إبراهيم عبد المجيد يَكتُب : “سنوات الحرب والحظ” ..سيرة هدى العجيمي والعائلة والوطن

هذا كتاب هام للإعلامية الكبيرة هدي العجيمي التي عرفناها في شبابنا من الإذاعة المصرية في أكثر من برنامح من بينها الأكثر شيوعا بين الأدباء وهو “مع الأدباء الشبان” ولها من قبل كتابي ” رؤى نقدية” و” الإذاعة قصة عشق” . الكتاب صادر أخيرا في سلسلة بعنوان “كتاب طيوف” عن دار يسطرون . الكتاب سيرة لحياتها منذ الطفولة وقبله سيرة لحياة والدها الذي كانوا يسمونه “سي حسن ” علي طريقة نجيب محفوظ في حديثه عن “سي السيد” في الثلاثية، وأيضا والدها “ست فاطمة” علي طريقة “ست أمينة”.
يبدا الكتاب بقنبلة هي الغارات علي مدينة بورسعيد في العدوان الثلاثي عام 1956 ، وبعده تعود إلى الماضي وزواج أمها وأبيها وولادتها وأخوتها بنينا وبنات ، وكيف جاء اسمها من محبة الأب والأم للسيدة هدي شعراوي رائدة الحركة النسائية. يمشي الكتاب محلقا في الأوضاع السكانية والأحياء في بورسعيد ولعب الاطفال والعلاقة مع غيرها من البنات وتفوقها في المدرسة . ودور السينما القليلة في بورسعيد وولعها بالأفلام . تفاصيل كثيرة ساهمت في بنائها العقلي والروحي، وكيف تغيرت المدينة بعد الانسحاب منها عام 1956 فظهرت طبقة جديدة من الأثرياء من أعمال قانونية وغير قانونية فظهرت محلات وعمارات لمن لم يكن لديهم شيئ . مصائر العائلة مع الهجرة ومشاعد الهجرة وأماكنها والعودة لهم وغيرهم وما جرى في بورسعيد. ننتقل معها في رحلة العائلة إلى أكثر من مكان منها القاهرة ثم دراستها في الجامعة بكلية الآداب قسم اللغة عربية. خلال ذلك نعرف كيف كانت أمها شغوفة بالرحلات فجاءت معها إلى القاهرة أكثر من مرة، ونعرف كيف كان شغفها مبكرا بالقراءة ولم تكن الكتب الهامة للمشاهير تصل إلى بورسعيد. كيف تعلقت بمجلة الراديو المصري التي كان يحتفظ بأعداداها والدها، وهي المجلة التي كانت تنشر مقالات كبار الكتاب الذين تستضيفهم الإذاعة مثل طه حسين والعقاد والمازني وفكري أباظة وغيرهم، كما كان الوالد يحتفظ بكتب تراثية قرأتها وتأثرت بها مثل كتاب الأغاني للأصفهاني. كيف ساعدها الحظ بوصول صحف عربية من الشام فكانت تقرأ فيها لنزار قباني وسعيد عقل وراسلتها بما كتبت من شعر عمودي، وكيف وجدت ردود فعل طيبة، ورسائل إليها من رئيس التحرير خالد الشريقي عن الشعر والشعراء استمرت معها في دراستها الثانوية. وأحداث لطيفة من القراء الذين حين عرفوا عنوانها من المجلة انهالت رسائلهم مما سبب لها مشاكل في البيت. ثم كيف حين وفدت للدراسة بالقاهرة التقت بصلاح عبد الصبور الذي كانت ابنته زميلة لها في الجامعة ثم كيف عملت في الإذاعة المصرية. الرائع في الكتاب هو أن الأمور العائلية لا تنفصل عما يجري في البلاد وخاصة الأحداث الكبيرة مثل حرب 1956 و 1967 التي أوقفت الحوار التليفوني بينها وبين من استقرا على الحب والزواج فيما بعد الضابط “جمال رسمي” في الحرس الجمهوري. حياته فى مهنته حتي أحيل إلى التقاعد وكيف تقلبت ين ثلاثة رؤساء، جمال عبد الناصر والسادات ومبارك . كيف كان عمله والأحداث تبعده عن البيت، ووقوفه فى ظهرها في سفرها لبعثة لشهور بألمانية الشرقية لدراسة الاعلام وقعت خلالها أحداث ماسماه السادات بثورة التصيح عام 1971. كيف لم يجد من كانوا معها أو سبقوها فرصة ثانية للعمل بعد العودة لعلاقاتهم السابقة بوزير الإعلام محمد فائق أو غيره ممن قبض عليهم السادات. ما جرى في بورسعيد من فقر يعد حرب 1967 وتوقف الملاحة في قناة السيوس التى كانت أهم مصدر للدخل، ثم عودة ذلك وما قرره السادات أن تكون بورسعيد مدينة حرة، فصارت مدينة للسلع الاستهلاكية استفاد منها التجار بينما لم يستفد الموظفون.

ماجري في البلاد في الإذاعة بعد هزيمة 1967 وتنحي عبد الناصر ثم عودته بعد خروج الشعب مطالبا باستمراره وحرب الاستنزاف، وبداية برامج ترفيهية ومسلسلات لإخراج الشعب من كآبته مثل “شنبو في المصيدة” حتي توفي عبد الناصر عام 1970 وجنازته الجبارة. سياسة السادات التي انتهت بقتله من الجماعات الاسلامية وطريقة العمل بالاذاعة ومن أحبت واكملت برامجهما مثل صفية المهندس، ثم أكثر من برنامج وكما قلت كان أبرزه مع الأدباء الشبان. لا تبعتد قط عن قصص أخواتها وخالاتها وأخوالها ويأخذ كل منها مساحة كبيرة بمافيها من طموح. وفاة والدها وحياة أمها مع الوحدة التي حاول أخواتها أن لاتشعر بها وتصوير ذلك في مواقف وأحداث حتي توفت . أحداث كثيرة جدا رائعة ومؤلمة وتغير فى البنية الروحية للناس والأماكن. ولغة أدبية حافلة بالصور والتصوير أكثر من الوصف حتي أنك لا تترك الكتاب من يدك، فإذا كنت لا تعرف هدي العجيمي ستعرفها لكن ليس وحدها. ستعرف العائلة المصرية وكفاحها وما جري في مصر نفسها خاصة منذ العدوان الثلاثي وكثير من الفنانين والكتاب الكبار الذين مروا علينا، ومن ثم فأنت مع شهادات موثوقة ليس مجرد مشاهدة لمن عاشت كل هذه الأحداث وتقلبت بنيها. رغم أنى عشت كثيرا من هذه الأحداث العامة ورأيتها إلا أني لم أستطع أن اترك الكتاب حتي أنهيته فى يومين وكنت سأنهيه فى يوم واحد لولا معرض الكتاب وتوافد الضيوف من الخارج واللقاءات. في مثل هذه السير يكون التحدي لصاحبها ان يمسك بالقارئ والتحدي الأكبر ان يمسك بمن عاصرها، ولقد نجحت هدي العجيمى فلم تبتعد عن قصص الحب والزواج لها أو لغيرها من بنات وأبناء الأسرة ومن صديقاتها، بالإضافة طبعا لما قلت عنه واقع أحوالنا في ذلك الوقت . شيئ واحد فقط كنت أتمني أن تضعه على غلاف الكتاب وهو كلمة سيرة وصفا له أو سيرة روائية لكنها وضعت كلمة “رواية” . ربما يشفع لها الانتقال بين الأزمنة والعودة في فصول إلى الوراء ثم إلى الأمام وآخر فصلين المكتوبين بضمير المتكلم بلغة أخيها عبد المنعم بعد وفاة والدته، وكان هذا موقفا دراميا شرحته هدي العجيمي ووصفته بدقة وتشويق رائع ومؤلم من قبل، وفصل على لسان أختها فادية قليلة الحظ عن أمها ومحبتها وصبرها على سوء حظ ابنتها في الزواج والمرض وإصرارها على تعليمها من قبل. لكن على أى حال أنا لا انحاز هنا للرواية وأراها مميزة عن السيرة، بل بالعكس أنا منحاز للسيرة كرافد عظيم للأدب وصلت بتشرشل إلى جائزة نوبل وبآني أرنو الفرنسية مؤخرا . وبشكل عام فهناك من النقاد من يبحث عن السيرة فى الرواية وهنا السيرة كلها حقائق محكية بلغة أدبية رائعة لم تفتقد صاحبته محبتها للشعر والأدب فتجلت في حكيها ورصدها للزمان والمكان كأجمل ما يكون.
أوبرا مصر ، دراسات ومقالات