ساحة الإبداع

جعفر العقيلي يكتب تعايش

جعفر العقيلي يكتب تعايش
قصة قصيرة
تَعايُش

وأخيراً، أصبح لي بيتٌ؛ أسكنُهُ ويسكُنُني.
بيتٌ صغيٌر، أنيقٌ، يحتلُّ نصفَ الطابقِ الثّاني لبنايةٍ حديثة في حيٍّ ناشئٍ على أطراف المدينة.
ورغم الجهد الذي أبذلهُ وأنا أقطعُ المسافةَ الطّويلةَ من أقربِ موقفٍ يَصِلُهُ الباصُ مشـياً إلى بيتي، إلّا أنّ سعادةً كانت تجتاحُني كلّما صعدْتُ الدَّرَجاتِ السِّتّ والعشـرين، وهمَمْتُ بإخراج السّلسلة الطّويلة التي يتدلّى منها مفتاحُ البابِ الخارجي بكبرياءٍ من بين المفاتيح الأُخرى.
*
لم يسبقْ أن كان لي بيتٌ كهذا، أو كغيره، فمنذُ أعلنتُ تَمَرُّدي على العائلة وأنا «ابنُ شوارع» كما يَصِفني أصدقائي. تنقّلتُ خلال ثلاث سنوات بين ثلاثين بيتاً وشقّةً وغرفةً لم يكن شـيءٌ ممّا فيها من مُمْتلكاتي، حتّى إنّني استَحْقَقْتُ لَقَبَ «حَبَّة القَلِيّة» عن جدارة!
بعدما طرقَ البيتُ بابَ حياتي، أصبحتُ أكثرَ ميلاً للتَّعرّي واستعراضِ جسدي النّاحل أمام المرايا المُعلَّقةِ على الجدران، وتركتُ العنانَ لأصابعي كي تلهو بالسّلسلةِ المعدنيّة ذات المفاتيح الخمس؛ واحد لخزانتي التي كنتُ أستخدمُها أثناء الجامعة، والثّاني لبابِ بيتي، والثّالث والرّابع والخامس لا أفهمُ وجودَها بحوزتي، إذْ ليسَ لها أبواب.
*
بيتي مكوَّنٌ من ثلاث غُرَف، وصالة متوسّطة المساحة، ومطبخٍ واسع، وحمّام، وفيه ثماني نوافذ، وخمسة أبواب عدا الخارجي، وهو رقمٌ قياسـي أظُنُّ أنّ أيّاً من بيوت أصدقائي لم يَحْظَ بمثلهِ، وأعتقدُ أنّ أحداً لن يخالفَني في أنّ مقدارَ ما يشعرُ به المرءُ من حرّية في بيتِهِ يرتبطُ بعددِ الأبواب والنوافذ فيه.
وعلاوة على ميزاتِهِ المعماريّة، وجماليّات جُدرانهِ المطلّية بعناية، حقّق لي «بيتي» مطلباً كثيراً ما سعيتُ للوصولِ إليه: العُزلة؛ تلك التي اختَرْتُها حينما اخترْتُ أن أقيمَ في هذه المدينة، الجنوبيّة حَدّ التَّطَرُّف، مُفترضاً أنّني سأُنجزُ مشاريعَ لا آخِر لها، تأجَّلَتْ لانْشِغالاتي، واكتظاظي بعلاقاتٍ استنزَفتْني وبدَّدتْ طاقاتي خلال تواجُدي في العاصمة.
نعم. منحني بيتي الحدَّ الأعلى من العزلة التي ياما بحثتُ عن حدِّها الأدنى، ما جعلني أحسدُ نفسـي كلّما فكَّرتُ فيها: لا أصدقاء، لا أقارب، لا ناس أعرفهُمْ أو يعرفونَني، حتّى إنّ أحداً لا يخطئُ عنواناً يبحثُ عنه فَيطرُق بابي ولو على سبيلِ الاستفسار!

بهذا الانقلاب في حياتي، بدأتُ أعي ما يقصدونهُ بـ«البيت»: أن تَكُونَ أنتَ ملْكَ نفسِكَ، وأن تفعلَ ما يحلو لكَ، دون أن تشعرَ أنّكَ مُراقَبٌ من أحدٍ، ما دامت السّتائرُ الزّرقاءُ السّميكةُ تنسدلُ لتغطّي زجاجَ النّوافذ الشّفيف!
*
مَرَّتْ عشـرةُ أسابيع كما أشتهي، قرأتُ فيها ثلاثةَ عشـر كتاباً، وأنجزتُ قِصّتين وقصـيدةً طويلة، وغيَّرتُ مكانَ سـريري أربعين مرّة، وكتبتُ تسعَ رسائِلَ لأصدقاء أحياء وآخرين راحلين -لن تصلَ إليهم لأنّني لم أبعَثها-، وفكَّرتُ بمشـروعِ روايةٍ أحشدُ فيها التجارب التي عشْتُها خلال الغيمات الثلاثين التي مرَّت في شتاءِ عُمري.
لكنّ شُعوري بالوقت بدأ بعد ذلك يتغيّر، وأصبحَ مزاجي غائماً على الغالب. الأيّام تتباطأ، واللّيالي تزحفُ بثقلٍ على كاهلي الهشّ، وبيتي كأنَّهُ يتحوّل إلى قبرٍ يضـيقُ علَيّ بالتّدريج.
«ما أشدّ وطأة العزلة التي اخترْتُها بإرادتي»، هَجَسْتُ وأنا أُقاسـي وحدةً تزدادُ كُلّ صباح. وأَلَحَّ عليَّ السؤال: هل من عاقلٍ يختارُ «منفى» ليستأنِفَ حياتَهُ فيه؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

تمنَّيْتُ أحياناً لو أنّ لي جيراناً كبقية النّاس، يَقُضُّون مضجعي في ليالي وحدتي، يؤنسونني بشجاراتهم الصّغيرة، بأصواتهم الهادرة في سهراتهم المُكتنزة بالثّرثرات. وياما ابتهلتُ: «.. لو يا ربّ تمنحُني واحداً، أسمعُ صـريرَ بابه حين يدخلُ إلى بيته أو يغادره، لأتأكَّدَ أنّني ما زِلتُ في سجلّ الحياة، لا على قيدِ عزلةٍ تتغوّل فِيّ وتلوّن أيّامي بقتامَةٍ لم أعُدْ أحتمِلُها».
*
أدركتُ أنّني أوقعتُ نفسـي في ورطة. فماذا لو كنتُ أسكَنْتُ معي شخصاً آخر، شخصاً واحداً فقط أقول له: «صباح الخير» أو «مساء الخير»، أنتظرُ عودتَهُ كي أشعرَ أنّ هناك من يشاركُني الحياةَ، وأستعجلُ خروجَهُ كي أتنعَّمَ بوحدةٍ قصـيرة الأجل. لماذا لم أخْتَرْ شقّةً في عمارةٍ يَشْغلُ السّاكنون بعضَها. كنتُ سأتَعَرَّفُ إلى ذاتي جيّداً وسطَ لُجّتِهم، بدلَ أن أُضـيعَها/ أُضـيعَني هنا، في غبشِ سكونٍ يُطْبِقُ على ضُلوع المكان.
*
اهتديتُ بعد عناءٍ، إلى حلٍّ يُخرجني من مأزقي.
استدعيتُ متخصّصاً في «الكهرباء»، وطلبتُ منه ضبطَ جرسِ البابِ الخارجيّ، ليرنّ كُلّ ثلاثين دقيقة وحدَهُ، قبل أن يتوقّف بعد عشـرين ثانيةً «أوتوماتيكيّاً».

هي وسـيلةٌ للتّحايُلِ على ما أنا فيه، فكُلّما سمعتُ الرّنينَ أوهمتُ نفسـي أنّ هناك شخصاً ينتظرُ خلْف الباب كي أفتحَه له، لكنني، لِلُؤمٍ في نفسـي، أتركه يعودُ أدراجَهُ وفي ظنّه أنّني لستُ في البيت!
انهمكْتُ في القراءةِ وفي الكتابة، وفطنْتُ كلّ نصف ساعةٍ إلى وجودي، وأصبح الجرسُ «صديقي» الذي يتفقَّدُني دائماً، ويُعيدُ التَّوازُنَ لعلاقتي مع العالم. ولأنَّ «زيادة الخير خير»، اشتريتُ «دزّينة» من الساعات بأحجام مختلفة، مُزَوَّدة بمُنبِّهات ذات أصوات مُتباينةٍ في الإيقاع والحدَّة؛ من النّاعم الرّومانسـي إلى الفَجّ الغليظ، وضبطْتُ كلّاً منها عند وقتٍ معيّن.
أصبحتُ أسمعُ هديلَ الحَمَام وأنا في الحَمَّام. وفي المطبخِ، جرسٌ خشنٌ يخترقُ أُذُنَيّ. وعند انشغالي بالقراءةِ تداعبُ أُذني مقطوعةٌ موسـيقيّةٌ بِهالةٍ فيروزيّة. وهكذا ملأتُ بيتي بالأصوات، وصارَ من المألوف أن يتزامنَ رنينُ جرس الباب المنتظم في توقيتهِ، مع صوتِ أحدِ المنبِّهات الموزَّعة بين الغُرَف الثّلاث والصّالة، لِيصنعا معاً «أوركسترا» تُسعِدُني على غير ما يفترضُه الأمر.
*
لكنّني لم أحسب النتائجَ جيّداً على ما يبدو، إذْ صـرتُ مضطرّاً إلى الاستيقاظِ كثيراً كلّ ليلةٍ، أحاول إسكاتَ ما تَصِلُهُ يدايَ من أصواتٍ تنبعثُ من قلبِ الظّلام.
وشـيئاً فشـيئاً، استحالَ اللّيلُ مقبرةً من الأصوات التي تتوغّلُ في لاوعيي، وتُولِّدُ كوابيسَ تُرعبني كُلّما أغمضتُ جفنَيّ خلسةً للظفَر بنومةٍ قصـيرةٍ لا أطالُها.
رغم ذلك، تعايشتُ قدرَ مستطاعي مع ما يحدثُ بوصفهِ واقعاً لا مهربَ منه، وانتقلتُ إلى «مربّعٍ» آخر حين نجحتُ في تحويل نشازِ الأصوات اللّيليّة إلى طقسٍ مُحَبَّبٍ أُبرزُ فيه قدراتي على التّخيُّل، وصار لي لعبةٌ مفضّلة أبدّل فيها مواقع السّاعات وأنا مُغمَض العينين نهاراً، لأخمّن مواقعها الجديدة في الليل بِتَتَبُّعِ أصواتها.

*
بدأتُ أتقبَّلُ الأصواتَ كائناتٍ تسكُنُ بيتي، تُشاركُني الوقتَ وتشاطِرُني الهمومَ وتفاصـيلَ يومي، وَوَجَدْتُني من غيرِ تخطيطٍ أُنشئ علاقةً معها تكتسـي بالودّ بعد أن أضحتْ جزءاً من عالمي. إذا لَمْ ترنّ ساعةٌ عند الوقتِ الذي ضبطْتُها عليه، اعتقدْتُ أنّها مريضةٌ أو مصابةٌ بصداعٍ رغم أنّ مشكلتَها قد لا تتعدّى نفادَ البطّاريّة. وبلغَ الأمرُ بي أنّني وهبتُ السّاعاتِ أسماءً، أُناديها، وأُدَلِّلُها، وأُميِّزُها بها بعضها عن بعض.
وقبل أيّامٍ ثلاثة، لاحظتُ أنّ هناك مُنَبِّهات تطْلقُ أصواتاً في غير الأوقات التي عوّدَتْني عليها، فقلتُ إنّ خللاً كهذا قد يكون طبيعياً، لكثرةِ الاستعمال، وإنّ المهمّ أنّها تعمل وتُذكِّرُني بوجودِها ووجودي.

*
الكارثة تكمن في ما حدثَ فجرَ اليوم. أمرٌ لم يكُن على البالِ ولا في الخاطر. أفقْتُ هلِعاً على صوتٍ مُزَلْزِل. صوت أعرفهُ ولا أعرفهُ، بدا أنّه يتقصّدُني. وضعْتُ سبّابتي في أذني، محاوِلاً تخفيفَ شدَّتهِ، لكنه واصلَ ارتفاعَهُ ولم يتوقّف. لم يكُن سوى صوت جرسِ البابِ والمُنبِّهات مجتمعةً، كأنّما أصابها انهيارٌ عصبيٌّ وخرجَتْ عن أطوارِها.
احتَرْتُ وأنا أفكّر كيف أُكَمِّمُ أفواهها وأقضـي على مكامِنِ «الفتنة» فيها، قبل أن أفقدَ عقلي!
قفَزتُ باتّجاه المُنَبِّه الأقربِ إلى سـريري، وحاولتُ كَتْمَ أنفاسِه، فلمْ أُفلحْ. وكذا كانت الحالُ مع البقيّة في أرجاء البيت واحداً واحداً، فتيقّنْتُ أنها تتحدّاني. حتّى صديقي -جرس الباب- تمرّدَ عَلَيَّ، ورفضَ الاستجابةَ وأنا أتوسّل إليه كي يَصمت.
عندها حملتُ ما تيسـر من أغراضـي في حقيبةٍ وهرولتُ إلى الشّارع مُعْلِناً هزيمتي، وها أنذا أكتبُ قِصّتي في المقهى، وقد قرَّرتُ ألّا أعودَ إلى بيتٍ تَسكنُهُ كلُّ تلك الأصوات.. بيت كانَ لي وحدي!

جعفر العقيلي

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى