دراسات ومقالات

الإمبريالية المعاصرة والازدواجية الغربية: قراءة تحليلية للصراع الإسرائيلي في الشرق الأوسط  

الإمبريالية المعاصرة والازدواجية الغربية: قراءة تحليلية للصراع الإسرائيلي في الشرق الأوسط

 بقلم/ دعاء عبدالنبي حامد

 

مقدمة

دائماً ما يُروج الخطاب الغربي لنفسه بوصفه حاملًا لمشعل الحضارة، والحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. إلا أن النظرة التاريخية المتعمقة، خاصة من منظور شعوب الجنوب العالمي، تكشف عن وجه آخر لهذا المشروع؛ وجه قائم على الإبادة، النهب، التهجير، و”ترويض” الشعوب الأصلية. لقد ارتكبت الإمبراطوريات الغربية عبر القرون سلسلة من الجرائم بحق “أصحاب الأرض”، سواء في الأمريكتين، أو إفريقيا، أو آسيا، تحت مسميات دينية، أو حضارية، أو اقتصادية.

شكّلت الأطماع الاستعمارية الغربية أحد الملامح الجوهرية للحداثة الأوروبية، إذ لم تكن الحداثة الغربية، في جوهرها، مشروعًا عقلانيًا خالصًا أو إنسانيًا شاملًا، بل كانت مشوبة بالرغبة في التوسع، والسيطرة، ونهب الموارد تحت شعارات “التنوير” و”نشر الحضارة”. فمنذ مطلع القرن الخامس عشر، دخلت أوروبا طورًا جديدًا من علاقاتها بالعالم، تحكمه المصالح الاقتصادية، والطموحات الإمبريالية، والدوافع العقائدية، لتبدأ ما يُعرف بالعصر الاستعماري الكلاسيكي. لكن هذه الأطماع لم تنتهِ بانتهاء الاستعمار المباشر، بل أعيد إنتاجها في صور حديثة عبر آليات النظام الدولي، والشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية العالمية.

شكل العنف الاستعماري أحد أبرز السمات المظلمة في التاريخ الحديث، حيث ترافق مع الإخضاع السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والإبادة الرمزية والثقافية للشعوب الأصلية. وبالرغم من تصفية الاستعمار التقليدي في القرن العشرين، إلا أن آثاره البنيوية لا تزال قائمة في بنية العلاقات الدولية والإقليمية، خصوصاً في الشرق الأوسط، الذي بقي أسيرًا لموروثات العنف، والنزاعات المتداخلة. في هذا السياق، يُعد الصراع الإيراني-الإسرائيلي نموذجًا معاصرًا للتشابك بين الموروث الاستعماري والواقع الجيوسياسي المتفجر. فبينما تنغمس القوى الإقليمية والدولية في لعبة النفوذ والتسلح، تبقى المنطقة تحت تهديد دائم بالتصعيد العسكري، بما في ذلك استخدام الأسلحة المدمرة، ما يطرح تساؤلات حرجة ليس فقط حول الأمن السياسي، بل أيضًا حول الأثر البيئي لهذا الصراع الممتد.

يهدف هذا المقال إلى تفكيك بنية “الهمجية الغربية” كما مورست ضد السكان الأصليين، ويحلل امتداداتها المعاصرة في السياسات الدولية. كما يسعى إلى تحليل جذور الأطماع الاستعمارية الغربية، وآلياتها، وتحولاتها، وانعكاساتها على الشعوب المستعمرة. أيضاً يهدف المقال إلى تحليل أوجه التشابه البنيوي والوظيفي بين مؤامر برلين والصراع الإسرائيلي في الشرق الأوسط في ضوء الفكر ما بعد الكولونيالي.

أولاً: الأطماع الاستعمارية الغربية: من السيطرة المباشرة إلى الهيمنة المعولمة

امتدت النزعة الاستعمارية الغربية عبر التاريخ، متخذة أشكالًا متعددة، بدءًا من الاحتلال المباشر وصولًا إلى فرض الهيمنة العالمية بوسائل اقتصادية وثقافية. ويمكن تتبع جذورها من خلال العوامل الاقتصادية فمع نهاية العصور الوسطى، بدأت أوروبا الغربية في الانتقال نحو الاقتصاد الرأسمالي، وهو ما أدى إلى حاجة متزايدة للأسواق الجديدة والمواد الخام. وقد شكّلت القارات “المكتشفة” مجالًا حيويًا لهذه الأطماع: الذهب والفضة من أمريكا اللاتينية. العبيد من إفريقيا. التوابل والمنسوجات من آسيا.  والعوامل الفكرية التي رسختها حيث استند المشروع الاستعماري إلى رؤية استعلائية للعالم غير الغربي، تمثّلت في: الخطاب التبشيري المسيحي. التقسيم العرقي للبشر بين “متحضرين” و”متوحشين”.

لم تكن السيطرة الغربية على الشعوب مجرد نتيجة للقوة العسكرية، بل جاءت نتيجة تكامل وسائل متعددة كالاحتلال العسكري المباشر؛ كما في الهند، والجزائر، ونيجيريا، حيث فُرض النظام الغربي بالقوة. والاستيطان السكاني؛ كما في فلسطين، والكونغو، وجنوب إفريقيا، وأستراليا، حيث أُقصي السكان الأصليون لصالح المستوطنين. والتحكم الاقتصادي عبر الشركات الغربية؛ مثل شركة الهند الشرقية البريطانية، التي كانت تمثل تحالفًا بين رأس المال الخاص والدولة الإمبريالية. والتقسيم الجغرافي المصطنع؛ كما حدث في مؤتمر برلين (1884-1885) لتقسيم إفريقيا، مما ولّد أزمات حدودية دائمة.

مؤتمر برلين والهيمنة الإمبريالية

يمثل مؤتمر برلين لحظة مفصلية في التاريخ الإمبريالي الغربي، حيث تمّ رسم خرائط إفريقيا على طاولات الدبلوماسية الأوروبية بعيدًا عن إرادة الشعوب الأصلية. وقد جاء هذا المؤتمر في سياق صعود القومية الأوروبية والرغبة في السيطرة على الموارد الطبيعية والأسواق الجديدة. وتمّ تبرير هذا السلوك بخطاب التمدين ونشر الحضارة، بينما في الحقيقة كان الهدف الحقيقي هو بسط النفوذ واستغلال الثروات.

الخصائص البنيوية للموقف الغربي في برلين؛ الإقصاء التام للآخر: لم تُدعَ أي جهة إفريقية للمؤتمر، ما يدل على غياب الاعتراف بالسيادة أو الإنسان الإفريقي. مركزية المصالح الاقتصادية: تم تقسيم القارة وفقًا للموارد المتاحة، والموانئ الاستراتيجية، ومواقع النفوذ العسكري. إنتاج خطاب تبريري: كالخطاب “التحضيري” الذي منح الأوروبيين مبررًا أخلاقيًا زائفًا للغزو والاستيطان.

منذ لحظة الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر، بدأ العقل الغربي في بناء ثنائية “الإنسان المتحضر” في مقابل “الآخر المتوحش”. وقد تم استخدام هذه الثنائية لتبرير الحملات الاستعمارية وإضفاء طابع أخلاقي على الغزو والاستعمار. استخدام مصطلح “الهمجي” في الخطاب الغربي: تم وصف سكان أمريكا الأصليين بأنهم “برابرة” لا يعرفون الزراعة أو التنظيم السياسي. الشعوب الإفريقية وُصفت بأنها تعيش في “ظلام ما قبل التاريخ”، تفتقر إلى العقل والدين. لكن المفارقة الكبرى أن أكثر الأفعال دموية ووحشية من إبادة، وعبودية، واغتصاب جماعي – ارتكبها من وصفوا أنفسهم بالمتحضرين.

وصل الأوروبيون إلى العالم الجديد في نهاية القرن الخامس عشر، ولم تمر سوى عقود قليلة حتى تراجعت أعداد السكان الأصليين نتيجة القتل، العبودية، والأوبئة التي جُلبت عمدًا أو عن جهل. ومن بيم هذه الجرائم: إبادة شعوب الأزتك والمايا على يد الإسبان. تهجّير قبائل الشيروكي في أمريكا الشمالية.  إنشاء “المدارس الداخلية” التي انتُزِع فيها الأطفال الأصليون من أسرهم بهدف “إعادة تأهيلهم” وفق النموذج الأبيض.  يصف المؤرخ David Stannard هذه الحقبة بأنها “الهولوكوست الأمريكي”، وهو تعبير يُحيل إلى الإبادة لا كحالة استثنائية، بل كمنهج ثابت في السياسة الاستعمارية.

مارست القوى الغربية في إفريقيا نمطًا مركبًا من العنف: العبودية العابرة للأطلسي، الاستعمار المباشر، والإبادة الثقافية. فكان من أبرز الممارسات الوحشية تجارة العبيد التي اقتُلعت خلالها مجتمعات كاملة من أوطانها. تقسيم القارة في مؤتمر برلين دون مراعاة لأي حدود اجتماعية أو ثقافية. وكان المنطق الكامن وراء هذه الوحشية هو رؤية إفريقيا كخزان للثروات وكمكان فارغ بحاجة إلى “حكم خارجي”.

لم تقتصر الهمجية الغربية على العنف الجسدي، بل استُخدمت أدوات ناعمة لإعادة تشكيل وعي الشعوب الأصلية: المدارس التبشيرية: التي هدفت إلى “تنصير” الشعوب الأصلية ومحاربة لغاتها وثقافتها. الإعلام العالمي: الذي يرسّخ صورة “الغرب المخلص” في مقابل “العالم المتخلف”. النظام الدولي: الذي يُقنن التمييز عبر مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، ومجلس الأمن، حيث تُمنح القوى الغربية حق “الفيتو” على قرارات البشرية.

مع تراجع الاستعمار المباشر بعد الحرب العالمية الثانية، لم تنتهِ الأطماع الغربية، بل تحولت إلى نمط أكثر مرونة يُعرف بـ “الاستعمار الجديد” أو النيوليبرالية الاستعمارية: الهيمنة المالية؛ فرض برامج “الإصلاح الاقتصادي” عبر صندوق النقد الدولي. تحويل الدول النامية إلى أسواق للديون، وإخضاع قراراتها للتمويل المشروط. الاختراق الثقافي؛ تصدير النموذج الغربي كمرجعية وحيدة للحداثة والتقدم. استبعاد الثقافات المحلية وتهميش اللغات الأصلية والتعليم التقليدي.  التدخل السياسي باسم الديمقراطية؛ التدخل العسكري أو السياسي كما في العراق، وليبيا، وأفغانستان. دعم أنظمة موالية مقابل قمع تطلعات الشعوب. نهب الموارد باسم الاستثمار؛ عبر الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل الثروات الطبيعية دون عوائد عادلة. خصخصة القطاعات الحيوية كالمياه والطاقة والصحة.

فلسطين وأفريقيا نموذجًا مستمرًا للأطماع الغربية

  1. إفريقيا؛ استمرار النهب عبر شركات التعدين والنفط. دعم أنظمة استبدادية تضمن مصالح الغرب. تجديد السيطرة عبر “المساعدات المشروطة” والاتفاقيات غير المتكافئة. في ظل تصاعد القوى الجديدة مثل الصين وروسيا، تجد القوى الغربية نفسها في حالة “عودة استعمارية” للقارة الإفريقية. لكن هذه المرة من خلال؛ القواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية. الاستثمار في الزراعة والمياه تحت غطاء التنمية. الحروب بالوكالة والتدخلات الناعمة.
  2. فلسطين؛ إقامة دولة استعمارية على حساب أصحاب الأرض بدعم غربي واضح. حماية دولية لإسرائيل رغم انتهاكاتها المتكررة. التعامل مع الصراع كملف أمني وليس كقضية تحرر وطني. في الحالة الفلسطينية، يتكرر السيناريو الكولونيالي ولكن بأسلوب حديث. دولة قائمة على فكرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” نُظّمت برعاية القوى الغربية، في تجاهل تام لحقوق سكان الأرض الأصليين

ثانياً: العنف الاستعماري والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الإسرائيلي الإيراني

أولاً الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

منذ نكبة عام 1948، وما أعقبها من احتلال واستيطان وتطهير عرقي، تتبنّى “إسرائيل” سردية تقوم على كونها “دولة صغيرة محاطة بالأعداء”، لتبرّير سياساتها العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، وتبرر بها القتل الجماعي، والحصار، والاعتقالات، وتدمير البيوت، بوصفها “دفاعًا عن النفس”. لكن، كيف يمكن لكيان استعماري استيطاني أُنشئ بالقوة على أرض مغتصبة أن يدّعي أنه في موقع دفاع؟ كيف يمكن للمعتدي أن يصوغ نفسه كضحية، ويطالب العالم بالتعاطف، بينما يواصل سحق السكان الأصليين؟ إنه تناقض أخلاقي وسياسي.

 العنف الاستعماري؛ يُفهم العنف الاستعماري بوصفه ممارسة ممنهجة لإخضاع الشعوب ونهب مواردها. وقد جسّدت القوى الاستعمارية، البريطانية والفرنسية على وجه الخصوص، هذا العنف في منطقة الشرق الأوسط عبر ترسيمات سايكس- بيكو، والدعم غير المشروط للمشروع الصهيوني في فلسطين. تُعد الحالة الفلسطينية أبرز مظاهر العنف الاستعماري المستمر، حيث ارتبط تأسيس إسرائيل بمنطق الإحلال الاستيطاني، بما فيه من تطهير عرقي، وسياسات الفصل العنصري، وتدمير البيئة الطبيعية. وقد تم ذلك بدعم استعماري غربي، ولا يزال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمثل جرحًا مفتوحًا يُغذي توترات المنطقة بأسرها.

تختلف “إسرائيل” عن أشكال الاستعمار التقليدي؛ فهي لا تسعى إلى استغلال الشعب الفلسطيني كقوة عاملة، بل إلى إحلال شعب محل آخر. هذا ما يجعلها نموذجًا صريحًا للاستعمار الاستيطاني، الذي يقوم على الطرد والإقصاء لا على الدمج. في هذا السياق، فإن “الدفاع عن النفس” يصبح حيلة لغوية، ومراوغة قانونية. ذلك أن الكيان الإسرائيلي نفسه قام على نفي وجود الفلسطيني. الضحية الأصلية تُقدّم للعالم كتهديد وجودي! كل مقاومة فلسطينية تُصوَّر على أنها إرهاب، بينما يُشرعن قتل المدنيين باسم “الأمن القومي”.

الهمجية الممنهجة تحت غطاء القانون الدولي؛ لطالما استندت إسرائيل إلى دعم غربي سياسي ودبلوماسي، جعلها في موقع فوق القانون. وهذا ما مكّنها من ارتكاب جرائم ممنهجة، منها قصف المدنيين في غزة، واستخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا. الحصار الخانق والذي يشلّ الحياة الاقتصادية والإنسانية لمليوني إنسان. الاستيطان المستمر في الضفة الغربية، وتقطيع أوصالها بالحواجز والجدران. الإعدامات الميدانية بحق الأطفال والنساء، بذريعة “الاشتباه”. ورغم تقارير المنظمات الدولية التي وصفت السياسات الإسرائيلية بـ “الفصل العنصري”، فإن الخطاب الغربي ما زال يمنح “إسرائيل” غطاءً أخلاقيًا وسياسيًا، باسم “حق الدفاع عن النفس”.

على الرغم من أن الخطاب الذي يُروّج لإسرائيل كواحة ديمقراطية وسط “صحراء استبداد”، فإن الممارسة الواقعية تكشف؛ نظام فصل عنصري داخلي بين اليهود وغير اليهود. تمييز في القانون والإسكان والتعليم والعمل. إعادة إنتاج خطاب التفوق العرقي بشكل مباشر أو ضمني. بذلك، فإن إسرائيل لا تُمثّل استثناءً في السياق الاستعماري، بل هي امتداد حيّ للمنطق الغربي نفسه: الهيمنة بالقوة، وتبرير الجريمة باسم الحضارة.

إن أكبر مفارقة أخلاقية وسياسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تكمن في قلب الحقائق: المستعمِر يتقمص دور الضحية، والمقاوِم يُجَسَّد كإرهابي. لكن التاريخ لا يُمكن تزويره إلى الأبد. فـ”الدفاع عن النفس” لا يُمارس من دبابة على طفل، ولا من طائرة F16 على مخيم لاجئين. الهمجية ليست في صواريخ محلية الصنع، بل في قصف البيوت على رؤوس ساكنيها. الهمجية ليست في الحجارة، بل في نظام عنصري لا يرى في الفلسطينيين سوى أرقام يجب تقليصها. الهمجية الحقيقية، هي أن تدّعي النقاء بينما تسبح في دماء شعب بأكمله.

يتشابه الاستعمار الإسرائيلي كثيراً مع الاستعمار الكلاسيكي من خلال الاستيطان الدائم مع طرد السكان الأصليين (نكبة 1948، نكسة 1967). وبناء الجدران، والحصار، والإغلاق كممارسات استعمارية حديثة. الحماية الغربية (خصوصًا الأمريكية والأوروبية) للجرائم الإسرائيلية تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”. يرى مفكرون مثل إدوارد سعيد أن القضية الفلسطينية تعكس كيف يُعاد إنتاج منطق الهمجية الغربية حتى في القرن الحادي والعشرين.

ثانيًا: الصراع الإيراني-الإسرائيلي كأزمة جيوسياسية بنيوية

 الجذور الأيديولوجية والسياسية؛ تتجذر المواجهة بين إيران وإسرائيل في اعتبارات أيديولوجية (الثورة الإسلامية مقابل الصهيونية)، وسياسية (الهيمنة الإقليمية، والتحالفات الدولية). فإيران ترى في إسرائيل قوة احتلال غير شرعية، بينما تعتبر إسرائيل البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا.

الأبعاد العسكرية والتسلح الاستراتيجي؛ شهدت العقود الأخيرة تصاعدًا خطيرًا في الاستعدادات العسكرية لدى الطرفين، حيث تمتلك إسرائيل ترسانة نووية غير مُعلنة رسميًا، بينما تسعى إيران إلى تطوير قدرات ردع استراتيجية تشمل الصواريخ الباليستية، والطائرات المسيّرة.

الدور الأمريكي في تأجيج الصراع؛ تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في دعم إسرائيل عسكريًا وسياسيًا، ما يعمّق العداء الإيراني. وقد أدّى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018 إلى تصعيد خطير زاد من احتمال نشوب مواجهة مباشرة أو عبر الوكلاء في المنطقة. لم يكن الصراع الإسرائيلي الإيراني صراعاً تقليدياً بل له عدة تداعيات على منطقة الشرق الأوسط بأكمله ومن أبرز تلك المخاطر:

المخاطر السياسية للصراع الإيراني-الإسرائيلي

  • احتمالية انفجار مواجهة شاملة؛ مع كل تصعيد، تبرز مخاوف من انزلاق الوضع إلى حرب شاملة تشمل الخليج، ولبنان، وسوريا، والعراق، وربما البحر الأحمر. وهذا من شأنه أن يعيد رسم خرائط التحالفات الإقليمية ويهدد الاستقرار الدولي.
  • انهيار الاتفاقات الإقليمية الهشة؛ حيث يشكل استمرار الصراع خطرًا على مشاريع التعاون الإقليمي مثل “الاتفاقيات الإبراهيمية”، ومحادثات إعادة دمج إيران في النظام العالمي. كما يؤدي إلى تراجع فرص التنمية والتحول الديمقراطي في دول المنطقة.
  • تصاعد التطرف وعدم الاستقرار الداخلي؛ حيث توفر حالة الصراع المستمر بيئة خصبة لتصاعد الخطابات المتطرفة، وتحركات الفصائل المسلحة، ما يزيد من هشاشة الدول الهشة أصلًا مثل لبنان واليمن وسوريا.

الأثر البيئي للأسلحة المدمرة في النزاعات الحديثة

  • التلوث الإشعاعي والأسلحة النووية؛ يشكّل استخدام أو حتى مجرد التهديد باستخدام الأسلحة النووية كارثة بيئية ذات مدى طويل. فالتسرب الإشعاعي قد يؤثر في المياه الجوفية، والتربة، والغلاف الجوي، لمساحات شاسعة خارج حدود الدول المتنازعة.
  • تدمير البنية الطبيعية والهيدرولوجية؛ أظهرت النزاعات الحديثة، كما في العراق وسوريا، أن القصف الجوي والمستودعات العسكرية يؤثران على الأنهار والبحيرات، ما يؤدي إلى التصحر وتدمير الأنظمة البيئية. وفي حال حدوث حرب بين إيران وإسرائيل، فإن بيئة الخليج العربي ومياه البحر المتوسط ستكون في مرمى التدمير.
  • التصعيد البيئي غير المرئي؛ من أخطر الجوانب أن بعض الأضرار البيئية تحدث بصمت، مثل التلوث بالمعادن الثقيلة، أو تراكم الغازات السامة، وهي مظاهر لا تُرصد بسهولة ولكنها تؤثر بشكل خطير على الصحة العامة للأجيال القادمة.
  • الخليج العربي كمنطقة هشّة بيئيًا؛ يُعد الخليج العربي من أكثر المسطحات المائية هشاشة، ويعاني من ارتفاع درجات الحرارة، ونقص التنوع الحيوي. وتعرضه لهجمات عسكرية أو تلوث إشعاعي سيؤدي إلى نتائج بيئية مدمّرة، تهدد الأمن الغذائي والمائي لدول مجلس التعاون الخليجي.
  • حوض المتوسط وتهديد التوازن البيئي؛ تمتد آثار الصراع أيضًا إلى البحر المتوسط، حيث يمكن لأي استخدام عسكري واسع أن يهدد الأحياء البحرية والتوازن البيئي الهش على السواحل اللبنانية والفلسطينية وحتى القبرصية.
  • اللجوء البيئي والهجرة القسرية؛ يؤدي التدهور البيئي الناتج عن الحروب إلى تفاقم ظاهرة الهجرة القسرية، ليس فقط أسباب سياسية، بل أيضًا بسبب فقدان مصادر الحياة، وتدمير الغابات، والمياه، والمراعي.

إن الصراع الإيراني-الإسرائيلي لا يمكن اختزاله في بعد عسكري أو سياسي فقط، بل يجب النظر إليه ضمن سياق أوسع من الاستعمار، والعنف الرمزي، والتحديات البيئية العالمية. فالتصعيد المستمر لا يهدد فقط السيادة والأمن، بل يتجاوز ذلك ليطال مقوّمات الحياة ذاتها في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة.

ثالثاً: التقاطع الإمبريالي وتشابه الموقف الغربي من الحرب الإسرائيلية الإيرانية ومؤتمر برلين لتقسيم إفريقيا

رغم الفارق الزمني والجغرافي بين مؤتمر برلين والحرب الإيرانية الإسرائيلية، إلا أن المقاربة الغربية لهما تنبع من ذات البنية الذهنية: بنية كولونيالية تؤمن بتفوق الذات الغربية وشرعية تدخلها.

  • الاستبعاد الرمزي والسياسي للآخر؛ في برلين، أُقصيت إفريقيا كموضوع سياسي. في الصراع الإيراني الإسرائيلي، تُختزل إيران في خطاب “الشر المطلق” دون الاستماع لصوتها السياسي أو التاريخي.
  • المركزية الأوروبية/الغربية في رسم السياسات؛ تم رسم حدود إفريقيا دون الرجوع إلى أهلها. يتم تحديد مصير الصراع في الشرق الأوسط عبر مؤسسات وهيئات دولية تتحكم فيها القوى الغربية.
  • التبرير الأخلاقي للاستعمار والتدخل؛ تمّ تسويغ الاستعمار تحت ذريعة “تمدين الشعوب المتخلفة”. اليوم، تُبرّر العقوبات والتدخلات والتسليح بذريعة “حماية الديمقراطية” أو “محاربة الإرهاب”.
  • الهيمنة على الموارد والجغرافيا الاستراتيجية؛ في الحالة الإفريقية، كان الهدف السيطرة على الذهب والمطاط والماس والممرات البحرية. في الحالة الإيرانية الإسرائيلية، يدور الصراع حول الطاقة (النفط والغاز) والتحكم في مضيق هرمز، والتوازن العسكري في الخليج.

إن التشابه بين الموقف الغربي من الحرب الإيرانية الإسرائيلية ومؤتمر برلين لتقسيم إفريقيا ليس تشابهًا عرضيًا، بل هو نتاج بنية ذهنية استعمارية ما زالت تؤثر على السياسة العالمية حتى اليوم. وبينما غُلف الاستعمار القديم بخطاب التمدين، يُغلف التدخل المعاصر بخطاب مكافحة الإرهاب والدفاع عن القيم الليبرالية. لكن جوهر المسألة واحد: السيطرة على الشعوب، والموارد، والمجالات الجغرافية باسم “القيم” و”الأمن”. ومن هنا، فإن مقاومة هذه البنية تتطلب وعيًا تاريخيًا، وتضامنًا بين شعوب الجنوب العالمي، وإعادة بناء خطاب عالمي عادل ينطلق من كرامة الإنسان لا من مصالح السوق والسلاح.

البعد الإعلامي والخطابي للموقف الغربي تجاه قضايا الشرق الأوسط

تلعب وسائل الإعلام الغربية دورًا مركزيًا في صياغة الرأي العام وتوجيهه بما يخدم السياسات الإمبريالية. في مؤتمر برلين، تمّ ترويج الرواية الحضارية للغزو، وفي الحرب الإسرائيلية الفلسطينية يتم الترويج من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، وفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية، يتمّ تصوير إيران كمصدر تهديد عالمي، بينما يتمّ تقديم إسرائيل كضحية دائمة.

هناك تضليل وتحيز إعلامي غربي واضح تجاه إسرائيل فعلى سبيل المثال؛ في الخطاب الغربي، لا يُشار إلى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كسبب رئيس للتوتر، بل يتمّ تصوير الدفاع الإيراني كمصدر تهديد. تُغيب النبرة الإنسانية حين يُذكر القصف الإسرائيلي لمواقع مدنية، بينما يُبرز أي عمل مقاوم كعمل “إرهابي”. يرتكب الإعلام العالمي خيانة أخلاقية حين يساوي بين قوة نووية مدججة بأحدث الأسلحة، وبين شعب أعزل يُحاصر ويُقصف ويُشرَّد منذ أكثر من سبعة عقود.

في واقع الأمر إن المقاومة الفلسطينية ليست “عدوانًا” بل فعل وجودي؛ إنها ردّ فعل على الاحتلال لا عدوان عليه. حقّ مشروع تقره المواثيق الدولية. تمسّك بالكرامة الإنسانية ضد مشروع الإبادة السياسية والثقافية. في المقابل، فإن ما تقوم به إسرائيل ليس مجرد ردّ فعل، بل سياسة عنف ممنهج تستهدف محو الفلسطيني أرضًا، وذاكرة، وإنسانًا.

الوجه الغربي القبيح وازدواجية المعايير

يدّعي الغرب أنه حامل لمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، لكنه يكشف عن نفاقه الكامل في القضية الفلسطينية، يستنكر القمع في أوكرانيا، ويبارك القتل في غزة. يندد بالاحتلال الروسي، ويتواطأ مع الاحتلال الإسرائيلي. يعاقب المقاومة الفلسطينية، ويبرئ القنابل التي تقتل الأطفال. هذه الازدواجية ليست مجرد خلل أخلاقي، بل جزء من إرث استعماري مستمر، يرى في الآخر (الفلسطيني، العربي، الإفريقي) كائنًا أدنى، لا يملك حق الحياة ما لم يرضَ بشروط الهيمنة. ومع تصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني، برز الموقف الغربي، وخصوصًا الأمريكي والأوروبي، كمثال حي على انحياز النظام الدولي وازدواجية مقاييسه، حيث تُمنح إسرائيل الغطاء الدبلوماسي والعسكري الكامل، فيما تُدان إيران في معظم المحافل الدولية دون النظر لإسرائيل كدولة معتدية.

يبنى الموقف الغربي تجاه الصراع الإسرائيلي في الشرق الأوسط على عدة استراتيجيات:

  • تحالفات تحكمها المصلحة: ينظر الغرب إلى إسرائيل كحليف طبيعي في الشرق الأوسط، يخدم توازنات القوى ومصالحه الأمنية والاقتصادية.
  • تغليب الرؤية الأمنية على حقوق الشعوب: تُختزل المنطقة في معادلات أمنية تتجاهل إرادة الشعوب وتطلعاتها.
  • احتكار الخطاب الأخلاقي: يمنح الغرب نفسه سلطة الحكم على “الشرعية” و”الإرهاب”، فيحدد من يستحق الدعم ومن يجب معاقبته.

إن الصراع الإيراني-الإسرائيلي لا يمكن اختزاله في بعد عسكري أو سياسي فقط، بل يجب النظر إليه ضمن سياق أوسع من الاستعمار، والعنف الرمزي، والتحديات البيئية العالمية. فالتصعيد المستمر لا يهدد فقط السيادة والأمن، بل يتجاوز ذلك ليطال مقوّمات الحياة ذاتها في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة.

أصوات من الجنوب العالمي

يُقدّم فكر ما بعد الاستعمار عند إدوارد سعيد، أشيل مبيمبي، فرانتز فانون، وغيرهم، أدوات تحليلية لفهم الموقف الغربي من تقسيم إفريقيا والحروب الإسرائيلية في الشرق الأوسط بوصفهما امتدادًا لنفس الخطاب الإمبريالي. إنهما تجليات مختلفة لنظام عالمي قائم على عدم المساواة. لذلك يرى مفكري الجنوب أن هناك حاجة إلى تفكيك الخطاب الغربي وإبراز مصالحه الكامنة خلف شعاراته. أيضاً من الضروري إعادة الاعتبار لأصوات الشعوب الأصلية في إفريقيا والشرق الأوسط. أن مقاومة التدخل الخارجي لا تعني بالضرورة الانحياز لأنظمة سلطوية، بل تعني الدفاع عن السيادة والكرامة الوطنية.

لمواجهة الطغيان الغربي لابد من الوعي والمقاومة؛ إن التحرر من الأطماع الاستعمارية لا يتحقق فقط عبر مقاومة عسكرية، بل تحتاج الشعوب التي تعرّضت للهمجية الغربية إلى تحرير ذاكرتها، واستعادة سردياتها الأصلية، ورفض النماذج الغربية التي فُرضت عليها باسم التقدم. من خلال عدة استراتيجيات:

  • لابد من إعادة كتابة التاريخ؛ من منظور الضحية لا المستعمر.
  • تثمين ثقافة المقاومة؛ من هاييتي إلى فلسطين.
  • تفكيك الخطاب الغربي: عبر فكر ما بعد الاستعمار والمقاومة المعرفية.
  • تحرير الوعي: بفهم آليات الهيمنة وتفكيك الخطاب الغربي.
  • بناء اقتصاد وطني مستقل: يقطع التبعية المالية.
  • إحياء الهويات الثقافية: عبر دعم اللغات المحلية، والتعليم الوطني. تضامن دول الجنوب: لبناء جبهة عالمية في مواجهة السيطرة.

خاتمة

إن ما سُمّي بـ “التمدن الغربي” ما هو إلا مشروع تاريخي قام على أنقاض شعوب وثقافات كاملة، وعلى دماء أصحاب الأرض. لقد تجلت الهمجية الغربية في أكثر صورها دموية حين قتل الإنسان الأعزل بالبارود، والعباءة الحضارية بالعبودية، والسيادة بالاحتلال. ولعل أكبر التحديات المعاصرة تتمثل في كشف هذا الوجه الحقيقي للحداثة الغربية، وتأسيس عالم أكثر عدلًا، ينطلق من الاعتراف بالآخر لا من محوه.

إن الأطماع الاستعمارية الغربية لم تكن لحظة تاريخية عابرة، بل هي بنية دائمة تتخذ أشكالًا متجددة. من الاستعمار العسكري المباشر إلى التدخل باسم الديمقراطية، ومن العبودية إلى العولمة، يظل المنطق ذاته حاضرًا؛ السيطرة على الموارد، وإخضاع الشعوب، وتكريس التبعية. وإزاء ذلك، فإن الشعوب المستهدفة مطالبة بإعادة قراءة التاريخ، ورفع صوتها، وبناء مشروعها الحضاري المستقل، القائم على الحرية، والعدالة، والسيادة.

أن الأيديولوجية الغربية تجاه إفريقيا والشرق الأوسط ثابته لا تتغير باختلاف الزمان والمكان. النظرة الاستعلائية والتفوق الغربي سيد الموقف في الشأن العربي والإفريقي. لقد اثبت الغرب رغم كل المواثيق الدولية التي تنص على حقوق الشعوب في العيش والحرية والكرامة الإنسانية انحيازه للممارسات الإسرائيلية ضد شعوب المنطقة مبرراً ذلك بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها لكن؛ اين حق شعوب المنطقة أين حق البلدان المحتلة أين حق الدفاع عن النفس ضد الهمجية الصهيونية والإمبريالية المتوحشة. لقد اثبت الغرب أن مقولات الحرية والكرامة الإنسانية ما هي إلا مقولات نظرية لا تنتمي إلى أرض الواقع بأي صلة.

أخيراً إن الحروب الإسرائيلية في الشرق الأوسط هي حروب وجود من أجل البقاء ليس فقط من أجل فرض الهيمنة والسيطرة والنفوذ على شعوب المنطقة بل من أجل البقاء، والبقاء للأقوى. لذلك ينبغي على شعوب الشرق الأوسط أن تعي تلك الحقيقية وأن تتكاتف وتنزع الفرقة بينهم لتتصدى لقوى الشر الغاشمة. إن مساندة الغرب لإسرائيل ما هو إلا مساندة لتحقيق حلم الإمبراطورية الغربية العظمى.

قائمة مراجع مقترحة

-إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، 2014.

-إدوارد سعيد، الاستشراق، 1978.

-أشيل مبيمبي، ما بعد الاستعمار، 2022.

-أشيل مبيمبي، نقد العقل الونجي، 2018

-أشيل مبيمبي، السياسات العدائية، 2019.

-أشيل مبيمبي، الوحشية فقدان الهوية الإنسانية، 2021.

-فرانتز فانون، معذبوا الأرض، 2015.

-كوامي نكروما، الاستعمار الجديد اخر مراحل الإمبريالية، 1966.

-نجواجي وا ثونجو، تصفية استعمار العقل، 2011.

-Samir Amin, Eurocentrism, 1989.

-David Stannard, American Holocaust: The Conquest of the New World, 1992.

-Rashid Khalidi, The Hundred Years’ War on Palestine, 2020.

* باحثة دكتوراه تخصص فلسفة إفريقية حديثة ومعاصرة – كلية الآداب جامعة القاهرة – مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى