د.محمد فتحي عبد العال
أطرف قضايا الاحتيال من أرشيف الصحافة المصرية
الحلقة الأولى
من أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام في مصر في الماضي ولازالت قضايا النصب والاحتيال والتي تتعدد صورها وتتنوع أشكالها وسيناريو حدوثها ونستعرض هنا بعضا من أشكالها من أرشيف الصحافة المصرية قبل ثورة يوليو عام 1952م .
1-قضية الطبيب المزيف:
القضية الأغرب في أرشيف الصحافة المصرية والمحزنة أيضا .. مهنة الطبيب بلا شك لها رونقها وجاذبيتها تفتح الأبواب الموصدة لأصحابها خاصة إن تعلق الأمر بالزواج ..
لكن من واجب الأسر أن تتحرى وتسأل حتى لا تقع في المحذور ولنا في هذه القصة التي سنسردها عظة وعبرة..في مجلة “المصور” عام 1951م والرأي العام ملتهب إثر إلغاء معاهدة 1936م وإعلان الكفاح المسلح في منطقة القنال والمصريون يتطوعون من أجل قضية جلاء المستعمر عن أرض مصر.. في هذا الوقت كان “علي حلمي شاكر” في شغل شاغل عن كل هذا فقد كان في سباق لبلوغ الرقم القياسي في عدد الزيجات من بنات المجتمع الراقي منتحلا صفة طبيب ومستخدما ما يقرب من إثنين وعشرين اسما ..ومن الحوادث التي ترصدها المجلة وتوضح كيف كان يوقع بضحاياه!!..احتياله على “محمود درويش ” من أعيان القاهرة بينما كانا في أحد صالونات الدرجة الثانية بالقطار المغادر من الإسكندرية إلى القاهرة حيث راح يقص عليه أنه يبحث عن شريكة حياته وشروطه في ذلك أن تكون مثقفة وعلى جانب من الأخلاق العالية ..ظن “محمود درويش ” أنه يستطيع أن يسدي لصديق القطار الطبيب المزيف خدمة و”يوفق رأسين في الحلال “كما يقولون.. فاستضافه في منزله وعرضت ابنته على الطبيب صديقة لها من أسرة كبيرة وتنطبق عليها كافة شروطه وتم الزواج وبعد يومين من الزفاف والدخول بالعروس المسكينة اختفى الطبيب المزيف عن الأنظار وبحوزته مبلغ ثلاثمائة وعشرون جنيها من أموال ابنة مضيفه ” محمود درويش” بعد زيارة لها في منزلها .
أسرع “محمود درويش” وكريمته بتقديم بلاغ أمام اليوزباشي “أمين صبور ” معاون مباحث الخليفة بالقاهرة ..أرسل بوليس “الخليفة” نشرة بأوصاف الطبيب المزيف إلى بوليس “الزقازيق” حيث اتضح أن رجلا بهذا الاسم كان يحترف الطب بلا ترخيص في إحدى القرى التابعة لمديرية الشرقية ثم نزح إلى “الزقازيق” وانتحل اسم “دكتور فكري” وتزوج من أسرة معروفة هناك ثم اختفى كعادته بعدها بأسبوع ليتضح لأسرة العروس أنه محتال ..ويبدو أن نشاط الطبيب المزيف قد اتسع نطاقه عبر محافظات مصر وشمل الأجانب أيضا إذ أنه وفي نفس الوقت تقدمت إحدى الفتيات الأجنبيات المقيمات في بورسعيد ببلاغ إلى البوليس من أنها تزوجت من طبيب مصري يدعى الدكتور ” علي جلال” وأنه أوهمها بقضاء شهر العسل في أوروبا وذهب لحجز مكانين على الطائرة واختفى ومعه حلى العروس .
وتوالت البلاغات سراعا من القاهرة ومنها من تاجر تزوج من ابنته باسم الدكتور “إسماعيل خالد ” وكان يريد إنهاء إجراءات الزواج في عجالة تحت دعوى أن إحدى الهيئات اشترطت عليه أن يكون متزوجا حتى تعينه كبيرا لأطباء مستشفاها ..وكعادة الطبيب المزيف في انتهاك الأعراض تحت ستار الزواج ثم سرقة العروس وفي صبيحة يوم الزفاف ..فر العريس في ساعة مبكرة ومعه حقيبة بها حلى العروس وملابسها وما تيسر من النقود …
تلى ذلك بلاغ آخر من أرملة التقاها في جمعية “الإسعاف” وكانت تعاني من مرض أصابها فتطوع للكشف عليها في منزلها منتحلا اسم الدكتور “جمال حلمي” وبعد أن تفحص جسدها بإمعان.. لم يستغرق الأمر ساعات حتى دخلت في عصمته واستمرت الزيجة تسع ساعات بعدها اختفى ومعه مجموعة من الحلى الذهبية .
ثمة بلاغ جديد أضيف إلى ما مضى بطلته فتاة حديثة التخرج من أحد المعاهد حيث تزوجها باسم “الدكتور على المجبر ” وفي صبيحة ليلة الزفاف سرق ما خف حمله وغلا ثمنه من حلي وثياب وأموال في غفلة من أهل البيت ..
ومع تعدد الجرائم وكلها بنفس السيناريو ولم تسلم منه ثيبات أو أبكارا ،صغارا أو كبارا.. بدأ البوليس يسعى بجد للقبض عليه وهو ماحدث ..حيث نما إلى علم معاون مباحث الخليفة اليوزباشي ” أمين صبور” أن الطبيب المزيف يقيم في منطقة “العباسية” منتحلا هذه المرة اسم وزي أولاد البلد تحت اسم المعلم ” حسنين علي ” المقاول فتم القبض عليه عند إحدى محطات ترام العباسية حيث وقف ضابط البوليس متظاهرا بمطالعة صحيفة في يده ( نفس الحيل في أفلام الأبيض والأسود) بينما يدقق في أوصاف الطبيب المقاول المزيف ثم اقترب منه بهدوء ووضع القيد الحديدي في يد المشتبه به والمحتال لا ينبس ببنت شفة وقد انكشف أمره وأحيط به .
في قسم بوليس “الخليفة” تعرفت زوجاته الضحايا عليه وبتفتيشه عثر في جيبه على مفكرة بها إثنين وعشرين اسما مستعارا ورقم قضية اتهم فيها بالنصب والتحايل على طبيب مشهور بالقاهرة باعه منزلا لا يملكه وتقاضى ثمنه ..طبعا قبض عليه بعد ذلك وحبس ثلاثة شهور في سجن مصر ..والواضح أنه هيئة الطبيب ومكانته أعجبته واستهوت فؤاده ولهذا وبعد خروجه من السجن مارس مواهبه في النصب والاحتيال مجددا كما رأينا تحت ستار الطب..
الطريف أن المحتال توعد زوجاته اللاتي لاحقته لعناتهن بطلبهن في بيت الطاعة واحدة تلو أخرى قبل دخول السجن عقابا لهن على ما وصفه بالمقلب المدبر منهن واتهامه بسرقة أموالهن وحليهن وأن أرباحه من احتراف الطب والبالغة مئتي جنيه شهريا تجعله في غير حاجة لإقتراف مثل هذه الأفعال .
وبمناسبة اسم الدكتور “على المجبر” الذي حمله الطبيب المزيف.. فقد وفر علينا العناء في التمهيد لكارثة الكوارث في مصر وظاهرة الفوضى الطبية ..وحتى نقترب من معالم هذه الكارثة ..تعالوا نقرأ معا اللطائف المصورة في 17 يناير 1916م حيث تصدرت صورة ما نعتته بالشيخ الجليل المعلم “برسوم المجبر” الصفحة الأولى في المجلة ناعية إياه ..وهو صاحب الطريقة البرسومية في جبر العظام وتصليح كسورها ومعالجة المفاصل المخلعة والملتوية والتي توارثها عن أسلافه جيلا بعد جيل وورثها عن أبيه “إبراهيم خير الله” وأورثها من بعده لنجله “يوسف افندي برسوم” ..وبحسب المجلة فقد ذاع صيته وحلقت شهرته بالآفاق طيلة خمسة عشر عاما قضاها في هذه المهنة حتى أصبح مقصدا للناس جميعا على اختلاف طبقاتهم وبيته مزدحما عن آخره لا فرق بين غني وفقير مما رفعه لمكانة كبيرة في كل ربوع مصر حسده عليها كبار الجراحين ممن تخرجوا من مدارس الطب العليا ..كما خلده الفنان نجيب الريحاني في مشهد شهير في فيلم “سلامة في خير” ( إنتاج 1937م) حينما اعتاد أحد الشحاذين المحترفين أن يمد يده بطريقة ملفتة طلبا للصدقة فيقول له “نجيب الريحاني” وقد انتبه لحيلته :”هو انت ايدك تملي كده ..اجيب لك برسوم يعدلهالك؟!” .
أعطني عقلك ..هل هذا مناخ يمنع النصب والاحتيال ؟!..والصحافة والأعلام تحتفي بمنتحلي صفة الطب والعلاج !!بالتأكيد لا بل هو مثال صادق على الفوضى الطبية ..فالمجال الصحي قائم على علم واختبارات ودراسات لا تمارس بالالهام والموهبة ..
قد يعترض البعض على اعتبار نموذج مثل “المعلم برسوم المجبراتي” من قبيل الفوضى الطبية ووجه اعتراضهم أن هذا النموذج من الموهوبين في الطب بالسليقة وقد أثبتوا كفاءتهم وأن الطب في مصر وقتها كان في بداياته ولم يكن هناك عدد كاف من الأطباء المدربين كما أن الإمكانيات المادية لبعض المرضى تلعب دورا هاما وتحول بينهم وبين الذهاب لبعض الأطباء المشهورين في هذا الفن ويضيفون على أوجه اعتراضهم أنه لم يكن هناك قواعد صارمة وملزمة من مصلحة الصحة تحول بين الرجل وممارسة صنعته التي توارثها أبا عن جد ولا اشتراطات بضرورة العمل تحت إشراف طبيب مرخص له وبالتالي فالموهبة في هذه الأزمنة في حد ذاتها ترخيص وارتياد الناس محله للتطبيب دون شكوى هي ترخيص أيضا ..
وأنا أحترم وجهات النظر هذه وأقدر عمل المعلم برسوم ومهارته وأن العيب ليس في بعض الأشخاص وإنما العيب في النظام الذي لم يقنن هذه الحالات ويلزمها بالتراخيص اللازمة والاختبارات واشتراط العمل تحت إشراف طبي وهو دور منوط بمصلحة الصحة التابعة لوزارة الداخلية وقتها لكني أجد نفسي متوقفا عند مفهوم المهارة لمزيد من التفكر والتدبر فمثلا في كتاب” آرثر سيسيل ألبورت”: “ساعة عدل واحدة ” يتحدث عن واقعة رواها الدكتور “ساندوتش” والذي جاء بعد دخول الإنجليز مصر عام 1882م من أن مجبراتي كان يستخدم وسيلة غريبة وعجيبة “لاستعدال ورك مريضة ” فكان يربط ساق المريضة على بطن بقرة نصف جائعة ثم تطعم البقرة حتى يؤدي الانتفاخ التدريجي لبطنها من استعدال الورك وعودته إلى طبيعته الأصلية ..مهارة وموهبة أليس كذلك ؟! ..بالطبع نعم ..والدليل هو النتيجة وعودة الورك لوضعه الصحيح ..لكن هل في هذه المهارة ذرة علم؟! ..بالتأكيد لا ..إذا قس على هذه المهارات الكثير ولا تولي وجهك شطر العلم ..
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
كتاب شج رأس التاريخ