الجميلي أحمد يكتب: أحمد منيب.. أستاذ الأجيال الذي لحّن هوية الجنوب وغنّى لمصر

الجميلي أحمد يكتب: أحمد منيب.. أستاذ الأجيال الذي لحّن هوية الجنوب وغنّى لمصر
حين نُكرّم اسمًا بحجم أحمد منيب، فإننا لا نحتفي بفنان فحسب، بل نُحيي صفحة ناصعة من وجدان هذا الوطن، ونوقظ فينا ذلك النبض النوبي الدافئ، الذي ظل عبر عقودٍ طويلة يُقاوم النسيان بالأغنية، ويُهذّب الذوق بالفن، ويُعلّم الأجيال كيف يكون الفن موقفًا، وكيف تكون الأغنية انتماءً وهوية.
أحمد منيب لم يكن صوتًا جميلًا وحسب، بل كان أستاذًا لجيلٍ كامل من الفنانين الذين تربّوا على يديه، وتشكّلت ملامحهم الفنية في محرابه الإبداعي. كان المعلم الصامت، الذي لا يضجّ بالحديث، لكنه يعلّم بلحنٍ، ويوجه بإيقاعٍ، ويزرع المعنى في كل كلمة تُغنّى على عوده.
هو الذي طوّع النغم النوبي الأصيل ليخاطب الوجدان المصري والعربي بلغة جديدة، وصاغ من تراب الجنوب وارتفاع النخيل وحكايات النيل موسيقى لم تألفها أذن المدينة، لكنها وقعت في القلب من أول نغمة.
غنّى عن الأرض، عن الحب، عن الحنين، عن الغربة، عن مصر… لكنه غنّى قبل ذلك وبعده عن الإنسان.
من ينسى أغنياته الخالدة التي حملت توقيعه وأسلوبه المميّز؟
من ينسى “يا طير يا طاير“ و**”الليلة يا سمرا”** و**”حدوتة مصرية”** و**”أنا قلبي مساكن شعبية”**؟
هذه الأغاني التي صارت جزءًا من وعينا الجمعي، لم تكن مجرد ألحان تُردد، بل كانت دروسًا مفتوحة في الأصالة والكرامة والانتماء.
تعلّم منه محمد منير معنى أن تغني لهويتك، وتعلّم منه علاء عبد الخالق كيف يكون اللحن حكاية، واستلهم منه عشرات المطربين والموسيقيين احترامهم للفن كرسالة ومسؤولية.
لقد كان منيب أبًا فنيًا، لا يفرض أسلوبه، لكنه يترك أثره بهدوء، فيجعلك تعود إليه حتى دون أن تنتبه.
ولم يكن أحمد منيب يعيش على أضواء الشهرة، بل عاش بسيطًا، ومات نقيًّا، كما يليق بفنان حقيقي. لم يكن يركض خلف المهرجانات، بل كان يحتفي بالمقهى الشعبي والحارة والشارع والسمر تحت النخل.
اختار الفن طريقًا للمقاومة، فنحت اسمه وسط الزحام، وحمل صوته من النوبة إلى قلوبنا، بلا ضجيج ولا وسائط.
في هذا المساء الذي نعطره بذكرى منيب، لا بد أن نقول لأجيال اليوم:
هذا الفنان هو من رسم لكم خريطة موسيقى الجنوب، من علّم منير وعلمنا، من سبق زمنه وتجاوز جغرافيته، ليصير أيقونةً للفن المصري في أجمل صوره.
فلنحفظ اسمه، ولنردد أغانيه، ولنواصل رسالته التي لم تكن يومًا محصورة في نوته موسيقية، بل كانت صرخة دفء في زمن اشتدة برودته، وعنوانًا لكرامة الجنوب وصوت الإنسان.
رحم الله أحمد منيب، الفنان، المُعلّم، الإنسان.