شعبان عبد الحكيم يَكتُب: “حكايات المطر” ..بين القيمة الفنية والقيم الأخلاقية
حكايات المطر رواية جديدة ممتعة للكاتبة آسيا (خولة) عبد الهادى ، وكما جاء فى العنوان الفرعى ( رائعة الحب والوفاء والغيرة والانتقام ) نص مفعم بالقيم الإنسانية ، ليؤكد القيمة الجمالية للإبداع الفنى ، التى يرسخها الأدب فى النفوس ، فالرواية هادفة فى غرس مبادىءالحب والوفاء ، والأمل فى النفوس ، ناهيك عن قيمة لاتقل أهميتها فى قراءتنا للنص الأدبى ألا وهى التسلية الجميلة ، التى تندُّ عن الابتذال والفحش ، خاصة أن النص اتخذ شكل حكاية للجدة ، كى تسلى حفيدها وتنعشه ، ولكن لم تهدف التسلية من أجل التسلية فقط ، بل هدفت من حكاياتها غرس قيم أخلاقية فى حفيدها تكون له سندًا فى حياته المستقبلية .
تقنية الحكاية تقنية تراثية نقرأها كثيرا فى تراثنا ( كان ياما كان) ثم يحكى الراوى حكايته ، وبالفعل تبدأ الرواية بهذه التيمة الفنية ” كان يا ما كان ، فى قديم الزمان ،لا يطيب الحديث إلابذكر النبى سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان (بيتنا قريب ) و(أجيب ) لكم صحن زبيب ،تاكلواوتشربوا وتصلوا على النبى الحبيب (ص5)
وتنتهى الرواية (أو قل الحكاية) وعمر قد أخذته سنة من النوم فأفاق (عمر) من نومه يسأل جدته : هل انتصر حسن ؟ هل عاد إلى أهله ؟ هل عثر على والده ؟ وهل عاد إلى بيته ؟ ضحكت الجدة وطمأنته : نعم يا عمر لقد حدث كل ما تمنى … هيّا إلى السرير وغدا أحدثك بحكاية أخرى،فمازال المطر ينهمر وأملنا بالخير كثير…وتوتو ما خلصت الحدوتو(ص 249)
ما بين البداية والنهاية جاءت الحكاية ( والتى تتفرع إلى حكايات عدة ) فكل شخصية تحمل حكاية لوحدها ، حكاية مثيرة مدهشة تعكس القيم النبيلة لغاية الحكى ، وجعلت الكاتبة الزمن غير محدد بفترة زمنية ما ، لتسحب ما تتضمنه هذه الحكايات من قيم على كل زمن ، بل وكل مكان ، وإن جعلت مسرح الأحداث مملكة الوفاء والأمل ، فالمكان رمزى يأخذ صفة من صفات أهله ، وليس مكانًا ماديًّا محددًا ، و جاء وعاء للأحداث ، والقيمة الأخلاقية هى غاية هذا الحكى ، كل شخصية من شخصيات الرواية لها حكاية ، يمكن أن تستقل بذاتها ، الملك رمز للعدل ، الملكة زوجته رمز للغيرة القاتلة والغضب الجامح ، الابن ( الأمير ) رمز للطيبة والنقاء وسمو المشاعر والحب والوفء ، زوجته ( الجوهرة ) رمز للحب والوفاء والصمود والإرادة الفولاذية والمرأة العربية التى تجيد تربية ابنها خير تربية ، حسن رمز للابن البار صاحب الإرادة الصلبة والأمل فى الغد الجميل ، و” جاد ” رمز الوفاء فى أسمى معانيه ، الرجل الذى يضحى بعاطفته من أجل ولائه لصديقه ، ولمن يعمل معه ، ليضرب المثل فى الوفاء ، وفاء مع الملك قدوة بأبيه وأمه اللذين نُشأا فى قصره، الأبوان لازما الملكة والملكة وجاد لازم الأمير الطاهر ، الذى ولد فى معه فى نفس السنة ، لقد ضحى بحياته من أجل رجوع الملك ،كرمز للحاكم العادل ، الذى يعمل جاهدًا بكل طاقته من أجل استقلال مملكته وهيبتها وكرامتها ورقيها ، ونشر العدل والحرية فى ربوعه ، لذا قُتِل جاد فداء لهذه المبادىء ( مبادىء العدل والحرية )
لا تبدأ الجدة الحكاية من بدايتها ، ثم تسير سيرًا طرديًّا ، ولا من نهايتها ، ثم يعود فيحكى الراوى الأحداث من البداية حتى النهاية ، مستخدمًا طريقة الفلاش باك ، ولكن – وهذه طريقة فنية للتشويق – بدأت الرواية بالروى عن ذهاب حسن ( الذى لا نعرفه ولا نعرف نسبه ) إلى مدينة الزهور ليكتسب خبرة من رحلاته ، يقابله جاد الذى أخذ على عاتقه استنفارغالبية الشعب ، للثورة على الظالم حدرج ، الذى اغتصب الحكم من ابن عمه الملك ” الطاهر ” يسمع عن استعداد حسن الثورى ، ورفضه للظلم ، وخطبه وسط الجموع ، فينبهر به ، ويبلغ الملك عنه ،يطلبالملك رؤيته ، وهناياتى حسن ليصطحبه لملاقاة الملك (أبوه الذى لا يعرفه ) ليكون له عونًا ونصيرًا وقائدًا من قواد الثورة ( دون أن يعلم أن حسنًا ابنه )
واقتضى الحكى هنا الرجوع إلى البداية والحكى عن مملكة الوفاء والأمل وملكها ( الملك الطيب ) وهو ملك عادل ، متواضع ، كان لا ينجب رغم زواجه أكثر من واحدة ، وفى ليلة ظلَّ متيقظًا حتى الفجر ، ودعا ربه أن يرزقه بولى عهد مملكته ، فاستجاب له ربه ،وأنجب ولدًا من زوجته الجميلة ، التى أسماها ” البديعة ” لجمالها وبهائها ، وأسماه ” الطاهر ” ، وقبل أن ينجب طمع أحد أبناء أخوته “حدرج ” فى المُلْك ، وظل يمنى نفسه بذلك ، وخُيل إليه أن الملك قد أصبح وشيكًا منه ، وقام بمحاولة اختطافه بتواطىء الخادمة ، ولما علم الملك بذلك ، أمر بطرد الخادمة التى حاولت ذلك ، ونفى حدرج أى علاقة له بخصوص هذا الموضوع ، وحدثت ظروف طارئة دعت تتويج ( الطاهر) ملك البلاد ، ثار حدرج وغضب واتجه مع زمرة معه إلى القصر لاغتصاب السلطة…اختفى الملك فى هذا اليوم دون أن نعرف ما مصيره ؟!
ثم عادت الجدة لتكمل لنا حكاية حسن فى مدينة الزهور ، الذى ذهب إليها ليتعرف على أخبارها ، فسمع صراخًا وغمغمات مرعبة …الناس يصرخون أخرجوها اقتلوها مزقوها ..تعجب وتذكر وصية أمه ألا يسافر إلى هذه المدينة ، سأل أكثرمن واحد عن حقيقة المرأة فلم يجبه …وتساءل هل هو رجل أم امرأة فوجد إجابتهم تقر هذا ، ولم يخبروه عن اسمه …ورغم اتهامهم للمرأة بأقذع بالتهم المقذعة ( فاجر ، زانية ) إلا أنهم لم يذكروا له اسمًا، ولا يعرفون بيتها ، وعندما سأل عن حاكم المدينة لم يدله أحد عليه ، ففطن إلى أن هؤلاء مغيبون ، فطمع فى الحكم ، وعندما رجع إلى تحت الشجرة التى كان يرقد تحتها مستغربا من أقوالهم لايوجد زعيم ويدافعون عنه …إلخ ، جاءته فكرة ” أن يصبح هو زعيمهم ” ((ص 28 ) وتمثل الدور : شدَّ كتفه إلى أعلى … عاش عاش حسن …وإذا ما صرخت فيهم بصوتى الجهورى سيرتعدون وينصاعون ويلبون طموحاتى (ص 28) وفتش عن إمكانياته التى تؤهله للزعامة، فوجد أنه يمتلك ابتسامة جميلة ، وجسمًا ملفوفًا ، وقامة سامقة ، و طلعة بهية ،وفكر فى نسب يليق بجلالته ، وتوصل بأن يكون ابنًا لأبى الخير أحد أثرياء المدينة الذين لهم من الاحترام والتقدير ، فادعى أنه ابنه ، وأخذ يتمثل شخص الحاكم ، فى معيشته الرغدة ، الخدم والحشم ، والسجاد الذى يمشى عليه ، والأوامر المطاعة ، وخضوع الجميع له ، ولكن وسط هذا الهُيام بالسلطة فوجىء بصبى يكسر طعامًا ويبلله لجرو صغير فاتعظ من هذا الدرس ، وتيقن فى من أعماقه أن هذا الصبى لا يبغى شيئًا من تصرفه هذا سوى أن يحيى نفسًا خلقها الله ، فاتعظَّ من هذا الدرس وزهد عن مبتغاه فى الملك ، بعدها تعود الجدة لتحكى لنا تكملة قصة الملك الطاهر الذى تزوج من جوهرة راعية الغنم، رأها فى رحلة صيد كان يصحبه فيها جاد ، فجأه سهم من أعوان عدوه حدرج ، سقط على الأرض ، وأخذت تطببه ووضعت قميصًا بعدما مزقته على جرحه ، وأرجعته مع جاد للقصر ، وبعدها رجع جاد ومعه رسالة من الأمير الطاهر لها ، يبلغها برغبته فى مجيئها إلى القصر والزواج منها ، فرحت لذلك فى تلك اللحظات التى كان يتألم فيها “جاد ” هيامًا ولوعة وشوقًا إليها ، ورجعت معه على حصان الأمير وجاد يمتطى حصانه ، وقد أعجبت الملكة والملك بجمالها ، ولكن الملكة اعترضت على زواجها من ابنها لأصلها وكونها راعية غنم ، ورغم وقوف الملك بجوار ابنه وإتمام الزواج ، إلا أن الملكة ظلَّت مصرَّة على رأيها ، وأمرت وصيفتها ” زينات ” الإشراف على شئون القصر ، وجعلتها تتدخل فى جناحها ، وتدخل أدق الحجرات سرية بينها وبين الأمير ، ثم فكرت بعد ذلك فى إغراء ابنها بفتاة أكثر منها جمالًا ، جلبتها لها وصيفتها ” زينات” اسمها “بهاء ” لتكمل مخططها ، ويشغف بغيرها خاصة أنها ظلت فترة طويلة دون حمل ، وكانت قد أعدت ملحقًا فى أحد أجنحة القصر سريًّا لاستخدامه وقت الحاجة ، فاستغله الملك فى علاقته مع ” بهاء ” حيث تزوج منها ، ولما تيقنت الملكة من زواج زوجها الملك من ” بهاء ” خططت للتخلص من هذه الزوجة بالسمِّ ، فأعدت كوب عصير برتقال ووضعته به سمًّا قاتلًا ، وضعته فى حجرتها اليوم الذى سيأتى فيه أهلها لزيارتها ، تشربه ثم تذهب لمقابلتهم ، ولكن جاءت الرياح بما لم تشتهِ السفن ، وجدت الملك يمسك بها من تحت إبطها، ويقودها إلى هذا المكان ، شرب جزءًا من الشراب ، وأعطاها الكأس لتكمل الباقى ، صرخت من أعماقها ، وجريت نحوه فوجدت الملك مترنحًا ومن فوقه بهاء ، لتكون آخركلمة للملك ” فعلتيها يا بديعة ” أخذت تلحس من السائل الأصفر الذى كان يخرج من فم الملك ،وشربت ما تبقى فى الكأس لتلحق بجواره ، وجاء الطاهر هو وزوجته فصعقا بهذه الكارثة ، التى استغلها حدرج ، بتشويه صورة الملك الصغير ، فوصفه بأنه غرٌّ تعبث به شابة لعوب ، لاأصل لها ولا حسب ، وستسمك بزمام الأمور ، بعدها قام بالهجوم على القصر وقتل أعوان الملك ، ودمَّر البلاد ،وأثناء هجومه على الملك أُصيبت الجوهرة فى صدرها ، وتسقط مغشيًّا عليها ، ويتوارى الملك فى أحد الممرات السريِّة ، يتتبع الأحداث جاد فيجد الجوهرة قد انقطع نفسها عن الحياة ، يرفع يدها فتسقط ، يدارى جسدها فى القبو، ويقرأعلى روحها الفاتحة ، وبعدها تبدأ مرحلة جديدة ، الملك يهرب إلى أعماق الجبال ، ليستعد من جديد لإعادة ملكه ، الجوهرة تفيق بعد فترة تغسل دمها ، تعيش فى القبو، تلاحظ انتفاخ بطنها ،وتكتشف انه حمل ، تنجب طفلًا تسميه ” حسن ” تظل مكانها خمس سنوات ، ثم تهرب إلى المدينة ، تتعرف على أم عادل المرأة العجوز العمياء ، تظل سبع سنوات عندها ، حتى وقت اكتشاف حدرج ورجاله لموضعها ، تهرب بالطفل إلى مكان منقطع ، حتى يبلغ السادسة عشرة من عمره ، كان الوضع فى المدينة يزداد حنقًا وغضبًا على حدرج ، يتواجد حسن وسط المعارضين ، يُعجب به حسن والملك …الذى كان ما يزال لايتصور موت الجوهرة …وزاد من شكه هذاعمر الفتى الذى يتفق مع الفترة الزمنية من تركه للقصر ، وتحدث المفاجأة فى النهاية ، بثورات الجماهير يتقدمهم الملك وحسن وجاد ، وفى هذه اللحظة تجىء الجوهرة ، تقترب من ابنها وترفع الحجاب ، لتكون المفاجأة المدوية رجوع الملك ورجوع الجوهرة ومعهما الحسن الذى قاد الثورة ، فى هذه اللحظة كان أعوان حدرج قد انقلبوا عليه وقتلوه وترددت كلمة ” قتلوه كلابه ” هذه اللازمة التى بدأت بها الحكاية الشائقة والمدهشة والهادفة فى الوقت نفسه .
تبنى الرواية على عنصر المفاجأة والتشويق ، وهذه سمة من سمات الحكى التراثى مما يُعطى الحكى مذاقه الخاص ، ويجذب انتباه المتلقى لمتابعة القصة بشغف وإنصات وتركيز ، بل والمشاركة الوجدانية فى معايشة المواقف المأسوية فى القص ، فمن البداية نجد ” الروى ” فى صورة الحكى ، الحكاية لها رصيدها الوجدانى فى ضمير الشعوب ، وبها حميمية وتشوق وأحداث غريبة ومدهشة ، فتروى الجدة لحفيدها عن الملك الطيب ملك مملكة الوفاء والأمل واختفائه فى ظروف غامضة ، وتنصيب ابنه الأمير الطاهر ، وعن حسن ورحلته إلى مدينة الزهور وما أثاره هناك ” لايوجد زعيم ويدافعون عنه ” ففكر بجد أن يكون زعيمًا لها ، وتفكيره الطويل فى كيفية القضاء على خصومه ، وصنع نسب يليق به كل ذلك فى صورة عجائبية مثيرة، ثم تراجعه المدهش أيضا عندما وجد صبيًّا يطعم جروًا صغيرًا الخبزاليابس بعدما يبلله له، تذكر كلام أمه ” ابن الأصل لا يظلم الناس” فكر فى الأمرمليًّا …ماذا يجنى الصبى من فعله هذا إلا العطف والرحمة على حيوان وماذا أجنى بضلالى وجرى وراء المناصب والمال ؟!
ويتوالى الحكى بالصورة المثيرة فحسن المرء العادى يفاجأ بشيخ كبير ، فتح له الباب ثم دخل عليه وأغلق الباب عليهما ،كان الرجل الذى ينظف حول بيته ، سأله عمن أكلته كلابه …فأجابه بأنه سيعرفه بعد ذلك ..طلب منه أن يذهبا معا لرحلة قصيرة تحت المطر والثلج ، عرف أن اسمه جاد ، لم يخبره بوجتهما ، وخرجا تحت عصف الريح ، وزخات المطر …وأخيرا وصلا المكان ، قال له : ادخل وقابل الملك…وطلب منه الملك توزيع منشورات ضد النظام مع جاد …بعدها يروى جاد عن نشأته فى القصر مع والديه ، وكان صديقًا للملك ، مستخدمًا عنصر المفاجأة فى مقابلته فتاة ( الجوهرة ) راعية الغنم فى إحدى الرحلات التى كانا يلهوان معًا يمرحان ويصطادان الأرانب والحبارى ، وفجأة جاءه سهم فسقط …عندها ذهل جاد وأخذ يصرخ ويفكر ماذا يقول إذا مات الأمير …فجاة ظهرت فتاة طلبت منه أن تساعده فى نقله من مكانه خشية أن يعود المعتدى من جديد ، ومن هنا تعرَّف على الفتاة التى اقترن بها ،ومن عنصر المفاجأة ،سيطرة الفتاة على قلبه ، فأخذ يرعى معها الغنم ، ويعيش حياتها البدوية يحلب الأغنام ،ويشرب من لبنها ، ويرتدى زى الراعى ، وتكملة لعنصرالمفاجأة زواجه منها رغم الفارق الاجتماعى البين ، ومن المفاجأة – أيضا – أن ما قامت به الملكة بعدما أحضرت مهندسًا ، حفر تحت القصر وبنى عدة غرف وجهزتها أحسن تجهيز ، ووضعت به الأثاث الفخم ، وجعلت له أبوابًا يمكن الهروب منها وقت الحاجة ، ليكون هذا المكان مخبأ إذا حدث انقلاب أو أى شىء خطر على حياته ، ووكلت أم جاد بتنظيفه ولا يدخله أحد سواها ، هذا المكان يصبح ملاذًا وملجأ للجوهرة هى وابنها ( حسن ) مدة خمس سنوات بعد هجوم حدرج ورجاله على القصروتدميره ، ومن المفاجأة – أيضا – أن الفتاة ” بهاء ” التى جلبتها الملكة لتغرى بها الأمير الطاهر ابنها ، حتى يعرض عن زوجته” الجوهرة راعية الغنم ، هذه الفتاة يتزوجها الملك ، وعندما تفكر الملكة فى قتلها ، بوضع السمّ لها فى كأس به عصير ، هذا الكأس يكون سببًا فى موتها هى وبهاء والملك… ومن المفاجأة كانت الجوهرة تبحث كل يوم فى الملجأ لتكتشف الجديد ، وذات يوم فوجئت بطلاء جديد ،كشته بالسكين فتاكدت من ذلك عمقت حفرها بالسكين فوجدت صندوقًا مملوءًا بالمجوهرات ، اكتشفت أنها مجوهراتها التى فقدتها ذات يوم ، وهاهى ترجع إليها وفى الوقت المحتاجة إليها،
(ص 197)
ومن عنصر المفاجأة ما وجدناه فى النهاية ، جاد يأتى إلى حسن ليشاركه فى توزيع منشورات ضد حدرج ونظامه ، يلاقى الملك (أباه) وفى نهاية الرواية ، عندما تقوم الثورة يشارك فيها جميع طوائف الشعب ضد حدرج ، يلتقى الملك وجاد وحسن وتأتى الجوهرة من بيتها البعيد ، ليكون لقاء الملك بالملكة بعد ستة عشر عامًا ،بعد ظنهم موتها ، ويرى الملك ابنه (الحسن كما أسماه ) يقود الجماهير فى الثورة ، وتكملة لعنصر المفاجأة ، بينما الجميع مذهولون إذا بسهم طائش يطير ويخترق قلب عم جاد … صرخ الحسن :لالالا… (ص247( هرع الملك والجوهرة ليسعفانه ولكن روحه كانت قد فاضت إلى بارئها ، ليضحى جاد بحياته من أجل الملك والمملكة .
عنصر المفاجأة يتناقض مع مبدأ السببية فى بناء الأحداث ، لذا لا نجد التوقع لحدث تلو حدث ، وهذا يعطى النص الطزاجة ، ويلزم القارىء بالترقب وعدم توقع حدث نتيجة حدث ، ونضرب مثالًا فقط من أمثلة كثيرة ، لم نكن نتوقع بعد تأكد جاد من موت الجوهرة أن ترجع للحياة مرة أخرى ، ويكون انتفاخ بطنها حملًا ، ليصبح هذا المولود هو قائد ثورة لإرجاع ملك أبيه ؟! ومن منا كان يتوقع بعد نجاح الثورة والتقاء الأسرة بعد تشتت دام سبعة عشر عامًا يلتقون ، نفاجأ بسهم يقتل جادًا ؟!
وشخصيات الرواية نمطية شخصيات خيرية ، يقابلها شخصيات شريرة ، وأنضج الشخصيلت ( فنيًّا ) شخصية جاد ، لأنها صوَّرت هذه الشخصية فى صراعها النفسة بين العاطفة والواجب ، بين حبه للجوهرة ، وواجبه كعامل فى القصر من المقربين للملك وصديق ومستشار لابنه الأمير الطاهر ،وخاصة أن وضع الجوهرة الاجتماعى كان مناسبًا لوضع جاد ،لا لمستوى الأمير ، وهنا تعرى الكاتب هذه الشخصية فى قولها عن نفسها ” ماذا عن ألمى أنا ؟ ماذا عن حزنى أنا ؟ ماذا عن رغباتى أنا ؟ ألست إنسانًا ؟ أليست لى مشاعر كغيرى ، ألا أتمنى أن أحب وأن تكون لى زوجة جميلة ، ومنزل وأطفال وعمل مستقل ، غير مرافقة الأمير ومراقبة ما حوله ، وإحصاء خلجاته وزفراته ، هل هذه مهمتى فى الحياة (ص 96) وبعد صراع طويل مع نفسه ، بدأ برحلته إليها ومعه رسالة من الأمير ، فكَّر طويلًا فى إعطائها الرسالة ،أو إخفائها ، وانتصر الواجب على العاطفة وسلمها رسالته ، وأخذ يؤنب نفسه على تفكيره وهيامه بالفتاة التى أحبها الأمير ، وظلَّ الشيطان يغويه بأن الامير يستطيع أن يتزوج من يشاء …ولماذا لاتكون له …خيانة خيانة …كاد يمزق الرسالة غيرمرة ولكن صوت أبيه ” لاتخن الأمير ، لاتخن الأمير ” (ص94 ) ثم فى رؤيتهما معًا فى الجناح الخاص بهما زوجان سعيدان ، وانتهى الصراع النفسى بتمنيه السعادة لهما ، وظلَّ وفيًّا لهما ، تتبع الجوهرة فى لحظاتها الأخيرة ، ولم يتركها فى القصر بعد إصابتها إلا بعد تأكده من موتها ،ووقف بجوار الملك الطاهر كمستشار له وناصح أمين ، نصحه بانتظار الوقت المناسب للقيام بالثورة ، وشاركه فى جمع أعوانه وتوزيع المنشورات ، وعلى يديه جاء حسن إلى أبيه ، ولكن نهايته لم تكن مبررة، فهو لا يستأهل هذه الميتة ، وإن كانت هذه الميتة ( مقتولًا غدرًا ) لها مبررها فى عدم منطقية الحياة ، فكثير من أحداث الحياة التى تقع لكثير من الناس تكون لإرادة إلهية لا يعلمها إلا الله ، فعندنا فى الصعيد قد يقتلون المرء أخذًا لثأر ابن عمه ، ويكون الشخص المقتول رافضًا لعملية القتل … برمتها إلخ .
شخصية الملك الطيب وزوجته وابنهما ( الطاهر ) وزوجته ( الجوهرة ) وجاد ، وشخصيات أخرى تؤيدهم وتتفق معهم فى الفكر على رأسهم أبو وأم جاد وجاد ، وشخصيةأم عادل ، وتاجر المجوهرات ….إلخ ، شخصيات خيرة ، على النقيض شخصية ” حدرج ” وأتباعه الذين أيدوه وساروا وراء فكره لاغتصاب الملك شخصيات شريرة كثيرة لم تذكر أسماءهم ، ولكن نعرف منهم من خطط مع الخادمة لخطف الطاهر( وهو طفل ) ومنهم مَنْ أطلق السهم على الطاهر وهو فى رحلة صيد مع جاد ، من دخلوا القصر وقتلوا من فيه ، واطلقوا النيران على الملك وزوجته الجوهرة ، فأصيبت الجوهرة ، من قتل جادًا فى النهاية شخصيات شريرة ، وهكذا سارت الشخصيات على نمط واحد ، وبعد واحد ، وكان أولى بالكاتبة أن تجعل الشخصية تجمع بين الصفتين معًا ، تخطأ وتؤنب نفسها ، أو فى رسم الشخصية الخيرة نراها تضعف أمام نزوات النفس وشهواتها وتقع فى الخطيئة ،ثم تعود بعد تانبيب ومحاسبة النفس، ، هذا يجعل الشخصية أكثر ثراء ، وشخصية الملكة رغم موقفها من ابنها الطاهر ورفضه االزواج من راعية غنم ، وتفكيرها فى قتل ” بهاء ” لا نجد فيها شخصية شريرة ، ولكنها شخصية غيورة بصورة تتجاوز الحد ، وأخطات وندمت على خطئها ، فحكمت على نفسها بالموت ، لذا جاءت شخصية نامية وثرية .
ومما يحمد للكاتبة أنها أجادت فى رسم شخصياته ، الملك الطيب عادل ، حكيم ، مخلص لمملكته ، وزوجته ملكة تعيش حياة الملكات بالصورة الروتينية ، لذا ترفض زواج ابنها من راعية غنم ، ومن أسرة متواضعة النسب ، ظهرت غيورة بصورة لامعقولة كما أوضحنا ، شخصية الجوهرة ، جاءت مرسومة بدقة جمالها البارع ، جميلة مشرقة شجاعة مات أبوها وبقيت فى الغابة محافظة على إرثها ووقفت بجواره حين أُصيب ( ص 115)أنقذت حياة الأمير بتصرف إنسانى نبيل ، لا لغاية مادية ما ، رقيقة ومهذبة وجميلة وواعية وأصيلة ومساندة لزوجها ، ولجمالها الرائع ” أحبها من أول نظرة ، كانت أشبه بجوهرة سوداء ، لوّحت الشمس وجهها ، وصبغ الليل شعرها ، وشع الذكاء من عينيها ، فتاة وهبها الله ما لم يهبه لغيرها من القبول ” (ص 84) ونلاحظ على الكاتبة ولوعها فى وصف الصفات الظاهرة للمرأة الجميلة ، وجدناه فى وصفها للجوهرة وفى وصف ” بهاء ” التى تصفها بأنها ” باهرة الجمال ، غضة ، مفعمة بالحياة ، يتمنى الرجال ودها ، ويتحلق الفتيان حولها ، يافعة نشيطة مغناج ، لا بالقصيرة ، ولا بالطويلة ، لا بالنحيفة ، ولا بالسمينة ، باسمة الثغر ، سوداء العينين ، بيضاء البشرة ، وبشعر أسود كفرع فرس متمردة ، بصوتها موسيقى (ص 138) ولم تركز على وصف الصفات الظاهرة لباقى الشخصية ، ولكن رغم ذلك نجد كل شخصية لها صفاتها الخاصة بها .
يتنوع أسلوب الحكى فى الرواية ما بين لغة السرد فى حكاية الأحداث ، وما بين اللغةالشعرية ، وقد أجادت الكاتبة فى استخدام اللغة الشعرية ، فى وصفها للمواقف الإنسانية المؤلمة فى الرواية نذكر منها وصفها لاستيقاظ الجوهرة بعد فترة الإغماء الطويلة التى مرت بها ” بين الركام والخراب امرأة لا يفصلهاعن الموت سوى خيط رفيع ، ملقاة فى مكان معزول ، وسط ظلام دامس ، ولكن خيطًا رفيعًا من الحياة ما زال يتسلل إلى روحها ، فيحرك بعض أعضائها ،أفاقت قليلًا ، تململت ، لكن لا قدرة لها على الحركة ، أغُمى عليها ، ثم أفاقت ، ثم أغُمى عليها ، وأفاقت من جديد ، تحسست جسدها فوجدته رطبًا ، يغرق فى شىء ما ، غمست يدها به واشتمته، إنه الدم ، تئن ، كل شىء يؤلمها ، تشعر بصداع يكاد يفجر رأسها ، فقد نزفت كثيرًا ، ربما لم يتبق فى جسدها نقطة دم واحدة ” ص 182
وامتدادًا لهذا الوصف بأسلوب جمالى حديثها عن حياتها فى القبو ، ثم اكتشافها الحمل ، ولحظات المخاض والوضع : أرجوك يا رب أعنى فليس لى سواك ، الآلام تشتد وهى تكزُّ على أسنانها، بعدما وضعت قطعة قماس بين أسنانها ، تأخذ نفسًاعميقًا ،وتشد أكثر وأكثر …لحظات صعبة وقاسية ، تحرك يمينا ويسارا، وتتعلق بقضبان السرير ، والدماء تنزف منها ، صراخها يملأ المكان ، والعرق يتصبب من جبينها ، والألم يشق ظهرها ص 194
ومع صلاة الفجر سمعت صرخاته …إنه حسن كانت ملقاة على الأرض دون حراك ، والإجهاد على أشده ، ترتجف والعرق يغرقها ، هدأت وتوقف جسدها عن الارتجاف بعض الوقت ، ثم تحركت ببطء لتنهى ولادتها …وأخرجت ما بقى من متعلقات الجنين بالضغط على بطنها بشدة ،فأنهت مهمتها بصعوبة (ص 195)
شخصية الكاتبة ومقصديتها من هذه الرواية يمكن أن نستشفها فى غلالة رقيقة ، فالكاتبة كفلسطينية محبة لوطنها ، لاترى فى رجوع الحق الفلسطينى المغتصب محالًا ، بدليل أن الملك الطاهر ، وبعد سبعة عشر عامًا استطاع أن يرجع لمملكته وملكًا عليها، وبمساعدة ابنه ، فهذا الوطن يمكن أن يجمع إلى أهله الشرعيين مهماطال الأمد ، بشرط وقوف أبنائه موقفًا ثابتًا من قضيتهم ، والعمل بالنضال لاستراجعه كما فعل حسن ابن الملك ، ومن البداية نجد فى العنوان هذه الدلالة ” حكايات المطر ” المطر رمز الحياة ،لأن به تكون حياة الإنسان ، وبه تحيا الأرض وتنبت نباتها ، وفى بداية الرواية يسأل عمر جدته هل يسافر المرء ويترك وطنه ، فتجيبه بالإثبات ، وتعد له دواعى السفر ، قد يسافر للدراسة ،أو للاستكشاف والمعرفة ،أو للعمل ، أو لحج بيت الله الحرام …أو فرارًا من استشراء الظلم ، خاصة عندما يأتى عدو ظالم يحتل هذا الوطن …عمر يقول: أنا لن أسافر ولن أترك الوطن ، وتقول الجدة وأم حسن رحلت مع ابنها وذلك لغرض آخر … يتمنى عمر أن يرجعا إلى وطنيهما ، وتقول الجدة : سيعودون بعون الله ، فالمفتاح معهم (ص 10) ويهمنا الجزء الأخير من الإجابة سفر أم حسن لغرض آخر ( الاضطرار حتى تتغير الظروف ) وتؤكد العودة بامتلاكها مفتاح بيتها ، وفى الأدب الفلسطينى امتلاك مفتاح الدار رمز لملكية المكان ، وتوكيد العودة ذات يوم لوجود الدار ، وورد فى الرواية عندما كانت أمه قد تركت المدينة ، أوصت بعدم بيعه لهذا البيت مهما جرى ، ووجد رجلا مسنا ينظف البيت فسأله عن هويته فقال له أنا أنظف البيت منذ فترة ..فاستغرب لأنه لم يره من قبل … ” عليك المحافظة عليه والحرص عليه كحرصك على روحك ، فمهما يكن من أمر ، فشعورك بأن لك بيتا يشكل أهم دعائم حياتك ، وعندما يختفى بيتك يختفى شعورك بالأمان ” (ص 56)…وتختم الرواية بقولها ” فما زال المطر ينهمر وأملنا بالخير كثير ” (ص 249) فالأمل ما يزال فى النفوس بنبت جديد ، وحياة جديدة يحدثها المطر ، نتمنى ذلكفى أقرب وقت .
رواية حكايات المطر رواية جميلة فى سردها ، راقية فى غايتها،لاتشعر بملل فى قراءاتها ، بل وتحب العودة لقراءاتها بعد فترة ،وهذا يدلل على جمال الرواية وقيمتها الفنية ورسالتها الإنسانية .
أوبرا مصر ، دراسات ومقالات