أوبرا مصر سمو الشيخة بدور القاسمي :تأملات في تجربتي بقطاع النشر العالمي
على مدى السنوات الأربع الماضية: الدروس المستفادة ووجهات نظري حول ضرورات الصناعة للمستقبل
بدأت بالتفكير جدياً في الترشح لمنصب نائب رئيس الاتحاد الدولي للناشرين (IPA) منتصف عام 2018، بتشجيع من العديد من الأعضاء. يومها، أدركت ما يمثله التنوع والأصوات الجديدة من أهمية بالغة لتقدم صناعة النشر ومستقبل الاتحاد.
وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد الذي أظهره العالم مؤخراً إزاء قضيتيّ التنوع والشمول في مجتمع النشر العالمي، إلا أنني لاحظت أن رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين، منذ تأسيسه في عام 1896، لم تذهب سوى إلى امرأة واحدة فقط، وهي آنا ماريا كابانيلاس. أما على مستوى الشمول، فقد وجدت أن مقعد رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين لم يشغله سوى أربعة رؤساء غير أوروبيين (الأرجنتينية آنا ماريا كابانيلاس، والأمريكيين: ستورر لونت، وأندرو نيللي، ويس تشي) على مدى تاريخه الطويل وقبل انتخاب هوغو سيتزر من المكسيك لتولي منصب الرئيس عام 2019. هذه الحقائق التاريخية لم تزدني إلا حيرة إزاء قرار ترشُحي.
لقد كان انتخاب هوغو سيتزر حدثاً محورياً دفعي للمضي قدماً في هذا القرار، بل وكان أيضاً نقطة تحول في موقفي بطرق أخرى لم تخطر ببالي. واليوم، ومع انتخاب البرازيلية كاريني بانسا لرئاسة الاتحاد الدولي للناشرين في سبتمبر 2022، والتي يحتمل أن تخلفها نائبتها فانتسا جوبافا، أصبح للاتحاد ثلاثة رؤساء من الوجوه النسائية على التوالي.
كانت فترة عملي مسؤولة تنفيذية في الاتحاد على مدى السنوات الأربع الماضية مليئة بالعديد من الدروس. ويُسعدني في هذه المدونة أن استعرض تأملاتي حول الدروس الثرية التي استخلصتها من هذه التجربة القيّمة، وأن أعرض وجهات نظري حول فترة رئاستي التي كانت حافلة بالتحديات، ولكنها أيضاً لم تخلو من العديد من الفرص الواعدة.
حاجة قطاع النشر العالمي لإعادة تشكيل العلاقات بين اللاعبين الأساسيين في الصناعة
لعلنا نتفق أن الجائحة — رُغم تأثيراتها السلبية — كانت لها تبعات إيجابية غير متوقعة على صناعة النشر. كانت سلسلة قيمة النشر متوقفة بشكل شبه كامل على خلفية تدابير الإغلاق المفروضة حينها حول العالم في عام 2020 وحتى عام 2021، وكان على المعنيين في منظومة النشر على الصعيد الوطني في كل بلد تنحية الخلافات القديمة وروح المنافسة جانباً للتغلّب على تداعيات الجائحة والتعافي من آثارها. وفي ذلك الوقت العصيب أيضاً، رأينا الناشرين، والمؤلفين، والمعلمين، وأمناء المكتبات، والمكتبات، ومعارض الكتب، وشركات التكنولوجيا، واتحادات ورابطات الصناعة، والشركاء الآخرين، يلتفون معاً ويحشدون الجهود لإبقاء الكتب في أيدي القراء.
وقد أدى هذا التوجه الوقائي إلى تضامن غير مسبوق على مستوى الصناعة. وبتحفيز من التحديات التي فرضتها الجائحة علينا، بدأنا أخيراً نرى تلك الحوارات والمناقشات التي طال انتظارها حول مستقبل صناعة النشر: بدأ المؤلفون في التفاعل بشكل أكبر مع الناشرين، وبدأ المعلمون في العمل بشكل أوثق مع الناشرين التعليميين، وأخذ المعنيون في الصناعة ينظرون بعين جماعية إلى مستقبل معارض الكتب، ووجد الناشرون والمكتبات طرقاً جديدة لمواكبة الاتجاهات الجديدة في فضاء الرقمنة واللاوساطة.
وفي تلك الأجواء المحفوفة بزخم تعاوني متزايد، لاحت لي فرصة للضغط على زر إعادة تشكيل العلاقات التاريخية بين المعنيين في صناعة النشر. ومن هنا تمخض أهم مشاريع فترة رئاستي على الإطلاق متجسداً في مبادرة استدامة ومرونة قطاع النشر العالمي “إنسباير” (Inspire) لدعم تعافي قطاع النشر من خلال حزمة من البرامج التي طرحها مختلف المعنيون بصناعة النشر وأسهمت في تعزيز التضامن ومستوى الحوار بينهم، وركزت على الأولويات المشتركة في الصناعة.
كانت مرحلة التنفيذ العملي لمبادرة “إنسباير” حافلة بالدروس والعبر التي تعلّمت منها أن هناك الكثير مما يمكن تحقيقه من خلال إعادة تشكيل العلاقات بين اللاعبين الأساسيين في قطاع النشر العالمي لحشد التركيز الجماعي على إحداث تغيير منهجي منظم في الصناعة بدلاً من التشبث بالوضع الراهن. ومع تمسك بعض المعنيين في قطاع النشر العالمي بقضايا حوارية غير مجدية ومواقف متشددة، فإنني أرى أن التعاون هو السبيل الوحيد أمام قطاع النشر العالمي لإحراز تقدم في الجهود الرامية إلى تجاوز تحديات الصناعة المعقدة مثل تحديث حقوق الطبع والنشر، وضمان حرية النشر، والمساهمة في قضية تغيّر المناخ، وتعزيز التنوع والشمول، والارتقاء بمهارات العاملين في مجال النشر إلى مستوى يواكب ما نستشرفه من تطورات في المستقبل.
رُغم أن “إنسباير” كانت الشرارة التي انطلقت بها قاطرة إعادة تشكيل هذه العلاقات، إلا أن الحاجة ما زالت قائمة لتوسيع الحوار بين الناشرين والشركاء مثل المكتبات، والمؤلفين، والمعلمين، وحتى المعنيين الأكثر تنوعاً في الصناعة مثل المطابع ومصنعي الورق. ولا يسعني في هذا المقام سوى أن أعرب عن خالص أملي بأن يتواصل حوارنا النقدي الذي أطلقته مبادرة “إنسباير” على مستوى سلسلة قيمة النشر.
قدرة قطاع النشر العالمي على المساهمة بشكل أكبر في التنمية المستدامة
في عام 2018، كشف استطلاع أجراه الاتحاد الدولي للناشرين أن 84٪ من الأعضاء يعتقدون أن أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة مهمة، لكن 73٪ فقط منهم أفادوا أنها مهمة وذات صلة بصناعة النشر. والواقع أن الفجوة بين الاعتراف بأهمية التقدّم في مجال التنمية المستدامة والكيفية التي يمكن بها لقطاع النشر العالمي أن يسهم بشكل ملموس في تحقيقها، تبعث على القلق.
وبالنسبة لي، كان من بين الدروس الجوهرية التي استخلصتها على مدى السنوات القليلة الماضية هو أنني أدركت كيف أنه من السهل التحدّث بعبارات مبهمة حول التأثير الاجتماعي والاقتصادي للنشر على الدول والمجتمعات، في حين أن التحدي الحقيقي يكمن في الوقوف على طرق محددة وملموسة يمكن لصناعة النشر من خلالها أن تسهم في النقاش العالمي حول التنمية المستدامة. وأعتقد أن هناك بعض الأولويات التي يجدر بقطاع النشر العالمي التركيز عليها على المدى القريب للبدء في اتخاذ تدابير ملموسة بشأن التنمية المستدامة.
وكما جاء بمقالة كتبتها في مدونتي الشهر الماضي، وذكرت بها أن التحدي الرئيسي الذي يواجهنا في هذه القضية إنما يتجسد في افتقار قطاع النشر العالمي للبيانات المتعلّقة بقضايا التنمية المستدامة، مثل القراءة، ومحو الأمية، والمشاركة المدنية، والتأثير الاجتماعي والاقتصادي الأوسع للصناعة، فإن هذا يدفعنا إلى البحث عن مزيد من الشراكات متعددة القطاعات التي تشمل الهيئات الإحصائية، والناشرين، وتجار التجزئة، وجمعيات النشر، وغيرهم من الشركاء الآخرين في مجال النشر، بغية تحسين جودة بيانات الصناعة وعمقها. كما أنني أرى أن مسألة تنمية القدرات في أسواق النشر الناشئة والمتطورة تكتسب هي الأخرى أهمية بالغة ضمن جهود زيادة تغطية البيانات.
إن قضية تغيّر المناخ هي بلا شك واحدة من أهم تحديات التنمية التي يمكن معالجتها بالاستفادة من زخم التضامن المتجدد في الصناعة والبيانات المحسنة. وقد كانت مبادرة “إنسباير” حافزاً لإطلاق المناقشات الأولية حول الالتزام بسلسلة التوريد الخضراء على مستوى سلسلة القيمة في قطاع النشر. وقد أسفرت هذه المناقشات عن نتائج ملموسة، أذكر منها على وجه الخصوص، مخرجات اللقاء التشاوري لمبادرة إنسباير والذي أوصى بوضع إطار عمل مشترك لقياس الاستدامة في صناعة النشر وإعداد التقارير استناداً إلى القواعد المعيارية، وعملية إصدار الشهادات هي الخطوة التالية التي تشتد إليها حاجتنا. وبرأيي أن الوقت قد حان لكي يتحمل قطاع النشر قدراً أكبر من المسؤولية عن تأثيره على المناخ، وهذا لا يتأتى إلا بتشديد الالتزامات البيئية والاجتماعية والإدارية لمختلف أصحاب المصلحة. كما يمكن أن تسهم زيادة الحوار عبر سلسلة التوريد أيضاً في منع أزمات سلسلة التوريد المستقبلية على غرار الأزمة التي تواجهها صناعتنا الآن.
وما أحوج قطاع النشر أيضاً إلى بذل جهود أفضل لتحديد مصادر الابتكارات المجتمعية وتوسيع نطاقها لما لها من أهمية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتنمية الأسواق ذات النمو المرتفع في المستقبل. ويشير تقرير التوقعات السكانية العالمية لعام 2022 الصادر عن الأمم المتحدة مؤخراً إلى مستوى النمو الذي يتوقع أن تحققه بعض من هذه الأسواق ذات الإمكانات العالية، حيث توقع التقرير أن يأتي أكثر من نصف النمو السكاني العالمي حتى عام 2050 من ثماني دول هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومصر، وإثيوبيا، والهند، ونيجيريا، وباكستان، والفلبين، وتنزانيا. وستسهم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أيضاً بأكثر من نصف الزيادة السكانية في العالم حتى عام 2050.
هذه الاقتصادات الناشئة سريعة النمو هي أيضاً أسواق نمو قطاع النشر في المستقبل، ومن المهم أن ندرك أن الابتكار لا يحتاج دائماً إلى التدفق من البلدان المتقدمة إلى النامية. وهذا هو مكمن أهمية بعض المبادرات مثل الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر (APIF)، وهو أول مشروع من نوعه تموله مؤسسة دبي العطاء، ويقدم منحاً تحفيزية لابتكارات النشر المتطورة والقابلة للتطوير. ولا تقتصر هذه المبادرات في أهدافها على تحفيز الصناعة لتوسيع آفاقها وحسب، بل إنها تمكّن أيضاً قطاع النشر العالمي من المساهمة بشكل مباشر في معالجة جزء من تحديات التنمية، مثل محو الأمية، والنشر المحلي، وتطوير المكتبات، وتسوية النزاعات، في أسواق النمو المستقبلي. وفي ظل حقيقة أن الأسواق الناشئة ستستحوذ على الجزء الأكبر من قراء الغد، أعتقد أن المساعدة في مواجهة التحديات التنموية من خلال بناء القدرات هي استثمار مجدٍ في المستقبل الجماعي لهذه الصناعة. وأرى فرصة كبيرة أمامنا لإنشاء صندوق ابتكار عالمي للنشر من شأنه إثراء خبرات الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر وتعظيم تأثيره.
ضرورة زيادة دعم النشر العالمي للأصوات غير المسموعة
لقد أدركتُ أن هيكل سوق النشر العالمي وتركز ثقله في أسواق النشر الراسخة قد يعني من منظور آخر أن وجهات النظر النقدية يمكن أن تمر دون أن يسمع بها أحد. وقد أدى هيكل السوق السائد وبطء وتيرة الصناعة إلى تغيير الوضع الراهن نحو إدامة بعض الانقسامات الثنائية وما يترتب عليها من إشكاليات.
غالباً ما تأخذ المخاوف القائمة على مبادئ الصناعة في أسواق النشر المتقدمة الأسبقية على الأولويات التي تركز على تطوير السوق في أسواق النشر الناشئة. وهناك أيضاً ميل في النظر إلى ما هو جيّد للناشرين الكبار على أنه جيّد لجميع الناشرين — وهو توجه يُغفل الاحتياجات الدقيقة للعديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم العاملة في منظومة النشر. ولسوء الحظ، أدت هذه الانقسامات إلى حالة من التعافي غير المتكافئ بالصناعة في أعقاب الجائحة، وأثارت تساؤلات جمة حول شكل الدعم الذي يقدمه قطاع النشر العالمي للكيانات المهمشة من أصحاب الأصوات غير المسموعة للتعافي الكامل والتكيّف مع واقع السوق الجديد.
وقد أكد تقرير صناعة النشر العالمية الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية في عام 2021 النتائج النوعية المبكرة التي توصل إليها الاتحاد الدولي للناشرين في أبحاثه حول تأثير الجائحة على النشر العالمي، وهي أن أسواق النشر المتطورة تعافت بسرعة، بينما لا تزال أسواق النشر الأقل تطوراً تتعافى ببطء من تداعيات الجائحة. وهذه الانقسامات الثنائية بين الأسواق المتقدمة مقابل الأسواق النامية وبين اللاعبين الكبار مقابل صغار اللاعبين في منظومة النشر تلقي بآثار كبيرة على مستقبل النشر العالمي.
ولعلنا نتفق أن مسار التعافي في أسواق النشر المتقدمة كان سريعاً بفضل تمتعها بأساسيات السوق الضرورية لهذا التعافي المتسارع، متمثلة في البنية التحتية الرقمية عالمية المستوى، وتنوع الإيرادات المتدفقة، والأسواق المحلية الكبيرة، والطرق المتعددة إلى السوق، والاقتصادات الأكثر استقراراً. لكن هذه الأساسيات لم تكن متوفرة في أسواق النشر النامية التي كان مسارها في التعافي بطيئاً بسبب انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين، وانخفاض ميزانيات الشراء المؤسسية، والاقتصادات الرقمية الأقل تطوراً. ويُضاف إلى ذلك كله أن الفاعلين في منظومة النشر الصغيرة والمتوسطة الحجم لا يحظون غالباً بإيرادات متنوعة، ويعتمدون بالأساس على قنوات توزيع محدودة الإمكانات، ويفتقرون إلى الموارد اللازمة للتحول الرقمي. كما يحتاج اللاعبون في منظومات النشر الصغيرة والمتوسطة الحجم إلى دعم هائل للتكيّف مع المستقبل الرقمي المتزايد — وهي حاجة لا سبيل إلى تلبيتها ولو جزئياً إلا من قبل أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين.
رغم أن الآثار طويلة المدى لهذه الانقسامات الثُنائيّة غير واضحة، إلا أنني لا أخفي قلقي بشكل خاص إزاء ما يمكن أن تعنيه للتنوع الببليوغرافي، والنشر المحلي، وآفاق النمو على المدى الطويل لتطوير أسواق النشر. ولعل أحد الدروس المهمة التي استخلصتها من تأملي في هذه القضية، هو أن محاولة التوفيق بين هذه الانقسامات الثُنائيّة في الصناعة يمكن أن تفضي إلى مقايضة مثمرة لصالح مستقبل النشر العالمي. في كثير من الأحيان، يهيّمن تأثير المعنيون ذوي الموارد الأفضل والأكثر تطوراً وحضوراً في حوارات الصناعة، ما يترك أسواق النشر الناشئة والجهات الفاعلة في منظومات النشر الصغيرة والمتوسطة الحجم في وضعية تجعلهم مهملين وغير مسموعين.
فرصة غير مسبوقة لتشكيل مستقبل النشر
وبما أن هذه هي آخر مشاركة لي في المدونة بصفتي رئيسة للاتحاد الدولي للناشرين، أود أن أغتنم هذه الفرصة لأتوجه إليكم جميعاً بالشكر على دعمكم السخي. لقد نجحنا معاً في اجتياز أحد أكثر الأوقات تحدياً في تاريخ قطاع النشر العالمي على الإطلاق، وشرعنا في عملية التعافي بعد الجائحة بشعور متجدد بالتضامن على مستوى الصناعة وتوجه نحو الشراكة بدلاً من الانكفاء على الذات والتعصب.
واسمحوا لي أن أذكركم أنني في بيان الترشح لرئاسة الاتحاد الدولي للناشرين الذي أصدرته في أكتوبر 2018، طلبت تصويت أعضاء الاتحاد كاعتراف بالوجه المتغيّر لقطاع النشر والتوجه الأكثر عالمية لتشكيل مستقبل صناعتنا.
وبينما أتأمل ملياً في السنوات الأربع الماضية، أجد أننا أحرزنا بعض التقدّم في قضايا ملحة لصناعتنا، وحققنا مكاسب كبيرة في إشراك أصوات متنوعة لإثراء مساعينا في تصور مستقبل النشر العالمي. وقد تشرفت وسعدت بتمثيل مصالح أعضاء الاتحاد الدولي للناشرين، ويحدوني كل الفخر بما حققناه كمؤسسة وصناعة.