دراسات ومقالات

إبراهيم عبد المجيد يكتب فى “الملحمة المنسية”

أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي

هذا كتاب للباحث الشاب كريم جمال. كريم جمال هو باحث في الموسيقي من مواليد الإسكندرية عام 1992 وحاصل علي دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإنسانية ويكتب في الموسيقى والأدب. أدهشنى العنوان لأنه اختيار عاشه جيلي ورآه، ومع الزمن صار بعيدا لا نذكر منه إلا أن أم كلثوم ساهمت بحفلاتها في مصر والخارج في دعم المجهود الحربي بالمال بعد هزيمة 1967. التفاصيل التي عرفناها من الصحف ضاعت من ذاكرتنا وإن كنا قرأنا مقالات عن ذلك، فلقد كانت عن تلك الظاهرة بشكل عام. يأتي كريم جمال ليعيد كل شيئ أمامك كأنه اليوم والآن. أنت هنا أمام كنز عظيم. لا يتأخر كريم جمال عن كتابة مراجعه صحفا أو مقالات أو كتبا فيعطي الكتاب قيمة البحث العظيمة. الكتاب صادر عن دار تنمية ويقع في 600 صفحة وفيه صور رائعة أيضا للأحداث. بعد تقديم الدكتور فيكتور سحاب عن ذلك الزمن الذي أعادنا إليه الكتاب، يقدم المؤلف لكتابه قائلا أن الكتاب “ليس سيرة تاريخية لأم كلثوم، وليس محاولة للتلصص على حياتها كمعظم ماكتب في حياتها أو بعد وفاتها، ولا محاولة لأرشفة الهزيمة العسكرية الكبرى، ولا انحيازا سياسيا لمرحلة ما. يأتي الكتاب اضاءة لدور كبير لسيدة مصرية صعدت بقوة الإيمان والعمل إلى قمة القمم. مجرد اضاءة عابرة على زمن جميل مضى رغم هزيمة 1967″. ويقدم للكتاب بكلمة لأم كلثوم في مجلة الهلال في  أكتوبر عام 1971 تقول فيها ” أبيت أن استسلم لليأس. لم يكن أمامي إلا أحد أمرين. إما أن التزم بالصمت وأقبع في ركن من الانهيار النفسي، وإما أن امضي بسلاحي وهو صوتي، أبذل ما استطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني “.

  يبدأ الكاتب من مايو 1967 حين اطلقت الإذاعة شعار “أم كلثوم معكم في المعركة”. حديث ضافي عن استعداد الجميع، مؤلفين وملحنين ومطربين للمعركة، والاستعداد العسكري والسياسى. كان حفلها الشهري في الأول من يونيو 1967. ألغت الاذاعة كل البرامج وتوفرت لإذاعة الحفل الذي سيقدمها فيه جلال معوض، أجمل من قدمها. تحدث عن جيوشنا العربية علي الحدود وكيف هي على أعتاب النصر، لكن مشهدا غريبا كان خلف أم كلثوم، وهو شخص يجلس ويمسك بورقة صغيرة لتلقينها كلمات أغنية ” الله معك ” التي وصفها جلال معوض بأنها تحية للجيوش العربية. كان الثنائي رياض السنباطي وصلاح جاهين قد فرغا من تأليف وتلحين الأغنية يوم 30 مايو، ومن ثم لم يتسن لأم كلثوم حفظها يوم 1 يونيو، خصوصا أنها أدخلت كثيرا من التعديلات الشعرية علي النص. غنت أم كلثوم الأغنية في شيئ من التعجل، فلم تزد عن اثنتي عشر دقيقة بدت فيها قلقة. لكن رغم ذلك اشتعلت القاعة وطارت الأخبار في العالم عن الحفل التي غنت فيه بعدها “سلوا قلبي” ثم “حديث الروح”. ما جرى بعد ذلك من هزيمة لم تتوقعها أم كلثوم ولا نحن. هل كان قلقها له معني وخوفا من ذلك!

بعد النكسة وأيام قضتها أم كلثوم مكتئبة في بدروم فيلتها بالزمالك – بالمناسبة هدمت الفيلا بعد وفاتها وصارت عمارة وكان أقل ماتفعله الدولة هو شرائها من الورثة لتكون متحفا باسمها لكن لا فائدة – رأت أم كلثوم أنه لابد من تحويل الهزيمة إلي انتصار والثأر من النكسة، فدشنت بعد أيام قليلة حملتها غير المسبوقة لدعم المجهود الحربي. بدأتها يوم 20 يونيو 1967 حين حولت شيكا بمبلغ 20 ألف جنيه استرليني إلى خزانة الدولة المصرية، وكانت قد تلقته من إذاعة الكويت مقابل إذاعة بعض تسجيلاتها الغنائية. بادرت بتكوين هيئة اسمتها ” هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية ” لإسعاف الجنود والمصابين. انقسمت الهيئة إلى لجنان للتبرعات والمستشفيات والاتصال وشرح القضية الوطنية وغيرها. اجتماعات في منزلها ولقاءات. بدأت التبرعات من الذهب وغيره من سيدات المجتمع وزوجات الوزراء والدبلوماسيين. تفاصيل ذلك وأسماء من تبرعوا مثل الملك سعود بن عبد العزيز. قرارها بإقامة حفلات لجمع مليون جنيه. كانت الحفلة الأولي في ستاد مدينة دمنهور في 17 اغسطس 1967. صفحات رائعة عن الحفل ومن أعده ومن حضره من المشاهير والمسؤولين. تفاصيل الحفل نفسه وألاف الجماهير. الحديث الطريف عن الحاج حافظ عبد العال العمدة الذي كان شهيرا في حفلاتها وهو يدعو لها أو يطلب منها الإعادة، والذي أراه حتي الآن حين تعيد روتانا كلاسيك شيئا من أغانيها أو ماسبيرو زمان. دخل الحفل تجاوز ال35 الف جنيه. ومع المتبرعين بسبائك الذهب بلغ العائد 75 ألف وتسعمائة جنيه.

كوكب الشرق أم كلثوم
كوكب الشرق أم كلثوم

 يأتي بعد ذلك حفل الإسكندرية في سينما الهمبرا، وكيف تجاوزت التبرعات مائة ألف جنيها. نصل إلي حفلتيها في باريس في مسرح الأوليمبيا. تفاصيل اتفاقها مع مدير المسرح “كوكا تريكس”. لم يكن الأمر سهلا لشيوع الاتجاهات الصهيونية بين بعض اليهود هناك. رحلة بحثية مع من كان السبب في الاتفاق وتفاصيل الرفض والمماطلة منها ثم القبول. المهم انتهي الأمر لإقامة حفلتين. الأولي في 13 نوفمبر 1967 والثانية في 15 نوفمبر. تصوير مذهل للزحام الذي أذهل مدير المسرح. زحام من العرب في فرنسا ودول أوربية ومن المغرب والملك حسين الذي جاء من الأردن. كيف كان بين الحضور يهود من فرنسا بلغوا حوالي الخمسمائة يحبون أم كلثوم. الشاب الجزائري الذي صعد إلى المسرح وأمسك بقدمها يقبلها ولم يتركها حتي وقعت على ظهرها. كيف أبعده البوليس وطلبت هي بعد ذلك ان يتركوه فهو محب وليس ارهابيا وانقسام الصحافة حوله. صفحات رائعة وبالتفصيل عما كتبته الصحافة الفرنسية ممثلة في أهم صحفها مثل لوفيجارو اليومية ولوموند وفرانس سوار ولونوفيل أوبسرفاتور وغيرها. كتّاب كبار منهم إريك رولو الصحفي والدبلوماسي الفرنسي، اليهودي الماركسي الذي ولد في مصر واضطر إلى مغادرتها عام 1951. كذلك كتبت عن الحفل الصحافة العالمية. حياتها صارت ملء فضاء الصحف. كانت حفلاتها مثل يوم القيامة يُبعث فيها عشرات الألاف في المسارح ومئات الألاف في البيوت بل والملايين. اعتبرت الصحافة ماجري انتصارا سياسيا لمصر. هي بدورها أرسلت رسالة شكر للجنرال ديجول لموقفه المحايد من عدوان اسرائيل وجاءها الرد: ” لقد لمستِ بصوتك سيدتي أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا” وتحته توقيع بخط يده. تأثرت أم كلثوم بما جري وبكت في فندق ” جورج الخامس ” الذي تنزل فيه قائلة “كان نفسي يحصل دا مع النصر”. أجمعت الصحافة الفرنسية على عالمية أم كلثوم وأنها وحدت بين العرب أكثر من السياسة وهذا صحيح. لقد فعلت بحفلاتها ما لم يفعله الساسة من وحدة بين الشعوب العربية. أحاديث عن التبرعات وعن بيعها لصورها في مزاد علني وعن جولاتها في باريس وصورها أمام المسلة الفرعونية ثم أماكن مثل قوس النصر والحدائق. عودتها مظفرة محملة بالذهب والمال للدولة. احتفاء الصحافة اللبنانية والمصرية بها وماكتبه فنانون مثل صلاح جاهين ومحمد عبد الوهاب ونادية لطفي وفايزة أحمد والفنان جمال السجيني وغيرهم.

 تأتي حفلة في بلدها المنصورة والزحام المذهل والتبرعات والمزاد علي دبلة خطوبة لإحدي الفتيات ليصل سعرها إلي 2000 جنيه، ومزاد على كيس به تراب المنصورة قدمه طفل صغير فبلغ سعره في المزاد 3000  جنيه. أحاديث عن طوابير المتبرعين من الرجال والنساء من أجل تحرير الوطن ولقد رأى ابناء جيلي ذلك.

أم كلثوم على مسرح الأولمبيا
أم كلثوم على مسرح الأولمبيا

 

مع بداية عام 1968 تغيرت الحياة في مصر. لقد محت الهزيمة شيئا من مهابة الزعيم وانطلقت المظاهرات في فبراير بعد أحكام قادة سلاح الطيران التي كانت هزيلة لا تتناسب مع تقصيرهم الفادح في الحرب. لكن أم كلثوم ظلت على هدفها وبدأت رحلة للمغرب العربي. كالعادة حديث مسهب عن علاقة أم كلثوم بالمغرب منذ الخمسينات ولقائها في حفلات بالقاهرة ببعض رجال العائلة والديوان الملكي. كل شيئ بالإسم والحدث. حفلتها الأولى في الدار البيضاء ليلة 3 مارس 1968. الحفاوة التي كان علي رأسها حفل عشاء كبير أقامه ملك المغرب الحسن الثاني علي شرفها ومن حضر الحفل من قيادات. ارتفاع أسعار التذاكر والإقبال الجنوني من أول ملك المغرب، ثم حفلها الثاني والثالث والإيرادات الجبارة. استغلت أم كلثوم وجودها وزارت مدنا مثل فاس وتطوان ثم الدار البيضاء ومدينة الحمراء ومراكش وغيرها. تأتي رحلة الكويت في إبريل عام 1968. لم يكن هذا حفلها الغنائي الأول. تلقت الدعوة من قبل من الجمعية الثقافية النسائية بالكويت واستقبلها سمو ولي العهد وقتها الشيخ صباح سالم الصباح. عادت الجمعية لدعوة أم كلثوم بعد نجاح رحلاتها الفائق. كان عبد الناصر قد أصدر قرارا أن تحمل أم كلثوم جواز سفر دبلوماسي، وكانت هذه أول وآخر مرة تحدث لفنان. سافرت أم كلثوم ومعها فرقتها وصحفيون كالعادة وعادت ومعها نحو 25 ألف دينار كويتي وهو ما يساوي 30 ألف جنيه استرليني وقتها، خصصت منها 13 ألف للمجهود الحربي و12 ألف لأعمال المقاومة العربية. تأتي رحلة تونس وتاريخ علاقتها بتونس كالعادة، والعلاقات بين بورقيبة وناصر التي كانت قد شهدت فتورا كبيرا، فكانت الزيارة إعادة للعلاقات إلى مكانها الصحيح. الحفاوة بها من أول الرئيس بورقيبة وزوجته إلى الوزراء والمثقفين وغيرهم. الجماهير الحاشدة التي انتظرتها في المطار كما في كل رحلة. اهداء السيدة “الماجدة وسيلة” زوجة بورقيبة لها سلسلة ذهبية عليها كلمة “ماشاء الله” لتمنع الحسد. كيف كسب مصففو الشعر من النساء اللاتي سيذهبن للحفلة. كل التفاصيل الصغيرة التي تجعل السرد حكايات جميلة. تشاء الظروف أن تقضي أم كلثوم الخامس من يونيو ذكرى النكسة هناك. كيف أصدرت الحكومة التونسية قرارا أن تكون خطبة المساجد ذلك اليوم ترحما على شهداء العدوان الإسرائيلي. حفل الوداع لها في 8 يونيو 1968 من قبل الرئيس بورقيبة. كيف أُفتتح شارع يحمل اسمها وهو ” نهج أم كلثوم ” لا يزال يحمل الإسم. لقد بلغ صافي ايرادات الحفلين 100 ألف دينار تونسي فكانت رحلة المجد. تأتي رحلة السودان ولا تقل عن السابقة. انتظار سيدات سودانيات لأم كلثوم وقد نسجن لها ثوبا سودانيا. الاستقبال الرائع لها في مطار الخرطوم. كانت أول زياراتها للقصر الجمهوري السوداني في الخرطوم. بعدها توافدت عليها سيدات القصر الجمهوري وبينهم ابنة الرئيس السوداني اسماعيل الازهري. في صباح 26 ديسمبر 1968 كانت السودان تستعد لليلة اللقاء الأول. عبارات المديح بالصحافة وتوزيع أول كتاب عنها بعنوان “أم كلثوم موحدة العرب ” كتبه السوداني حسن الطاهر رزق. من الطرائف وجود رئيس جمهورية بلغاريا جورجي تريكوف هناك ذلك الوقت، فحضر الحفل وبرفقته وفد بلغاري كبير بدعوة من الرئيس اسماعيل الأزهري. قرر تريكوف شراء تذكرته بألف جنيه من جيبه الخاص. تفاصيل الحفل والإعجاب إلى حد الجنون حتى أن بعض الحضور قام بالصلاة أثناء الغناء لما حملته الأغاني من حالة وجد وتصوف. عرفت أم كلثوم أن في مستشفيات الولادة كثيرات ممن انجبن بنات اسموهن أم كلثوم فزارتها، وحملت المواليد وقبلتهن وتمنت لهن مستقبل جميل. تغيير اسم مدرسة الخرطوم للبنات إلى مدرسة “أم كلثوم للبنات” وصل دخل الحفلتين الي 24 ألف جنيه استرليني حولتها لصالح المجهود الحربي. تأتي زيارة لليبيا حملت معني العاصفة وهو شعار منظمة فتح. الآن لن يكون الدخل للمجهود الحربي فقط، لكن له وللمقاومة الفلسطينية أيضا. كانت الظروف صعبة فقبل ساعات من تحركها من القاهرة استشهد الفريق عبد المنعم رياض. لم تكن تستطيع الإرجاء، فكل شيئ معد. بل أن مقاعد المسرح الذي سيكون خيمة كبيرة ومقاعده بالآلف، تم شحنها من قبل من القاهرة. بينما كانت طائرتها تتجه إلي ليبيا كانت جنازة عبد المنعم رياض يتقدمها عبد الناصر في مشهد مهيب. كانت حربا الاستنزاف قد غيرت كثيرا من المشهد العربي وكانت قد تأسست منظمة التحرير الفلسطينية من قبل، والآن صار ياسر عرفات رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة. كان في صحبتها غير فرقتها إعلاميون وكتاب كالعادة. كانت الرحلة من طرابلس إلى بنغازي مساء 17 مارس 1969 شاقة وخطيرة إذ قامت عاصفة ترابية ومطبات هوائية رهيبة جعلت من في الطائرة في حالة رعب، بينما كانت أم كلثوم رابطة الجأش تتطلع من النافذة إلي أعلى في صمت وهدوء. قال رجاء النقاش الذي كان ضمن من معها في مقاله بعد العودة في افتتاحية مجلة الكواكب، أنه بينما فقد كثير من الركاب أملهم في الحياة وصرخ البعض وأغمي علي البعض، كانت أم كلثوم في مقعدها في هدوء وسكون تتمتم بآيات قرآنية همسا.

 أقامت حفلها الثاني في 19 مارس وهنا شيئ طريف. سمعت أم كلثوم شخصا بين أصوات المعجبين يقول لها ” عيدي يامرا عيدي” فقالت له ” اخرس قليل الأدب ” واستمرت في الغناء. لم تكن تعرف أن كلمة” مرا ” كلمة عادية في ليبيا. بعض الصحف احتجت علي رد أم كلثوم واعتبرته موجها للشعب الليبي إذ كان عليها أن تسكت مثلا، لكن الأمر مرّ بسلام. كان دخل الحفلتين 150 ألف جنيه مصري سلمتها أم كلثوم لمنظمة فتح وبلغ أجرها عن الحفلتين 26 ألف جنيه مصري تبرعت بها للمجهود الحربي.

—–

نعود إلى مصر ولقب أم المهجرين. كانت الظروف في مصر قد شهدت تهجير أهالي مدن القناة بعد أن أغرقت البحرية المصرية المدمرة إيلات وتعرضت المدن لقصف عنيف من اسرائيل. عُرف ذلك بالتهجير. توزع سكان القناة على أكثر من 14 محافظة مصرية. توجه عمل أم كلثوم لجمع التبرعات للمهجرين من خلال التنسيق مع الوزارات والقطاع الخاص. مع بداية شهر مايو 1969 تباري المتطوعون وتجاوز الرقم 200 ألف جنيه. حديث عن فيلم عنها بعنوان” ثومة” يخرجه يوسف شاهين ويكتبه سعد الدين وهبة لم يكتمل للأسف. أقيم حفل في مدينة طنطا في الثامن من يونيو 1969 في سرادق كبير بنادي طنطا الرياضي. زارت بعد الحفل معسكرات التهجير ومراكز التدريب ونسقت عبر السنوات التالية مع رجال مثل المهندس عثمان أحمد عثمان لتوفير وظائف للمهجرين فضلا عن تدريبهم على الصناعات الصغيرة، وبذلت في ذلك جهودا عظيمة بالتفصيل. لقد بلغ ما جمعته من أجلهم مع بداية عام 1971 مايقرب من مليوني جنيه ومائة ألف، بخلاف ماجمعته من ذهب وما وفرته من ماكينات حياكة لنساء المهجرين بالألاف واغطية شتوية وملابس في جميع المحافظات.

ننتقل الي رحلة لبنان التي لم تقل جمالا عما سبق، بل يتلألا فيها الأسلوب واللغة بتاريخ لبنان وبعلبك – التي عرفت قديما بمدينة الشمس أو هليوبوليس – وكالعادة تاريخ أم كلثوم مع لبنان منذ رحلتها الاولى عام 1931 ومنها وقتها إلي القدس ويافا وحيفا وسوريا، وتتابع رحلاتها إلى هناك في الخمسينات والستينات. كيف تم التجهيز للرحلة الجديدة والاستقبال الرائع ولقاءات أم كلثوم بفيروز والرحبانية ومعابد المدينة وأعمدتها والزحام المذهل في المسرح الذي تم اعداده بين معبدي جوبيتر وباخوس وزحام التذاكر ونفادها. كان من علامات الجمال ظهور بديعة مصابني في الحفلة، هي التي اعتزلت الفن في مصر ورحلت إلي لبنان وعاشت في مزرعتها معتزلة. كانت الحفلة الأولى في مساء 12 يوليو 1968 حضرها نجوم السياسة والفن كالعادة من لبنان وسوريا وغيرها. من لبنان سليمان فرنجية وزير الداخلية وقتها و الفنانة صباح مع فيروز والرحبانية والملحن اللبناني فيلمون وهبة وكمال جنبلاط وأسماء كثيرة. اقوال الصحافة والتكريمات وكيف قلدها رئيس الوزراء عبد الله اليافي ” وسام الأرز اللبناني ” من رتبة ضابط أكبر. عقب عودتها من لبنان حازت على جائزة الدولة التقديرية في الفنون. تسلمت مبلغ الجائزة من ثروت عكاشة ثم تبرعت به لصندوق معاشات الفنانين وكان 2500 جنيه.

————

 تأتي رحلة الاتحاد السوفييتي مختلفة. حفاوة عظيمة لكن قبل الحفل جاء خبر وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر1970 . حزن أم كلثوم وإلغائها لبرامجها الفنية وعودتها في الثاني من أكتوبر 1970 وهي تبكي. لم يكن موت عبد الناصر محنة بسيطة في حياتها بل محنة لا تقل قسوة عن هزيمة يونيو. فكرت في الاعتزال إلا أن سامي شرف أقنعها أن تستمر لتحقيق الأمل الذي كان يحلم به عبد الناصر. آلاف الرسائل من الجمهور الي بيتها لتعود إلي الغناء. لقد زادت الرسائل على نصف مليون رسالة كلها تطلب عودتها للغناء وتخطي فكرة الاعتزال، لكنها كانت قد دخلت مرحلة مضطربة من حياتها وتغيرت نفسيا. بدأت آلام جسدية حادة تهاجمها فكانت سنواتها الأخيرة بمثابة تشبث بعالم ينهار. وصلت إلى المحطة الأخيرة في  أبو ظبي عام 1971 في إطار الاحتفال بتأسيس دولة الإمارات العربية. دور الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وأجواء الحفل والتبرعات والإهداءات ومنها عقد ضخم مكون من 1888 حبة لؤلؤ طبيعي في تسع صفوف إهداه لها الشيخ زايد بن سلطان. ما كتبه فيها الأدباء والشعراء وكيف ظهرت عليها أعراض التعب الصحي في الغناء فكانت هذه هي الرحلة الأخيرة. قدمت بعدها حفلات في مصر بعد عودتها من رحلة علاج طويلة في أوربا. كانت الحفلة الأولى بقاعة الاحتفالات الكبري/ جمال عبد الناصر بجامعة القاهرة وكان ذلك في سبتمبر عام 1972  ثم حفلين آخرين في ديسبمبر 1972 ويناير 1973. كانت تحاول الغناء وعدم التخلف عن وصلاتها في كل حفلة، لكن التعب كان واضحا رغم أنها لم تتراجع بين وصلة وأخرى. ازداد المرض عليها وتغيرت الأحوال السياسية مع السادات وتخلصه ممن أسماهم مراكز القوي، وبدأت الأخبار والإشاعات عن جيهان السادات وسعيها لتقليص دور أم كلثوم حتي رحلت أم كلثوم في الثالث من فبراير عام 1975. رحلت السيدة العظيمة التي وحدت الشعوب العربية أكثر مما فعله الساسة والزعماء. شكرا للباحث كريم جمال على هذا الجهد العظيم في البحث، وما كتبه عن الأحداث وعن الموسيقى والغناء، والعصر الذين حاول فيه المصريون الإمساك بالنجوم رغم الألام .

إبراهيم عبد المجيد

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى