دراسات ومقالات

الجميلي أحمد يكتب سامح هريدي صوتٌ يأتيني مِن بعيد.

سامح هريدي صوتٌ يأتيني مِن بعيد.

 سامح هريدي صوتٌ يأتيني مِن بعيد. ولا أخفيكم سرًا أننا، في أوقات كثيرة، نغمض أعيننا عن شعراءَ وكتّابٍ حقيقيين، لا لشيء جوهري في إبداعهم، إنما أحيانًا تأخذنا السمات الشخصية للشاعر أو الكاتب لنأخذ تجاهَه موقفًا غير مفهوم.

والحقيقة أن الشاعر الذي نتناوله اليوم ليس بيني وبينه ثمة صداقة، ولا تربطني به مودة قديمة، ولقد أغمضت عيني عنه منذ اللحظة الأولى لسماعِه برغم اعجابي بما يكتب، وكان مبرري لإرضاء نفسي أنه عابسٌ الوجه!

لكن الله سخّر بيننا بشرًا مِنا ليكونوا همزة وصلٍ بيننا؛ فمنذ اقتربتُ مِن المبدعة والأخت العزيزة “ليلى راشد”، ولقد ساعدت علاقتي بالشاعر والناقد الصديق حمدي عبدالرازق أن تجعلني أكثر قربا من شاعر اليوم.

اقتربتُ منه ورأيته عن قرب يحمل قلبَ طفل جميل، رغم ما يرسمه على وجهه من ملامحَ جامدة.

بداية الاقتراب من سامح هريدي

عندما اقتربت منه رأيته بعين المحِب، فأصغيت له عندما كان ينشد شعرًا، كانت المفاجأة أنني أمام شاعر يستحق أن تصغي له، راجعت نفسي في كل أخطائها وحماقاتي في الحكم علي بعض الشعراء قبل أن أقترب منهم، ولعلّه يكون سببًا في ألا أحكم علي أحدٍ لم أقترب منه ولم أدخل عالمَه..

إنه الصديق الشاعر “سامح هريدي” الذي تعجلت الحكمَ عليه قبل أن أدخل عالمَه الشعري، والفضل يرجع، كما أشرت، إلى الصديقة العزيزة “ليلى راشد” التي جمعتني وسامح هريدي على طاولةٍ واحدة في مقهى جانبي بدائرة وسط البلد، وتحدّث الرجل فإذا بي أجدني أمام قلبٍ ينبض بالحب، وشاعرٍ يسقيك الشعر في كؤوس من الفضة.

طموح الشاعر سامح هريدي

وسامح هريدي شابٌ طموح، يكتب الشعر بوعي، يمتلك أدواته الشعرية، عميق التجربة، ليس لديه إلا الشعر، محب لأصدقائه، وقليلاً ما يشير إلى نفسه في شيء، يحمل الحب للآخرين، يسعى إلى الخير والحب والجمال، لقّبه أصدقاؤه بلقب “شاعر الغلابة”، وهو متطوع في أكثر من عملٍ خيري في منطقته بالورّاق، يمشي على قدميه بعد الانتهاء من عملِه ليبحث عن مريضٍ يقدم له المساعدة، أو محتاجٍ ليسد جوعَه، اعتاد على فعل الخير، فأصبح الخير بداخله، حرفه لا يهدأ إلا بالسعى إليه، يحب الناسَ ويسعي بالحب لهم.

ومن الحب لدي سامح هريدي قوله:

“لمّا كله اتخلّى عني

هى كانت كل ناسي

قلبها ف الشِدّة عنّي

مستحيل يعني أبقى ناسي”

وبالتأكيد إنّ الحب في المقطع السابق ليس الحب الذي أقصده في سعي سامح هريدي له مع الناس، إنما الحب هنا حب آخر، حب الحبيبة، حب الحبيب لمحبوبته، إذ يستخدم أبسط الكلمات في التعبير عن حبه لمحبوبته معبرًا عنها بأنها كانت كل الناس وقت أن تخلّى كل مَن حوله عنه، وتنتقل مع هريدي إلى قصيدته التي يقول فيها:

“رميت الزهر مضحكليش

ف مزعلتش ..

وكملت الطريق عادي ..

رميته كمان ف مرجعليش

ف ميأستش

وكملت الطريق وحدي

وشيلت اللمه فى الذكري

وشيلت الصحبه م الفكرة

وشيلت لبكرة أحلامي

مشيت.. بَصيت لقُدامي

وسبت الزهر ونسيته

نسيت حتى اللى حبيته

وشافني وقعت مسندنيش

نسيت برضه اللى أخرني

وداس على حلمي وكسرني

نسيت كل اللى أجبرني

أبات والدمع فى عيوني

نسيت كل اللى ظلموني

وحددت الهدف وسعيت

تعبت زرعت بس جَنيت

لاقيت الحلم بيفتح

ويتنفس كأنه الصبح

دفنت الجرح فى الماضي

وأعلنت ان انا راضي

بحالي وكل احوالي

ومهما معايا راح تعند

هادوس واجبرها تحلالي”

بساطة القصيدة لدي سامح هريدي 

لا تحتمل هذه القصيدة أي تأويل؛ فـسامح هريدي وضعَ، وببساطة شديدة، كل مفاتيح القصيدة بين يدَي المتلقي باستخدامه المباشَرة في القصيدة، لكنها المباشَرة المحببة، هي باختصارٍ شديد يخاطب الدنيا التي دائمًا ما تعاند معه، وهذا يتضح لنا من نهاية القصيدة حيث يقول “ومهما معايا راح تعند هادوس واجبرها تحلالي”، وهذا حال معظم الشعراء، الاعتزاز بالنفس إلى حدٍ يصل مع بعضنا إلى تضخّم الأنا، لكن سامح هريدي لم يصل إلي تضخّم الأنا، لكن الرجل يقول إنه لم ييأس مما يحدث معه، وإنه سيحاول مرارًا وتكرارًا.

أمّا في قصيدته التي يقول فيها:

“اتنين تلاتة من الصحاب

والباقي مش مهتم

يعني قليل من زعل

أو حتى شال الهم

ف يا ريت تفوق وتشوف

مين اللى كان جنبك

مين اللى وقت الجرح

دموعه كانت دم..”

ففي هذه القصيدة يذكّرنا سامح هريدي بـ عمّ شعراء العامية ورائدها، الشاعر الكبير بيرم التونسي، وهو يتهكم على الأصدقاء، أو على الزمن، أو علي غيرهما.

هنا يبدأ سامح قصيدته بـ “اتنين تلاته من الصحاب والباقي مش مهتم”، نفس منهجية بيرم التونسي في التهكم من الأشياء المحيطة به، نفس البساطة في استخدام المفردات البسيطة، نفس سياق الجملة، لكن لكل مبدع مذاقه الخاص، وربما يتأثر شاعر مِن هذا الجيل بشعراءَ كبار سَبقوه في التجربة والخبرة، ومن وجهة نظري المتواضعة إنّ التأثر بالتجارب السابقة يتولّد لدى كثير مِنا، لكن سرعان ما يستطيع الشاعر الحقيقي الذي يمتلك موهبة حقيقية أن يخلع عنه عباءة السابقين ليلبس عباءته هو.

لقب بشاعر الغلابة 

سامح هريدي شاعرٌ عفوي، يكتب القصيدة كما تخرج منه، لا يميل إلى الرمزية ولا التقعير.. بوّاح وفضفاض، يكتب عن ذكرياته، عن جيرانه، عن طفولته، عن محبوبته، كل كتابات سامح هريدي مِن واقعِه.. يقول:

“أيوا كنت ف تالتة سادس

فصلي كان شِبَّاكه باصص

ع الحياة بكل اللي فيها..

سوق كبير للشقيانين

فيه وشوش بتقول حكاوي

والاهات تشبه غناوي

طعمها زي المِدمس …

يعني كان صوت المدرس

جوه قلب البياعين..

كربونات صديوم بتحضن

أحلي م التفاح يا تين..”

في هذا المقطع يستدعي هريدي ذكرياتِه، ويرسم لنا ملامحها من أول تحديد فصلِه الدراسي “تالته سادس”، إلى صوت البائعين، وإلى الآهات التي وصفها بأنها تشبِه “الغناوي”. أمّا في قصيدة “طعم الشتا” والتي يقول فيها:

“صوت البابور

والكلفته جوَّاها واحنا بردانين..

وصوت أبويا

وهو طالع بالقصب والبُرتُقال

المليانين حُب وحَنين..

صوت المطر ..

وهو نازل ع القلوب الطيبين..

عمَّال بيغسل في الشوارع والبيوت ..

ويصفي أرواح الجميع ..

الزحلقه..

والجري من غير الهموم

فوق الشجر متشعلقين”

ففي هذه القصيدة طعم مختلف عن كثير مما يكتبه هريدي من ناحية عمق التجربة والرؤية، ويؤكد هريدي تنوعَه في الكتابة بين عمق القصيدة وبساطتها، وقد يعمل هريدي طوال الوقت على نفسه في تطوير أدواته الشعرية، ويؤكد عمق تجربة قصيدته في المقطع التالي إذ يقول:

“ومشعلقين..

أحلامنا فوق غُصن الطيور..

رقص الزهور

علي لحن أنغام المطر..

الضحكة م القلب لساعات..

والذكريات

اللي لا يُمكن تتنسي..

أول ما بِتندّع أوام

يجري ينادي ع الجيران

عشان يلموا في الغسيل..

كات حِجة يعني عشان يشوفها

دي البدر..بيغير من كُسوفها

ضحكتها تشبه للسما

وأنا كنت أغلّس

لاجل ما يزيد حُبها”

يستخدم هريدي في هذا المقطع حيلةً من الحيل التي يستخدمها شعراء كثيرون للتغلب علي استقامة الوزن، حين يقول “كات حجة يعني عشان يشوفها”، وهي في الأصل “كانت”، لكن لو استخدم الأصل لَمَا استقام الوزن.

ويؤكد لنا سامح هريدي ببساطة مفرداته أنه يستطيع أن يرسم صور شعرية مِن خلال المقطع الذي يقول فيه:

“الليل كفيف ..

لكنه شاف

البرد مش قد الغطى

فحن قلبه

ع اللى شايلين همهم

وخاف لا ينهش لحمهم

فبعت لهم

الشمس ملفوفه فى لحاف”

الحقيقة أن هذا المقطع نفسه، ودون غيره في كتابات سامح هريدي، يكفيه لمنحه لقب “شاعر متميز”.

وكما تعودت أن أذكّركم بأن كل ما أكتبه عن شعراء العامية هي مجرد إطلالات على كتاباتهم.

دامَ سامح هريدي مبدعًا على ساحة خريطة شعر العامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى