقي عبد الامير كسيرة ذاتية لمنجز وشاعر يدرك تماما انه يكتب قصيدة الموهبة الاولى والوعي ، بل مرات تشعر انه ( شوقي عبد الأمير ) يكتب قصيدة سندبادية توزع اشرعة احلامها على كل مدن الارض تلك التي وطئتها خطواته والتي لم تطئها.
يدرس الباحث في كتابه عوالم شوقي عبد الامير السردية . عبر ناظور دقيق من تتبع مفاصل التجربة وحين يناقشني عن جهده الذي نال منه الوقت الكثير .اشعر انه قرأ شوقي اولا بروح شاعرةٍ ومتمتعةٍ قبل ان يُسقطَ على تجربته تلك الاقتراضات والمداخل والنظريات ليثبت لنا ان شاعرا مثل شوقي عبد الامير هو يعيش حالة صنع الحكاية والصورة والمخيال داخل قصيدة ، وهنا يتفق معي الناقد الدكتور مصطفى لطيف عارف من ان تجربة شوقي هي تجربة وعي وحلم وقراءة لما عاش الشاعر من اجله وحمل حقائب سفره ليكتشف ثم يخضع هنا في هذا المطبوع لرؤية لم تقرأ عن تجربة شوقي عبد الامير سابقا الذي يحسبه المؤلف صاحب ايقاع خاص وتجربة حياتية تسكنه مخاطبة نفسه وهو يتهيء ليقرا جانبَ من تجربة شوقي في ما يعتقدها سرديات تعكس صلة النص وبتجارب الشاعر وحكاياته مع الحياة حيث يعيش وجدان الكتابة عن عارف في تفكيره بتحسّس اللحظة، فيشتاق شوقي عبد الامير ليذهب إليها بقلبه وليس بحذائه الذي صنعه عند اسكافي أتى إلى باريس مهاجراً من ميلانو…
وأظنّ أنّ حذاء شوقي صنعه اسكافي من أور، وبهذا الحذاء ارتدى الشّاعر مغامرة الاغتراب والسفر وتمنّى لو أنّه يعيد كتابة رحلة جلجامش بتربتها الباريسية مثلاً. أو أنّ طيران آدابا في سفره إلى مرابع الآلهة يكتبه صاحب نيدو عبر قهوة الصّباح الجرماني ويحيل لحظتها إلى ما يعتقد أنّها تدين لقصة حب سومرية، وأظنّ أنّه جدير بذلك وربما كلمات نداء يونس شاعرة فلسطينية تحاورت معها كثيرا في المناجاة الشعرية وتجربتها وهي تسقيه خمرة النّبي أسست في مذاق القهوة أو الشّاي أو دخان تبغ المارلبورو نشوة إدراك أنّ الشّاعر مخلوقٌ من قلب قبل أن يخلق من طين.
يسجّل لنا بتجربته سردا وغنائية ومبتكرات بلاغية وبنائية في هيكل القصيدة الفهم العميق لمفهوم استجابة الشّاعر لما يسكن أعماقَه، لهذا القارئ هنا من أوّل (احلام كاهنات أور ) وحتى آخر المزامير يصف لنا شعوراً سحريّاً وجغرافيّاً وعاطفيّاً وذهنيّاً لبيئةٍ تحررتْ منها جماليّة الكتابة والحضارة والاكتشافات، وحرص شوقي في هذا أن ينتظر لأكثر من خمسين عاماً ليعود الآن يتذكّر خربشات موهبته في ابتدائية مدارس مدينته سوق الشيوخ، ويحوّلها إلى فخامة أكسبتها التّجربة فعلاً وبلاغةً وحساً، ومنحته تلك الطّفولة قدرةً مستعادةً ليضع مقولة الشاعر الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل بالشعر سان جون بيرس (إن لم تكن هي الطّفولة، فماذا كان هناك ولم يعد له وجود؟).
كل هذه الرؤى التي يتحسسها الكاتب يسقطها على بديهات الرؤية العلمية التي اكتسبها من تجربته الاكادمية ويحاول أن يطبق الكثير من مفاهيمها العلمية والادبية والنقدية على تجربة ذاتية وسيرة ذاتية وابداعية لشوقي عبد الامير ،وفي المحصلة نجد انفسنا إننا نحتاج الى مفاتيح مشفرات كثيرة وضعها الناقد الكتور مصطفى لطيف عارف داخل هذا الكتاب الذي يحتاج الى قارئ مثقف جدا ليعيش الرؤية والتناول وروح القصد في كل فصول الكتاب التي تعاملت مع شعرية شوقي عبد الامير في منهجية من القراءة والوعي الخاص.
أعتقد أن الدارس هنا اجتهد وتعب ليرينا شكلا مخفيا لم نكن قد رأيناه سابقا ونحن نقرأ الشاعر من اجل متعة النظر الى حدائق اخيلته وعوالمه في صدى صوته ، وكتبه الشعرية والنثرية والتراجم ، او من اجل ان نتعرف على تجربة أبداعية متميزة كانت غائبة عن وطنها لاكثر من اربعين عام .
فنشعر ونحن نقرأ في الكتاب الصعب الذي درس التجربة وفق قياسات شاهول البناء والمسطرة ودقة امتدادها داخل عوالم لم يتطرق الى أي نافذة فيها عدى تلك السرديات التي يحسها جزءا هاما من تجربة الشاعر وهو يسجل اناشيده سيرة ذاتية وحياتية ،وهذا ما اتفقت عليه انا ومؤلف هذا المنجز المهم الموسوم (( شعرية السرد عند شوقي عبد الأمير .. المقولة والإجراء ))..
وفي نهاية هذ العرض الموجز أصل انا والباحث الدكتور مصطفى لطيف عارف الى قناعة صنعها الباحث في رؤيته وعبر ما افترضته مشاركة معه حول رؤية السرد التي جعلها مقولة وإجراء في كتابه هذا عبر تحليل ورؤى ، وفي تلك الرؤى يولد الشّعر مضيئاً مثل فزع الآلهة من حروب الضوء التي يشنها البشر، وحتى تقرأ ما يلهمكَ عليكَ أن تبقى عند مرايا شاعرك الذي تقرأ كتابه الآن لتكتشف أنّ أوّل المشاعر هي المرايا.
لقد وُلِدَ الشّعر كبدء روحيّ لإحساس البشر ونمو قدراتهم الذهنيّة والعقليّة، لهذا فإنّه اشتغال بدائيّ، ولكن تلك البدائيّة كانت مثل نقطة انطلاق عدّاء المارثون، حتى تصل إلى خطّ النّهاية عليك أن تبدأ منها.
أضعُ تلك الرؤيا امتداداً لهذا التأمل الصعب في جهة الأناشيد التي يكتبها لنا شوقي عبد الأمير ويرسلها مسكونة بأداة الدّهشة وما يريد أن يوصله لنا في حداثة بناء النّص وتسويق فكرته كهاجس يتعشّق في مكنونه أولاً ثم يجيء إلينا على متون أشرعة التأليف بنصٍ مسكون بدهشته الروحيّة والزمنيّة لمكان يعرفه كل البشر، من هناك من أرض الأنبياء والكهنة ورعاة المعدان وصاغة قلائد أعراس الأزمنة.