ساحة الإبداع

أحمد شوقى يكتب الولٌى

كانت المدينة غارقة فى الظلام حين هبط بقدميه الحافيتين وأسماله البالية. سنوات والناس تسأل من أين جاء وإلى أين ذهب ؟ ولا أحد يعرف للسؤال جواب، ولى من الأولياء أم شيطان تجسد فى صورة بشرية، صاحب معجزات أم مسه طيف من الشيطان ؟ صاحب كرامات أم دجال يسخر الجن ؟ غابت الإجابة فمل الناس السؤال حين نزل إلى المدينة كان المطر يهطل وزخاته تنقر فوق قبة ضريح سيدى العارف بالله أحمد بن برقاش المنتصب منذ خمسمائة عام على أطراف المدينة، تلك القبة الفضية التى تتلألأ تحت ضوء القمر وكأنها قطعة من الجُمار، حين أذَّن الشيخ شعيب لصلاة الفجر كان سعدون مُضَّجِع فى فراشه ينظر إلى خيال صورته المعكوس على الحائط ولمبة الجاز خلفه ترتعش فيتمدد ظله وينكمش ، كبر شعيب مرتين وقبل التشهد سمع سعدون صوت شعيب يهمس فى أذنه أى ذنب اقترفته أرواحنا وأجسادنا حتى يكون الخمر حظك والثمالة نصيبنا! من هول الطريق تأوهت القلوب حتى سمعنا صوت تأوهاتها وسالت الدماء من الألم والحسرة!

فزع سعدون وانتفض من مكانه مستعيذًا بالله من الشيطان وشركه، همهم قائلًا لقد ألقى الشيطان فى أمنيتك يا شعيب ، لقد ألقى الشيطان فى أمنيتك !
تهيأ سعدون للصلاة وانتعل قبقابه الخشبي ومشى إلى الجامع فى تؤده، كان صدى صوت القبقاب يصدر دوي مع كل خطوة وعواء كلب يأتى من بعيد والجبل ينتصب أمام المدينة شامخًا يعلوه الدير ..
شيء ما دفع سعدون للصعود إلى الدير وكأنه مدفوع بطاقة روحية لا يعلم عن كنهها شيء ، أول ما صعد إلى الدير وجد الأب مكاريوس يجلس على صخرة ويخمش الرمل بعود رفيع من خشب الصندل، رمقه الراهب بنظرة متعجبة وقال :
أهلًا بالابن سعدون

هل فاتتك صلاة الفجر يا ولدى ؟
ولما لم يجبه سعدون، استطرد الأب مكاريوس
ريح طيبة دفعت بك إلينا، ودفع إليه صحن به لبن وناوله قطعة خبز من الشعير إلا أن سعدون ظل ساكنًا لا يحرك إلى الأب يده.
هم الأب فى الانصراف ولما أدار ظهره سمع صوت سعدون خافتًا مختنقًا.
رأيته قادمًا من بعيد يحمل جُذوة مشتعلة وينادي فى أهل الحى قائلًا:
فى النهاية نفر قليل من بين ذلك الحشد قطع الطريق إلى الحضرة، فقد وصل نفر قليل من كل أولئك الطير فهناك يصل واحد من كل عدة الآف، لقد غرق البعض فى البحر كما أصيب البعض بالفناء وأسلم البعض الأرواح عطشى وذلك على قمم الجبال من الحرارة والآلآم وأصيب البعض من وهج الشمس باحتراق الأجنحة وشواء الأرواح ! صمت الأب مكاريوس ولم ينبث بكلمة واحدة بينما سعدون يمسح عرقه المثلج فوق رقبته:
رأيته يا أبونا رأيته !

كان كثيف اللحية والحاجبين ، ظهر واختفى وكأنه شبح ، حلق فوق قبة الضريح ثم تلاشى فى الفضاء وضاع وسط عتمة السماء، من وقتها وأنا مؤرق لا يغمض لى جفن، يعصانى النوم كلما أسلمت جنبِ للفراش.
ناوله الأب مكاريوس صحن اللبن مرة أخرى ومسح على رأسه
الرب يباركك يا سعدون، الرب يباركك ، لو كان ما رأيته الحق فسيعود ، قطعًا سيعود، هو من أهل الرب ، سيعود يا سعدون فإذا رأيته فلا تفارقه ، وإذا عرفت فالزم يا ولدى ، إذا عرفت فالزم قالها الأب مكاريوس وهو يمط شفتيه وتفيض عيناه بالدمع ، ثم ذم لحيته بقبضة يده، ومسح على رأس سعدون وتوكأ على عصاه وانصرف.

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى