الرئيسيةملفات وحوارات

أوبرا مصر تنشر الملف الأدبي الخاص بالأديب القدير بهاء طاهر

شارك فى العدد

  • ماهر حسن رئيس قسم الثقافة والتراث بالمصري اليوم يكتب افتتاحية : بهاء طاهر.. المغيب الهادئ لصاحب «واحة الغروب»
  • حوار شامل مع راهب الرواية “السيرة والمسيرة و المشروع الروائى وتفاصيل مجهولة” اجراه ماهر حسن الحوار حاصل على جائزة التفوق الأولى من نقابة الصحفيين
  • الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف أستاذ النقد الأدبي (العراق) يكتب: المشاهد السينمائية السردية في رواية (واحة الغروب) للروائي بهاء طاهر
  • الكاتب والناقد وفيق صفوت مختار يكتب : بهاء طاهر والحزن الساكن في أعماقه بهاء طاهر والحزن الساكن في أعماقه
  • الدكتورة منال رضوان تكتب : بهاء طاهر العرفاني الذي انطلق إلى نقطة النور
  • الأستاذ الدكتور أحمد الباسوسي يكتب: قال بهاء “الوعي واللاوعي” في رحلة الكاتب بهاء طاهر (قالت ضحى نموذجا للمسار)
  • الشاعر اشرف عتريس يكتب: الخال بهاء الذى نعرفه
  • الكاتبة والمحاورة نجلاء أحمد حسن تكتب: واقعية بهاء طاهر ورصد التنوع الثقافي بمجموعة الخطوبة
  • الكاتب والناقد زكريا صبح يكتب: اللحظات الفارقة في حياة المصريين في رواية شرق النخيل لبهاء طاهر

رابط التحميل

ماهر حسن رئيس قسم الثقافة والتراث بالمصري اليوم يكتب افتتاحية : بهاء طاهر.. المغيب الهادئ لصاحب «واحة الغروب»

بهاء طاهر من الأدباء الذين ينتمون إلى جيل الستينيات من الروائيين، قاص ومترجم وإعلامي، حصل على الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008 عن روايته «واحة الغروب»، هو الروائي المصري، بهاء طاهر الذي وافته المنية مساء الخميس عن عمر ناهر 87 عاما.

كما يعد بهاء طاهر واحدا من أهم قامات المشهد الروائي المصري والعربي رغم أنه مقل في أعماله الأدبية، وكان من المعارضين لحكم الإخوان، اسمه كاملا محمد بهاء الدين عبدالله طاهر (شهرته بهاء طاهر)، ولد في يوم 13 يناير 1935 بمحافظة الجيزة لعائلة تعود أصولها إلى صعيد مصر مدينة الأقصر (جنوب مصر)، كان والده أزهريا متعلما.

يمكن وصف الروائي والقاص بهاء طاهر بأنه راهب الرواية المعاصرة. الذي ينقطع لعمله الروائي، بتجرد، وإخلاص، مراهنا على محبة القارئ، إيمانًا بأن الإبداع فعل تنويري، ومعرفي، وإن كره الظلاميون.. يكتب بلا افتعال، ولا انفعال قابل للزوال.. يكتب بعشق، ورصانة وبقلق على الوطن، والناس، والواقع، والمستقبل..

فالكتابة لديه فعل مشوب بالقلق في إبداعاته. ونقف في صياغاته الروائية على رصد للتحولات السياسية، والاجتماعية وتجلياتها على علاقة المثقف بواقعه من جانب، وبالسلطة من جانب آخر، وأيضًا على علاقتنا الملتبسة بالآخر، ويمكن القول إن الرواية لديه التزام، ورسالة، وفن ودور، ومراجعة للذات، والواقع، والضمير الجمعي.. الأهم أن بهاء طاهر واحد من أبرز المجددين في السرد العربي، وهو «ابن زمانه» ومكانه وخطابه وتاريخه، ورغم يقينه بمأزق النخبة، فإنه لم يفقد الثقة في الثقافة والإبداع كفعل تنويري، فالثقافة لديه مرادف للفعل والتغيير والحرية والوعي.

وأعلن فوز بهاء طاهر بجائزة بوكر «للرواية العربية»، بروايته «واحة الغروب»، والمعروف أن هذه الجائزة قد تأسست في بريطانيا عام 1968، لأدباء بريطانيا والدول الأسكندنافية وأيرلندا وقد تم تأسيس فرع عربي لها في الإمارات، لتشجيع الترجمة والإبداع العربي على أن تقوم دور النشر بترشيح المتقدمين للجائزة وقد تقدم للجائزة في هذه الدورة 131 عملًا من 18 دولة تم اختيار ستة عشر عملًا من سوريا ولبنان ومصر والأردن وفاز بهاء بالجائزة التي رأت في روايته «واحة الغروب”، عملًا روائيًا نوعيًا بالمعني الجمالي والقيمي وقد اعتمد المؤلف على مجاز الرحلة التي ترصد الأزمة الروحية لإنسان مهزوم وتبلغ قيمة الجائزة خمسين ألف دولار، فيما حصل كل من المرشحين الستة على عشرة آلاف دولار.

تدور أحداث الرواية الأحدث لبهاء طاهر «واحة الغروب» في نهايات القرن التاسع عشر في أعقاب فشل «هوجة عرابي» وكانت «واحة سيوة» هي مسرح أحداثها، حيث تم نقل محمود عبدالظاهر مأمورا للقسم هناك وهو ممتلئ بوهم بطولي لعبه في ثورة عرابي ولذلك فقد كان يري في نقله إلى سيوة عقابا على هذا الدور البطولي، ويطرح العمل أسئلة تواجه الذات والواقع وتراجع القناعات السياسية والوجودية.

بهاء طاهر من مواليد 1935 لأسرة صعيدية، لكنه لم يعش في الصعيد، ولذلك فهو لا يعتبر نفسه صعيديا خالصا فقد أمضي عاما واحدا في «الكتاب»، ثم التحق بالتعليم الإلزامي والتحق بعدها بالمدرسة السعيدية وحصل منها على التوجيهية، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وحصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ عام 1956 وحصل بعدها على دبلومة عليا في الدراسات الإعلامية، وعمل مخرجا ومعدا بالبرنامج الثقافي الذي كان من مؤسسيه عام 1957 وشغل موقع نائب المدير حتى عام 1975، إذ تم إيقافه عن العمل في عهد السادات وعمل في فرع الأمم المتحدة في جنيف في المدة من 1981 وحتي عام 1995 وشغل موقعا في مجلس إدارة اتحاد الكتاب، ولكنه استقال منه، وأحدثت استقالته دويا كبيرا.

وكان بهاء طاهر عضوا بالمجلس الأعلي للثقافة وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1997 ومن أشهر أعماله «الخطوبة» و«بالأمس حلمت بك» و«أنا الملك جئت» و«خالتي صفية والدير» و«الحب في المنفي» و«نقطة النور» وحديثا «واحة الغروب»، كما كانت له بدايات مسرحية وترجمات كان من أشهرها «السيميائي» لباولو كويلهو والتي حملت عنوان «ساحر الصحراء»، فضلا عن كتاباته النقدية وكتابيه «في مديح الرواية» و«أبناء رفاعة» درس مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي في مدينة الجيزة، ثم حصل على الثانوية العامة 1952، والتحق بكلية الآداب فحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص التاريخ عام 1956، وفي نفس العام نال دبلوميْ الدراسات العليا في الإعلام والتاريخ الحديث.عمل طاهر في البداية مترجما في الهيئة العامة للاستعلامات، ثم مخرجا للدراما ومذيعا للبرنامج الثاني الثقافي في الإذاعة المصرية -الذي كان أحد مؤسسيه عام 1968- حتى 1975.ولما منع من الكتابة في العام نفسه، انتقل للعمل مترجما في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية، ورحل إلى جنيف بسويسرا عام 1981 حيث عمل في مجال الترجمة كموظف في الأمم المتحدة، حتى عاد إلى مصر في نهاية التسعينيات، بعد إحالته على التقاعد.ظهرت أولى مجموعاته القصصية عام 1972 بعنوان «الخطوبة»، وقدم أعمالا روائية وقصصية في شكل دراما إذاعية، وكتب السيناريو، وهي التجربة التي استثمرها في قصصه ورواياته، وخاصة تقنية “الحوار” التي غدت عنصرا أساسيا في أعماله وسمحت للقارئ بالاقتراب من شخصيات أعماله.لم تظهر مجموعته الثانية «بالأمس حلمت بك» إلا عام 1984، ثم كتب أولى رواياته «شرق النخيل»، ثم «قالت ضحى» عام 1985، وتوالت أعماله القصصية والروائية بعد ذلك، وظهرت أغلب أعماله الروائية والأدبية في سن متأخرة نوعا ما.اعتبره بعض النقاد مؤسس تيار الوعي في الرواية المصرية، ورأى آخرون أنه روائي بنكهة سويسرية، باعتبار أن أهم مراحل الإبداع لديه كانت في سويسرا، وعاب عليه نقاد قلة إنتاجه الأدبي.تفاعل طاهر بشكل إيجابي مع ثورة 25 يناير 2011 على غرار عدد من الأدباء والكتاب، لكنه سرعان ما عبر عن مخاوفه من عودة التيار الإسلامي الذي ظهر بقوة في الحراك الثوري، وبدأ في الإعراب عن مخاوفه بشكل علني، ثم عارض حكم جماعة الإخوان «الإرهابية»شارك في الاعتصام الذي دعا إليه الروائي صنع الله إبراهيم في مكتب وزير الثقافة علاء عبدالعزيز -أيام حكومة هشام قنديل خلال حكم الإخوان الإرهابية- احتجاجا على «أخونة الدولة». وأيد مظاهرات 30 يونيو 2013، كما أيد تولي وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر. لكنه عاد وأيد ضرورة الحوار مع الإخوان واعتبر أن المصالحة معهم ضرورية لمصلحة البلاد.كتب طاهر مجموعة قصصية وروايات، منها: «الخطوبة»، وبالأمس حلمت بك، وأنا الملك جئت، وذهبت إلى شلال. ومن رواياته: شرق النخيل، وقالت ضحى، وخالتي صفية والدير، والحب في المنفى، وواحة الغروب. وله مؤلفات في النقد والدراسات منها كتاب 10 مسرحيات مصرية.. عرض ونقد، وأبناء رفاعة.

ترجم أعمالا أدبية منها عمل يوجين أونيل المعنون بـ«فاصل غريب» الذي ظهر عام 1970، ورواية «الخيميائي» لباولو كويلو تحت عنوان «ساحر الصحراء» عام 1996. وتُرجم بعض قصصه إلى لغات عالمية، وخاصة روايته «خالتي صفية والدير» التي نالت شهرة عالمية، وترجمت إلى معظم اللغات العالمية المعروفة

نال بهاء طاهر جوائز عديدة منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1998، وجائزة «جوزيبي أكيربي» الإيطالية عن «خالتي صفية والدير» عام 2000، وجائزة آلزياتور الإيطالية عن «الحب في المنفى» عام 2008، والجائزة العالمية للرواية العربية عن واحة الغروب وردّ عقب ثورة يناير 2011 جائزة مبارك للآداب التي كان حصل عليها عام 2009، قائلا إنه: «لا يستطيع أن يحملها وقد أراق نظام مبارك دماء المصريين الشرفاء»
وأذكر الحوار الذي أجريته مع بهاء طاهر ونشر على صفحات المصري اليوم عقب فوزه بالبوكر وبهذه المناسبة أحب أن أضيفه إلى البروفايل لتوضيح الكثير من النقاط في سيرة ومسيرة الأديب الذي رحل عن عالمنا قبل عدة شهور

راهب الرواية العربية بهاء طاهر الفائز بجائزة «البوكر» العربية: التاريخ في «واحة الغروب» نقطة انطلاق واستغرقت مني 4 سنوات
أجرى الحوار: ماهر حسن
رئيس قسم التراث والثقافة بالمصري اليوم

«واحة الغروب» هي التجربة الأولي لك التي تستلهم التاريخ؟
– هي تجربة جديدة علي مسيرتي، وهي تستلهم من التاريخ لأنني التزمت في كتابتها بالتاريخ حرفياً، عن حدث وقع في واحة سيوة عام 1897، عن مأمور قسم الواحة واسمه «محمود عزمي»، وطوال أحداث الرواية أحاول أتلمس تحليلاً لهذه الشخصية الأساسية التي اسميتها «محمود عبدالظاهر»، بعد أن تم نقله للواحة بعد مشاركته في ثورة عرابي، وتأثير ذلك عليه وعلي زوجته الأجنبية، وكيف تطورت علاقته بالواحة وسكانها في ذلك الوقت، فهي رواية -كما قلت- جديدة بالنسبة لي، إذ لم أكتب رواية ذات طابع تاريخي في حياتي، خصوصاً أن كل جزء منها جاء مروياً علي لسان شخصية مختلفة، فضلاً عن محاولتي تلخيص الكثير من تجاربي التي عشتها في هذه الرواية، وكتابتها استغرقت مني أربع سنوات، والتاريخ فيها نقطة انطلاق، أما المتن فهو العمل الروائي نفسه والأفكار الحامل لها.
كنت أول من قدم «باولو كويلهو» للقارئ العربي عبر ترجمتك «السيميائي» وما يلفت النظر وجود أوجه للشبه بين عمله «السيميائي» وعملك؟
ـ حين قرأت رواية كويلهو أعجبتني، وقلت في مقدمة الطبعة الثالثة للترجمة إن الأسئلة التي طرحتها في الطبعة الأولي مازالت مطروحة إلي الآن مثل لماذا أحدثت هذه الرواية ضجة، وكيف لاقت إقبالا مماثلا بين أكثر من بلد مثل إيران واليابان والهند وفرنسا ومصر، ولماذا لاقت نفس الاهتمام من هذه الثقافات المختلفة، بالرغم من اختلافها، فهي في الحقيقة رواية جيدة، لكنها ليست عظيمة ولا يمكن وضعها في نفس مصاف الروايات العالمية الخالدة مثل أعمال «ديكنز» أو «ديستويفسكي»، ولا أخفيك القول إنني لم أقف علي إجابة واضحة لهذا السؤال وربما غموض السبب هو سر هذا الرواج.
* لكن يدهشنا وجود أوجه للشبه بين هذه الرواية وبين «أنا الملك جئت»؟
ـ هذا أمر غريب أيضا، الروايتان تدوران حول فكرة البحث، لكن الفارق بينهما أن بطل روايته قادم من الغرب للشرق، وبطل روايتي ذاهب من الشرق للغرب، وأتفق معك بشأن وجود أوجه للشبه غريبة جداً وصلت إلي حد تشابه العبارات، ولكنني نشرت روايتي قبله بثلاث سنوات، وهذا أمر محير.
* ربما قرأ روايتك قبل أن يكتب؟
ـ هذا أمر مستبعد فلم تكن روايتي قد ترجمت بعد لأي لغة، لكن هذه الظاهرة نجدها في الأدب العربي، حيث الحافر علي الحافر، إذ تجد كاتبين يكتبان حول نفس الفكرة دون اتفاق.
* إلي أي حد أثرت النشأة الصعيدية فيما تناولته في «خالتي صفية والدير» ألم يكن البيت في هذه الرواية هو بيت العائلة؟
ـ أنا عمري ما عشت في الصعيد، إنما البيت هو بيت شقيقتي الكبري رحمة الله عليها، إذ كنت أداوم علي زيارتها في الإجازات الصيفية، والحديقة التي اشتراها والدي كانت تقع إلي جوار هذا البيت، وذكريات الطفولة في هذه القرية حاضرة في مخيلتي بكل وضوح، وأثناء كتابتي هذه الرواية كنت أفاجأ بأشياء غريبة جدا بما في ذلك بعض التعبيرات والمصطلحات الصعيدية، رغم أنني كتبتها وأنا في سويسرا، وفوجئت بهذه التعبيرات تقفز إلي الذاكرة بعد أربعين عاما، فهناك أشياء من الطفولة تظل محفورة بداخلك، وأنا مندهش جدا حينما أجد بعض النقاد يربطون بين بعض أعمالي، ونشأتي الصعيدية، رغم أنني لم أعش في الصعيد نهائيا.
* تلقيت تعليمك في المدرسة السعيدية التي تخرج فيها الكثير من المشاهير في كل المجالات، هل يمكن القول أن بذور الوعي السياسي تشكلت في هذه الفترة؟ وما الذي تعلمته في السعيدية؟ خصوصاً إن تلك الفترة شهدت غلياناً سياسياً في مصر؟
ـ تعلمت فيها كل شيء، وأنت تعيدني إلي سيرة والدي رحمة الله عليه، فقد كان عضواً في التنظيم السري لثورة 1919م، وعندما ألغي هذا التنظيم غضب والدي جدا من حزب الوفد، وكانت ميولي وفدية لكنني لم أكن أجرؤ علي أن أصرح بهذا أمامه.
* بمناسبة قمع المظاهرات وضرب المتظاهرين ما الفارق بين أساليب مواجهة النظام للمظاهرات قديماً وحديثاً؟
– ما كنا نتعرض له قديماً «مايجيش حاجة» بالمقارنة لما يحدث الآن، فقديماً كانت بلوكات النظام تحاصر المظاهرة، وهم مجموعة من الجنود الغلابة ومعهم شوم ودروع، وربما تتعرض للشومة أو لا تتعرض، أما الآن فهم يواجهون المظاهرات بالكاراتيه، وأفراد مندسين وسط المتظاهرين، كنا نشعر بطمأنينة في ظل حكومات الوفد، وحينما قامت الثورة، لم تكن هذه الروح سائدة، وأذكر أن أول مظاهرة خرجنا فيها كانت تهتف «يسقط حكم البكباشية» وكنا في السنة الجامعية الأولي وبدلاً من بلوكات النظام في مواجهة الطلبة، جاء البوليس الحربي وأذكر أننا اعتصمنا ذات مرة في القاعة الكبري لجامعة القاهرة عام 53 أو 54 فحوصرنا وتلقينا تهديدات عنيفة.
* معني هذا أن الناس لم يكونوا متحمسين للثورة في بداية عهدها؟ 
– بالنسبة لي شخصياً بدأ الحماس للثورة مع تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، لم أكن أطيق أحداً يهاجم عبد الناصر في تلك الفترة، لكننا عدنا لانتقاده بعد العدوان، حيث كانت هناك ممارسات للثورة تدعو للانتقاد مثل المحاكمات العسكرية والممارسات الأمنية.
* منذ متي بالضبط وصف بهاء طاهر بأنه ناصري؟ 
– بعد وفاة عبد الناصر، لم أكن منضماً لأي من تنظيمات الثورة الاشتراكية، حتي إن بتوع التنظيم الطليعي كانوا يكتبون في التقارير.
* وكيف عرفت هذا؟ 
– اطلعني أحد الموظفين الإداريين في الإذاعة في ذلك الوقت، علي تقرير مكتوب ضدي.
* من كتبه؟
– لم يرني اسم كاتب التقرير.
* وكيف كان تأثير هذه التقارير علي موقفك الوظيفي في البرنامج الثقافي؟
– جاء شخص من جهاز أمني يحقق مع البرنامج الثقافي كله وليس معي فقط، وقال: إنه تلقي شكاوي ضدنا ولم يقل لنا من هم أصحاب هذه الشكاوي.
* قلت إنك أصبحت ناصرياً بعد وفاة عبد الناصر فهل لأنك قمت بمراجعة أفكارك المتعلقة بعهد عبد الناصر، وبعدها قدمت كشف حساب لعهده؟
– هذا صحيح فضلاً عن أنني أحسست أكثر بعبد الناصر حينما مررت بتجربة أخري، وهي عهد السادات، ورغم جو الخوف في العهد الناصري الذي عبرت عنه في قصة «شتاء الخوف»، لكن مع التقدم في السن والخبرة وتأمل تجارب أخري ومع القراءة المستفيضة، أصبحت لا أحكم علي زعيم سياسي من خلال عمل واحد قام به، وإنما بمجمل مواقف وأفعال، وعبد الناصر له الكثير من الايجابيات التي لايمكن انكارها، فهو الذي أنجز الإصلاح الزراعي، وهو الذي أخرج الإنجليز من مصر وهو الذي أسس القطاع العام وأيضاً السد العالي، وهذه انجازات لا يمكن إنكارها وكانت موضع حماس وترحيب منا جميعا، ولكن أيضاً كانت هناك اعتقالات غير مبررة، هذا غير الطامة الكبري المتمثلة في نكسة 1967م.
* هل زعزعت النكسة إيمانك بعبد الناصر، وهل مثلت إجهاضاً للحلم الثوري بالنسبة للمثقفين والنخبة، ألم تحدث هزة وخللاً بداخلك؟
– احدثت هزة وخللاً نعم، لكنها لم تزعزع إيماننا بالحلم الثوري أو بعبد الناصر، بل كان الشعور العام أن البلد وقع ولابد أن يقف مرة أخري، فكان كل واحد يقوم بما يستطيع القيام به، ولم نفقد الأمل في البلد ولا في الثورة ولا في عبد الناصر، فلم يكن رد الفعل هو رفض عبد الناصر أو مرحلته، بل دفعتنا الهزيمة إلي الالتفاف حوله علي نحو أكثر مما سبق، وكأنما كان عبد الناصر ممثلاً ورمزاً لراية مصر، التي لا يمكن أن تسقط أو تنكس، حتي وإن لم ننس الأخطاء والخطايا، فلقد شعرت بأن كارثة حطت علي مصر ويتعين علينا إخراجها منها أولاً ثم «نتحاسب»، وحتي عبدالناصر نفسه كان يعلم ذلك وكانت لديه نفس القناعة.
* هل معني هذا أنك خرجت في المظاهرات التي طالبت عبد الناصر بعدم التنحي والبقاء في موقعه؟
– نعم.. وسأحكي لك قصة هذا اليوم المشهود، فقد كنت أسكن في وسط البلد في شارع سليمان، وكان معي راديو «ترانزستور»، وسمعته وهو يلقي بيانه الذي أعلن فيه تنحيه، فإذ بي أصرخ قائلاً «لا» ونزلت سلم العمارة بسرعة.. فإذا بي أجد العمارة كلها تفعل مثلما أفعل، وظللنا نمشي حتي باب الحديد، ووجدنا هناك «أمة لا إله إلا اللّه» ولم استطع استكمال المظاهرة، ولم تكن المسألة متعلقة بشخص عبد الناصر بقدر ما كانت متعلقة بالبلد الذي حطت عليه الكارثة، لكن عبد الناصر كان قد مات قبل الحساب، ومع ذلك لم نفقد إيماننا بالمنطلقات السياسية، بمكتسبات وتطلعات الثورة،وما حرصت علي تحقيقه من اقتصاد وطني وعدالة اجتماعية، وحق الفقراء في نصيب من ثروات البلد والتعليم المجاني لغير القادرين، فضلاً عن مقاومة الاستعمار ودعم حركات التحرر العربية، ولا أظن أنني فيما بقي لي من عمر سأفقد إيماني بهذه المعتقدات أو أتشكك أو أشكك فيها.
* هذه كانت ملامح إيجابية كثيرة تميزت بها الفترة الناصرية، وأنت قلت إنه عهد لم يكن خالياً تماماً من السلبيات، فماذا إذا قارنا هذه السلبيات بسلبيات العصر الحالي، أعني عصر مبارك، وكيف كنت تقيم العصر الذي نعيشه؟
ـ قيمته مائة مرة فيما كتبته من مقالات
* فلتذكر بعضاً منه؟
ـ أهم ملامح هذا العهد أننا فقدنا استقلالنا الوطني، وغرقنا في قضية التبعية، وتآكلت فكرة العدالة الاجتماعية وذابت، وأصبح هناك استقطاب من قلة تملك كل شيء، وأغلبية لا تملك أي شيء، ومجانية التعليم أصبحت وهماً، واستشري الفقر، وغابت فكرة التقرب بين الطبقات، فلم يعد هناك وجه للمقارنة بين عهد الثورة في نقائه الأول والعهد الذي نعيش فيه، وإذا زعم أحد أنه كان هناك «تكويش» من قبل بعض الضباط في عهد الثورة، فلا وجه للمقارنة مع ما يحدث الآن من فساد مستشر، وهذه الدرجة «من التغول» جعلتنا غير قادرين علي تصنيف النظام الحالي، إذا كان رأسمالياً أو اشتراكياً فهو نظام حكم الأثرياء.
 * لكن هناك حرية بالمقارنة بما سبق، فلم يكن بإمكان أحد أن يهتف ضد حاكم ويقول له «كفاية» أو «يسقط» فلان أو تصل الصحافة إلي سقف غير مسبوق من حرية نقد النظام ذاته؟ 
– هي حرية «النباح»، وحتي هذه الحرية يواجهونها بـ«الكاراتيه» و«الكلاب البوليسية»، وكل هذه الحرية والهتاف «الضد» لا أهمية له عند النظام، بل يصب في مصلحة النظام، وعد إلي سؤالك وتأمله، إذ إنك وصفت هذا العهد بأنه عهد حرية، وهذا منتهي الخطورة، وأذكر مقولة لإسماعيل المهدوي، كتبها ذات يوم في «الأهال» إذ قال إن حرية الكلام بدون حرية فعل ستصيب الناس بالإحباط، حتي إنه سيكون ظاهرة عامة، يصاب شعب بأكمله بالإحباط.. النظام يقول: «اشتم زي ما انت عاوز»..
لكن حينما يخرج نحو عشرين شخصاً في مظاهرة لحركة كفاية في ميدان سليمان باشا تجدهم محاصرين بعشر سيارات أمن مركزي علي الأقل.. وهذا أخطر بكثير من حظر القول والفعل معاً، سأعدد جملة من الأمور، منها انهيار التعليم، واستشراء الفساد، واتجاه البلد للتوريث، والتبعية السياسية وغياب البحث العلمي، والتخطيط المستقبلي بعيد المهدي، وانهيار البنية الأساسية وتردي العلاج واستشراء الأمراض، والتخبط الاقتصادي، وغياب الرقابة، وانهيار الثقافة، وغياب دور مصر الريادي والمحوري، والحكم البوليسي، وغيره من التفاصيل الأخري التي لا نعرف أين ستؤدي بنا.
* وأين النخبة من هذا، وأين دورهم التاريخي في التواصل مع الناس وتوعيتهم وقيادتهم باعتبار النخبة ممثلي الضمير الجماعي الوطني؟
– لا يستطيع المثقفون عمل شيء.. هم يرشدون إلي الطريق فقط، وأعتقد أن المثقفين يقومون بأدوارهم، واقرأ صحف المعارضة واقرأ مثلاً مقالات فهمي هويدي في صحيفة قومية.. وأنا شديد الإيمان بالشعب المصري، ودراساتي في التاريخ تقول إنه لا يمكن التكهن بردود فعل الشعب، وحين تبدو لك الأمور علي ما يرام، وأن الأمن مستتب يقوم الشعب المصري «بقومة» مفاجئة وعارمة، وارجع لثورة 1919، التي لم تسبقها أي إرهاصات واضحة، نحن شعب عاش ستة آلاف عام من المحن المتتالية لكنه تجاوزها.
* حينما كنت تعمل في الإذاعة ترجمت نصوصاً مسرحية، وأخرجت نصوصاً أخري، كما كتبت ثلاث مسرحيات قصيرة، وكان المسرح علي هذا هو الأسبق في مسيرتك الكتابية قبل القصة القصيرة والرواية، فلماذا لم تواصل العطاء في مجال المسرح؟
– كل ما كتبته هو مسرحيتان قصيرتان وغيرهما لم ينشر، لكن لماذا لم أستمر في كتابة المسرح؟ لم أفكر في هذا الأمر، كل ما أعرفه وأذكره أنني اتجهت لكتابة القصة القصيرة بفضل الزخم الذي حققه العظيم يوسف إدريس، وكانت القصة القصيرة آنذاك هي الفن الذي التقط ذبذبة العصر وكانت الأكثر تعبيراً. وكان يوسف إدريس قد حقق هيبة ومكانة للقصة القصيرة، وبسبب هذا اتجه معظم أبناء جيلي، وربما الأجيال التالية علي جيلنا، إلي كتابة القصة القصيرة، ذلك الجنس الأدبي الذي حقق له يوسف إدريس جاذبية كبيرة. وكانت القصص التي نكتبها تلقي صدي.
وأذكر مثلاً أن أول قصة نشرتها، كتب لها يوسف إدريس المقدمة في مجلة «الكاتب»، وكان يصدرها أحمد عباس صالح، وعلق عليها أكثر من شخص، من بينهم شخص لم ألتقه في حياتي اسمه «عاشور عليش»، إذ وصفها بأنها قصة جديدة، وحينما قرأتها في ندوة في الجمعية الأدبية المصرية، حضر عدد كبير من الناس مثل الناقد الكبير عبدالقادر القط، فكانت كل هذه «الدوشة» وهذا الاحتفاء لصدور قصة قصيرة، وقديماً كان هناك مناخ ثقافي شديد الخصوبة، الآن ممكن أن تصدر رواية ولا يكتب أحد عنها حرفاً.
* وأين يكمن الخلل في تصورك فيما يحدث الآن.. هل نعيش إحباطاً عاماً؟
– نعم.. جو الفساد في المنظومتين الإعلامية والثقافية معاً، اختلت فيه القيم وانقلبت المعايير، وأصبح أي «حد بيفك الخط» هو كاتب كبير، لقد انقلب سلم القيم رأساً علي عقب تماماً، مثلما انقلب في الاقتصاد والمجتمع والتعليم.. لقد انقلب الحال في كل شيء، ولم يعد من المأمول أن ينصلح حال الثقافة، إلا إذا انصلح حال المجتمع.
* بعد فترة انتعاش وإغواء القصة القصيرة جاء الانتعاش الروائي، فهل يمكن تفسير هذا وفقاً للمقولة النقدية للدكتور جابر عصفور بأن «هذا زمن الرواية لأنها استطاعت التقاط ذبذبة العصر، وأنها الفن الأقدر علي التعبير عن الكتل البشرية المتحركة التي لا يربط بينها رابط إنساني»؟
– قرأت هذا الكتاب للدكتور جابر، وهو الذي يحمل عنوان «زمن الرواية»، بل شاركت في مناقشته، وفي تصوري أن هناك جانباً غير صحيح وآخر صحيحاً، أما الجانب الصحيح فإن هناك إقبالاً كبيراً علي كتابة الرواية، حتي إنها شكلت إغواء لبعض الشعراء الشباب، ولكن الجانب غير الصحيح أنه لا يمكن للفن الروائي بمفرده أن يعبر عن عصر ما، حيث لا يمكن أن ينفرد فن بالطاقة التعبيرية عن عصر من العصور، فلابد أن يكون هناك حضور مماثل للمسرح والشعر والنقد، ولذلك أنا أتوقع أنه إذا لم ينصلح حال المجتمع، فسيصيب الرواية ما أصاب غيرها.
* نعم هناك زخم روائي، لكن ما الرواية أو الروايات الفارقة التي تميز بها عصرنا الحالي، وهل عدم شعورنا بوجود مثل هذه الروايات يعود لخلل نقدي أيضاً؟
– هناك روايات عظيمة جداً وروائيون كبار بالفعل، ولكن لم يعد هناك تلك النزاهة والمناخ الثقافي العام، الذي تواجد منذ الرافعي وحتي منتصف الستينيات. أما عن حركة النقد فهي مظلومة أيضاً، فلدينا نقاد ممتازون، لكن أين المنابر التي يمكنها استيعاب كتاباتهم، والإجابة: لا توجد منابر.
هذا جانب، أما عن الجانب الآخر فهل يتم منح الناقد الحيز الذي يتيح له أن يعبر عن رأيه، بصرف النظر عن مواقفه السياسية، وعلاقاته الاجتماعية بالمسؤولين عن الثقافة، لو كان هذا موجوداً سينصلح الخلل الموجود، فهناك من همش النقاد الحقيقيين، وأخرج نقاداً زائفين، وهمش الأدب الحقيقي في مقابل إبراز الأدب الموالي للسلطة، فهناك خلل عام.
* في منتصف السبعينيات أوقفت عن العمل في الإذاعة، وسافرت للعمل في الأمم المتحدة بـ«جنيف» وبعد زوال عهد المنع لماذا لم تعد لعملك في الإذاعة مرة أخري؟
– سأحكي لك حكاية ربما أحكيها للمرة الأولي، وهي أنني أثناء عملي في الأمم المتحدة كنت أعود للقاهرة في الإجازات، وألتقي أصدقائي في الإذاعة، فالتقيت فهمي عمر وكان آنذاك رئيساً للإذاعة، فقال لي: ألا تفكر في العودة للإذاعة؟ فرحت بالاقتراح، فإذا به يقول لي: أنا سألت خمسة أجهزة أمنية، إذا كان لها اعتراضات علي عودتك للعمل في الإذاعة فنفت، ولم يكن هناك اعتراض أمني علي هذا، فقلت له إنني سأقدم استقالتي في الأمم المتحدة لأعود للعمل في الإذاعة لكن يلزمني أن أخطر الأمم المتحدة قبل استقالتي بستة أشهر وفق المعمول به، فقال لي: «قوي قوي.. أنا حجزت لك موقع في الإذاعة».. وعند انتهاء إجازتي ذهبت لأودعه قبل السفر لجنيف فإذا به يقول لي: يا أخي إنت مش محتاج تعمل قرشين لولادك..
فاندهشت وسألته ما الذي استجد في الأمر؟ فقال لي: سأقول لك حينما أخرج علي المعاش، وبعد مرور الوقت أحيل فهمي عمر للمعاش، وقابلني في معرض الكتاب، فقلت له: يمكنك الآن أن تقول لي ما لم يمكنك قوله من قبل، فقال: هناك شخصية مهمة في الإعلام قال له: ده بيعمل إيه هناك.. يقعد في بيته ويقبض مرتبه.. ومايجيش الإذاعة، ففهمت أن المسألة أكبر من أن تكون مسألة أمن، ولن أقول لك من تكون هذه الشخصية، لكن ما أذكره أن سياسة التجويع هذه كانت متبعة آنذاك، وقد نجحوا في هذا مع كثيرين.. لكن أنا بقي صعيدي ومخي قفل.
* وما قصة إيقافك عن العمل في الإذاعة؟
– خطاب لنقل نائب مدير البرنامج الثاني – والذي هو أنا- رئيساً لمراقبة البرامج الأوروبية، في حين لا توجد وظيفة بهذا الاسم أساساً وهذا معناه «اقعد في بيتكم» وليس هذا فحسب، فقد كان نصف دخل كل موظف هو ما يكتبه للإذاعة، وهو الأمر الذي جعل من قرار النقل كارثة كبري، بالإضافة إلي منعي من الكتابة للخارج.

الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف أستاذ النقد الأدبي (العراق) يكتب: المشاهد السينمائية السردية في رواية ( واحة الغروب) للروائي بهاء طاهر

أن كلمة (مشهد سينمائي ) الفرنسية الأصل تعني قطع اللقطات السينمائية, ولصقها, أما في اللغة الانجليزية فتسمى مرحلة قطع اللقطات السينمائية, ولكن عملية وصل اللقطات بطريقة خلاقة أو الحصول على تأثير خاص-وهو ما توصل إليه السينمائيون الروس الأوائل- فتسمى مشهد / مونتاج أيضا, وقد ترجمت في بعض الكتب العربية إلى (التوليف, والتقطيع)وأبقيت على تسميتها(مشهد) في أكثر هذه الكتب, إذ إن هذه التسمية تلم بكل مراحل تقنية المشهد , لأنها الأصل في التسمية, وتذهب أبعد من مجرد الإشارة إلى آلية القطع واللصق.
وفي الآونة الأخيرة أخذت الرواية العربية تستعير من الفنون الأخرى بعض الأساليب الفنية التي تساند عملية البناء السردي, وتدفع بها إلى حالات تشكل سردي جديد تضمن لها حضورها, وديمومتها, مثل استعارة أسلوب الحوار من المسرحية, وتوظيف المعطيات السردية, وتيار الوعي من الرواية الحديثة, وكذلك استعارة الأنماط الفنية في فن الحكاية وتوظيفها, وأخيرا تعاملت الرواية العربية مع الفن السابع(السينما), واستعارت منه أسلوب (المشاهد السينمائية) , إن هذه القراءة النقدية تعمل على كشف مدى إمكانية أن تكون الرواية العربية المعاصرة قد أفادت من هذا الأسلوب الأخير ( المشهد السينمائي ) , وتقنياته التي تعد بؤرة العمل السينمائي, متخذة من رواية (واحة الغروب) للروائي الكبير (بهاء طاهر) أنموذجا لها , فلو أخذنا المرحلة المنتبهة التي تتجاوز المرحلة المباشرة إلى أساليب (المشاهد السينمائية) تدل على انتباه الطاهر في هذه المرحلة من استعمال هذه التقنية, أي المتجاوزة لمفهوم المشهد فيزيائيا, هو ربط لقطة واحدة بأخرى, إلى مرحلة تحاول الإحاطة بعموم المشاهد السينمائية , وخير مثال على هذه المرحلة هي بداية حياة ( محمود) في رواية ( واحة الغروب ) ومن خلال الحديث عن الراوي محمود مع المستر هارفي , إذ استطاع المبدع الكبير بهاء طاهر من تقديم (مشاهد سينمائية ) في الرواية عند جمعها تتكون سيرة محمود بطل الرواية / الراوي فنراه يقول : المشهد الأول : يقول لي زوجتك امرأة شجاعة , كأني لا اعرف كيف هي زوجتي ! أليست ذاهبة معي برضاها إلى الخطر ؟ ومع ذلك فلعلي لا اعرف بالفعل هي كاثرين .
المشهد الثاني :اعرف ان محمود سيوحشه هذا البيت الواسع سيشتاق في صمت الصحراء إلى الحي الذي لا تهدا فيه حركة الناس وغناء الباعة لن يوحشه بالطبع قصر الخديوي المجاور لنا الذي لم تطأه قدمانا وان أحببت ما يظهر من خضرة حدائقه الجميلة من وراء الأسوار .
المشهد الثالث : ها هو بستان الروح كما قال سعيد !ربما روحه هو لا روحي أنا لا يحرك شيئا في نفسي هذا البستان الأصفر ربما الغضب تترامى الصحراء أمام عيني ولا شيء فيها غير الرمال والكثبان والأحجار والسراب اللامع في الأفق .
المشهد الرابع : يغوص محمود داخل نفسه , أراه يغوص أكثر فأكثر , يركب الآن فوق جملة مطرق الرأس كالنائم دون ان ينظر حوله إلى شيء توقعت ان تخرجه هذه الصحراء قليلا من قوقعته , ان يرى كم تختلف عن أي مكان رأيناه معا في مصر.
المشهد الخامس : أحب بكرة الصباح تصحو روحي كل يوم في هذه الرحلة التي تسبق الشروق متوجها من بيتي في اغورمي الى مجلس الاجواد لم تعد عيني الكليلة قادرة على تمييز الصور كنت مولعا من قبل بان أتابع انسحاب الظلام وانبلاج صور الأشياء في النور الأزرق الواني كأنما هي النقلة إلى الخلق من العدم .
إذ يتشكل المشهد السينمائي السردي في رواية ( واحةالغروب) من مشاهد سينمائية صغيرة جدا , وحركة المشهد تخرج من قوة الصدمة بين هذه المشاهد , ففي اللقطة الأولى كانت الحركة واضحة, وهادئة , وفي وضع معلوم, ولاسيما بعد إعادة أول حركة في هذه اللقطة , وهي(محمود / كاثرين / الشيخ يحيى ) وهذه تقنية ثانية تناولها الروائي الكبير بهاء طاهر وهي (الفلاش باك) إذ بدا المشهد بالحديث عن نهاية الرواية , ونهاية عمر الراوي إذ أعيدت هذه الحركة في منتصف اللقطة لتمثل على سهولتها استعمالا سهلا لأسلوب الاسترجاع, وذلك ليعزز حضور اللقطة ككل بأجوائها, ودلالاتها, وفي هذه اللقطة تبدو الحكاية السردية مباشرة من حيث, تواصل الصور وبناؤها, لان الروائي ( بهاء طاهر) منتبه في الإفادة من تقنية المشهد السينمائي , وذلك من خلال القصدية التي جاءت بها اللقطة الثانية, وهي تحمل دلالات تملأ الرواية بالحركة إذ إن حركة هذه اللقطة مجهولة, ومرتبكة, ومع هذا الغنى في تنوع البنية, جاءت الرواية بموضوعات مستمدة من روح الواقع المصري في نهاية القرن التاسع عشر , إذ كان الجوع, وخسائر الحرب الفادحة, جديرين بإثارة القلق الوجودي في نفس الروائي , واستنهاض كلمته المناوئة للواقع, والنافذة له, لتبوح (المشاهد السينمائية ) في الرواية بمواجع الذات , والآخر, وترسم خطا بيانيا للازمة التي تعصف بحاضر الإنسان, ومستقبله. لم نلمح في تفاصيل الرواية بارقة لروح تزدهي بالأمل, أو الحب .. انكسارات, حروب, حزن, فوضى, قلق, احتلال , تمرد.
انتقل بنا الروائي المبدع بهاء طاهر إلى (مشاهد سينمائية) جديدة في حياة ( محمود / كاثرين ): صحوت من النوم قبل الفجر كالعادة يغمرني العرق وبقايا حلم جميل تلاشت تفاصيله سوى وجه أيقظني مبتسما اغتسلت بسرعة وتركت كثرين تكمل نومها ثم فتحت باب البيت برفق وجلست على أول درجة سلم .
وهنا نرى الانتباه في استعمال تقنية المشهد السينمائي شيئا واضحا لدى الروائي, وذلك في البناء ألمشهدي, مثل رسم المشهد السردي بلقطة عامة أولا, والاستخدام البسيط لأسلوب الاسترجاع ثانيا, فضلا عن تنظيم منظم بتوزيع الوحدات الديكورية, فضلا عن براعة الروائي ونضجه في البناء المشهدي في روايته , وذلك بصور كلية تأتلف في الرواية هذا هو الظهير البانورامي لعموم العمل التصويري في الرواية , إذ إن كل ما سيرد في مشهد الرواية يعود في عمله إلى الأخذ من هذه( المشاهد السينمائية) التي هي موجز عام لموضوع الرواية الذي هو تصوير مشهد الآتي : لم أتوقع أبدا هذا الحصار بالصمت قلت لنفسي هي فترة ثم تمر وانجح في الاقتراب منهم حاولت ما استطعت أردت بعد وصولنا ان اصعد إلى شالي والتقي بالناس هناك رأيت في وجه إبراهيم فزعا.
, وهناك ثمة فضاءات شاسعة من وظيفة محتملات العلاقات التمثيلية في الرواية , تصل أحيانا إلى درجة تفعيل المتمثل الضمائري , على وفق حدود بنيات, وتراسلات التناقد, والتشابك داخل حلقات هوية المحاكاة, والانعكاس الواقعي للملفوظ الخطابي, وبدلا من قراءة القارئ لعوالم الرواية بمشاعر تهتم بتحديد درجات السردية , والتأويل, وسوف نهم بدلا من هذا بتناول الرواية على أساس وجود اضمارات كشوفية بهوية المتحرر من طابعية السردي, وما هو غير سردي , أي بمعنى أننا سوف نتعامل مع الرواية على أساس ما يترشح منها من أوجه صورية يومية لقطية, وإمكانيات نسقية في تعليل صنع دلائلية الخطاب الصوري في الرواية , فينقلنا الروائي إلى مشهد سينمائي آخر لحياة الراوي محمود : لدغ الثعبان أمي لدغة الحب فجئت أنا أتاها الإله الكبش ثعبانا فكنت ثمرة الحمل المقدس كان أبي الأرضي فيليب ملك مقدونيا يهم بالدخول على أمي اوليمبياس حين شهد من الباب الموارب مضاجعتها مع الإله الزاحف .
أن اثر هذه العلاقات النصية داخل حدود مجريات انجذاب القراءة, بموجب قابليات الدلالة التي هي حركية الطبيعة داخل تنويعات العلاقة النصية العامة للرواية , وهذا المشهد السينمائي يتكون من أربع لقطات موجهة, وأربعة أفعال سردية بعدها يأتي التعليق على ذلك وهنا نلاحظ مشهد المفارقة بصياغة مؤثرة إذ إن اللقاءين تمّا في المكان نفسه, وهما لقاء(فيليب)ولقاؤه (اوليمبياس ) والمكان غرفتهما بدلالتيه المكانيتين الأفقية, والعمودية , ففي اللقاء الأول كان المكان أفقيا يتجسد في (اللقاء الطبيعي بين الزوج وزوجته ), وأما اللقاء الثاني فالدلالة عمودية, وذلك بدلالة(لقاء الإله مع الثعبان )والمفارقة تحدث من خلال هذين اللقاءين لتخرج صورة المشهد المكونة بين هذين اللقاءين, بعد ذلك تأتي اللقطة الأخيرة ليتم بها الغرض من اللقطة السابقة , لم يسمع إجابة لها من جديد .

الكاتب والناقد وفيق صفوت مختار يكتب : بهاء طاهر والحزن الساكن في أعماقه بهاء طاهر والحزن الساكن في أعماقه

بهاء طاهر والحزن الساكن في أعماقه صدر للنَّاقد «حُسين عيد» عن مؤسَّسة دار الهلال، كتابًا توثيقيًّا، بعنوان: «بهاء طاهر.. النَّاي الحزين». وقد جاء الكتاب في أربعة أبواب تناولت ملامح الحُزن الغالب على حياة وأعمال الرِّوائيّ الكبير الرَّاحل « بهاء طاهر»، ثُمَّ عرض تحليليّ سريع لأهمِّ مجموعاته القصصيَّة والرِّوائيَّة وكُتُبه الأخرى المُتضمِّنة لأهمِّ القضايّا المُعاصرة.

الموت كان شبحًا مُخيفًا أكتنف حياة الرِّوائيّ الكبير، وهُو طفلٌ صغيرٌ في السَّابعة مِنْ عُمْره، حينما كانت قذائف المدفعيَّة تمسُّح السَّماء بحثًا عن طائرة ألمانيَّة مع بدايات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939- 1945م) فكانت تلك الحرب تحمل بين طيَّاتها تهديدًا سافرًا بالموت. وفي السَّابعة أيضًا حيث كان يعيش في قرية «المنشأة» بأقصى صعيد مصر، واجه كارثة انتشار وباء الملاريا الَّذي ضرب سُكَّان القرية البائسة في مقتلٍ، حتَّى أنَّه فَقَد نصف أُسرته !!

ولا ننسى أنَّ «بهاء طاهر» في طفولته كان يبدو عليه الضَّعف والهُزال، الَّذي أوحى لأُمّه بأنَّه لن يُعَمِّر طويلًا، لدرجة أنَّها كانت تُعطيه المُقوِّيات الشَّعبيَّة حتَّى يتمتَّع ببعض «السُّمنة». لقد كان مرضُه مُستمرًا ومعه بالطَّبع كانت تتزاحم الهواجس والمخاوف من موتٍ مَحْتُومٍ. وحينما رأى والده يُواجه الموت بشهقاتٍ مَكْتُومةٍ، رُبَّما في تلك الواقعة تحديدًا أدرك أنَّ الموت كان يتحيَّن اللَّحظة المُناسبة لينقضّ على البشر وهُم في غفلةٍ عنه.

ويُمكننا قراءة ملامح الحُزن البادية على «بهاء طاهر» مُنذ أنْ صدرت له قصَّة «المُظاهرة» (1964م) حتَّى قصَّة «بالأمسِ حلمت بك» (1983م)، كان حُزنه الشَّديد يعُود هذه المرَّة إلى هجمة السَّبعينيَّات مِنْ القرن المُنصرم، فلقد كانت هجمة ضدّ جيل بأكمله، لقد أُغلقت مجلَّة «المجلَّة» الَّتي كان يترأَّسها الأديب «يحي حقي» ( 1905 – 1992م)، وأغلقت مجلَّة «الفكر المُعاصر» التي كان يترأَّس تحريرها الدُّكتُور «فؤاد زكريَّا» (1927- 2010م)، وأُغلق كذلك المُلحق الأدبيّ لجريدة المساء الَّذي كان يُشرف عليه الصّحافيّ «عبد الفتَّاح الجمل» (المُتوفّي في عام 1994م)، كما أغلق المسرح القومي، في هذه الأثناء ذهب الشَّاعر «صلاح عبد الصبور» (1931-1981م) إلى الهند، والشَّاعر «أحمد عبد المُعطي حجازي» (المولود في عام 1935م) إلى فرنسا، والشَّاعر «مُحمَّد عفيفي مطر» (1935-2010م) إلى العراق، والنَّاقد «رجاء النَّقَّاش» (1934-2008م) إلى قطر، والفنَّان التَّشكيلي «جُورج البهجُوري» (المولود في عام1932م) إلى باريس، أمَّا «بهاء طاهر» فطار إلى جنيف.

أحبّ المُوسيقا، وعشق المسرح، وظلّ هُو ورفاق دَرْبه، أمثال: «رجاء النَّقَّاش» ، والقاصّ «مُصطفى أبُو النَّصر»، والشَّاعر «مُحمَّد سُليمان» أوفياء لأحلامهم الكبيرة حينما أرادُوا أنْ يصنعوا أدبًا جديدًا يُغيِّر المُجتمع، بعيدًا عن العاطفة المُلتهبة، أدبًا واقعيًّا يتناول هُموم المُجتمع بلُغةٍ كاشفةٍ وفي نفس الوقت لُغة جميلة ومُعبِّرة.

يتناول النَّاقد في كتابه بعض أعمال «بهاء طاهر» بالنَّقد والتَّحليل، فعلى سبيل المثال يتطرَّق إلى مجموعته القصصيَّة «لم أعرف أنَّ الطّواويس تطير» (2009م)، فهي قصص تدُور حول وحدة الإنسان الذي يمضي دائمًا مسرَّبلًا في دائرة الحياة الجهنَّميَّة، سواء عاش في بلده أو في بلدٍ آخر ، إنسانٌ يخضع لانقضاء الزَّمن وُصُولًا إلى خريف العُمْر تمهيدًا لانتظار ما لابُدّ منه، لا يملك إزاء تلك الحياة إلَّا التَّقبُّل والرِّضا.

أمَّا في روايته «قالت ضحّى» (1985م) فقد أراد «بهاء طاهر» أنْ يقوم بمُحاكمة ثورة يُوليُو المصريَّة، وقد اختار زمنًا مُحدَّدًا من تاريخ الثَّورة ليكُون نُقطة البدء الَّتي تنطلق منها أحداث الرِّواية، وفيها حاول أنْ تكون شخصيَّات الرِّواية الرَّئيسة رُمُوزًا أو نماذج تقُوم بتجسيد المُجتمع المصريّ. لقد حاول الأديب إبراز إيجابيَّات الثورة وسلبيَّاتها أيضًا، ولكنَّه كان قد ركَّز علي السَّلبيَّات أكثر، وهذا ما يتضح في: (الخوف مِنْ الثَّورة بين المواطنين ومحاولة إظهار أنَّهم مِنْ أنصارها اتّقاء لشرِّها ــــ تشدُّق كبار المسؤُولين بالعبارات الطَّنَّانة ــــ نقدٌ عنيفٌ لمشاركة الثَّورة في حرب اليمن ).

وفي رواية «الحُبّ في المنفى» (1995م)، حيث تَنْعكس فيها علاقات حُبّ تبدأ مِنْ الطُّفولة وتتنوَّع بين علاقات متقابلة وأخرى متوازية يَحْكُمُها جميعًا منظُومة مُعيَّنة تسطع بينها نماذج سامقة تَرْسُم في مُجملها لوحة باهرة لحركة البشر وسط هدير جوّ الاعتراف. زمنُ الرِّواية يمتد إلى عدَّة أشهر خلال عام 1982م، وتقع خلال أحداث غزو إسرائيل لجنُوب لبنان ومذابح «عَيْن الحُلوة»، وينتهي في أعقاب مذابح «صابرا» و«شاتيلا».

وأخيرًا رواية «نُقطة النُّور» (حُلْم الفنَّان بالتَّغيير) الصَّادرة في عام 2001م، فأغلب الظَّنّ أنَّ « بهاء طاهر» بعد عودته إلى مصر عام 1995م، وبعد رحلة اغتراب دامت حوالي خمسة عشر عامًا، أصبح مهمومًا بما يجري تحت بصره في الواقع من أحداثٍ، مثل: الفساد الَّذي استشرى في المُجتمع، وظُهور أشكال جديدة مِنْ الجرائم، والبُعْد الصَّارخ عن صحيح الدِّين.. عندئذ برز سؤال حول كيفيَّة النَّجاة، ورُبَّما في خضم اللَّحظة راوده حُلْم الفنَّان الأزليّ بالتَّغيير، بعيدًا عن تجربته الخاصَّة، مُعتمدًا في الأساس على رُؤيةٍ فِكْريةٍ، فجاء عملُه مُثقلٌ تحت وطأة الواقع المرير بحُلمٍ كبيرٍ لتغيير هذا الواقع، وهو ما نجدُه متناثرًا داخل الرِّواية، ورُبَّما هذا الَّذي دفعه إلى استعجال النَّتائج، فأجهض العمل قبل اكتمال فترة الحمل ،فولدت الرِّواية جنينًا مُشوَّه الملامح غير مكتمل التَّكوين، وهذا ما أكَّده النَّاقد في كتابه.

كان هذا عرضًا سريعًا مركَّزًا لعملٍ نقديٍّ مُهمٍّ، يُمثِّل إضافةً جديدةً لجوانب مُهمَّةٍ مِنْ عالم « بهاء طاهر» الصَّادق والثَّري والخصب والحزين أيضًا.

الدكتورة منال رضوان تكتب : بهاء طاهر العرفاني الذي انطلق إلى نقطة النور

نقطة النور هي رواية الأديب القدير بهاء طاهر والذي رحل عن عالمنا قبل شهور قليلة عن عمر ناهز ال ٨٧ عامًا، صدرت الرواية في طبعتها الأولى في العام ٢٠٠١.
وتدور أحداثها حول الجد توفيق “الباشكاتب” والذي توفيت زوجته قبل أعوام، ويعيش بصحبة ابنه “شعبان” وحفيديه ” سالم وفوزية” وتقوم الأخيرة بمهام ربة المنزل بعد وفاة أمها؛ إذ تشرف على إعداد الطعام والعناية بسالم الذي يصغرها بأربعة أعوام، وتعد شخصية ” توفيق” أو الجد بمثابة الشخصية المحورية التي تدور الأحداث حولها، وتتكشف الصراعات فيما بين الأجيال من جانب وبين الطبائع البشرية من جانب آخر.
بيد أن الرواية لا تعد من قبيل روايات صراع الأجيال بالمعنى الدلالي الحرفي؛ لكنها تأخذ عدة مسارات تعتبر أكثر شمولًا؛ فهي ترنو في فكرتها الرئيسة إلى النور، وما يرمز إليه وفق الغنوصية أو العرفانية التي تتشبع روح الرواية بها.
فمنذ اختيار العنوان الدال، والذي يمثل هنا خطوة إجرائية، تعد مفتاح الشفرة لتأهيل القارىء ضمنيًا للمحتوى، حيث يتمكن معه من قراءة النص، وفهم الدلالات المقصودة سواء الواضحة أو المستترة؛ لذا فقد جاء العنوان من كلمتين بما يمثله النور ورمزه العرفاني لدى جمهور الصوفية وأتباع المذاهب الباطنية، بينما مهد السبيل لذلك، العنوان في شقه الأول ودلالة لفظة (نقطة) وهي العلامة القاطعة للفصل بين الأشياء أو وقفها..
وقد أوضح بهاء طاهر في تذييل روايته، أنه اعتمد في كتابتها على كتب صوفية كالمخاطبات للنفري والكنز في المسائل الصوفية، كما افتتح المشهد السرد
بقول:
(قال أستاذنا الحكيم:- الناس أجناس والنفوس لباس، ومن تلبس نفسًا من غير جنسه وقع في الالتباس فسألناه:
– يا معلمنا، فهل النفس قناع نرتديه إن أحببناه وإن كرهنا نبذناه.
– أو لم أقل لكم من تقنع هلك
قلنا:
– فمن ينجو يا معلمنا؟
أطرق متأملًا ثم رفع رأسه يجول فينا ببصره وقال في بطء:
– يا ابنائي وأحبائي ، أفنيت العمر في البحث والترحال، فما عرفت إلا أن الجواب هو السؤال.
إذن فمنذ مرحلة الإعداد وقبل اختمار الفكرة، قرر الكاتب أن يغوص في بحر العوالم الصوفية، وأن تتنسم روايته شذاها؛ كما نجده قد اختار المكان وهو حي السيدة زينب، وفي إشارة صريحة إلى صاحب إحدى أشهر الروايات التي كان هذا المكان ذاته بطلها الأول، جاء الإهداء إلى يحيى حقي،
فكتب طاهر: في ذكرى مولد الكاتب والإنسان الكبير يحيى حقي.. رحمه الله أتنسم عطر الأحباب! ٧ يناير ٢٠٠١.
ومن الملاحظ في الإهداء أن الكاتب قرر أن يقدم لنا (الكتالوج) لما سيكتب، فعند قراءة هذا العمل لا يمكن بحال تصور أنه رواية كتبت حديثًا؛ إذ أن الأسلوب المتبع في الكتابة والأماكن والشخوص والأحداث، يمكنك أن نعتبرها الامتداد الطبيعي لذلك اللون من السرد الاجتماعي المستند إلى المكان،
والتغييرات التي تطرأ عليه وانعكاساتها على الأبطال، ولوعي وحس شديدين تميز بهما بهاء طاهر في كتاباته بوجه عام، والاهتمام بدلالة المكان تحديدًا وتحرك الأشخاص وكأنهم بداخل (بلاتوه سينمائي)؛ أدرك أن السرد المباشر واتباع أسلوب الرواي العليم وفق النمط المتعارف عليه قد يمثل ردة أدبية لن تحسب له بحال من الأحوال، خاصة مع تنامي تيارات حداثية قبل سنوات، تلك التي أغفلت اعتماد تلك التقنية كتقنية رئيسة يتم الكتابة وفق آلياتها،
ولذا اعتمد الكاتب على التقطيع الزمني للأحداث للخروج من دائرة الملل، ونجح عبر مشاهد الاسترجاع والتي يقص فيها الجد على حفيده صلته بصديقه أو مرشده الروحي السنانيري، أو زواجه من جدة سالم.
أو التي يتدخل فيها الرواي العليم لذكر حادثة أو سرد عدة وقائع، نجح طاهر أن يخرج من دائرة الارتداد إلى ماضٍ، استرجاعه بصورته القديمة لن يحسب لصالحه بحال: فزمن الحكاية من الواضح أنه وقع عقب انتهاء حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، بينما تتداخل الأحداث الواقعة في مراحل زمنية سابقة عبر الاستدعاء؛ فعلى سبيل المثال.. عقب تعرف القارىء إلى عائلة الباشكاتب، نجد أن قصة زواجه من سمية – الجدة – تمت الإشارة إليها عقب عدة صفحات من الرواية :
( كان توفيق أفندي قد انتقل من أسيوط كاتبًا في محكمة المنصورة ورأى سمية وهي تتردد مع والدتها على المحكمة فأحبها من أول نظرة، كانت بيضاء وممتلئة امتلاء حسنًا، ولم يهتم بأنها تصغره كثيرًا في السن أو بأنها لم تتجاوز السادسة عشرة، ففي ذلك الوقت في مطلع الثلاثينيات….)
فذلك التقطيع أو التشظي الذي ظهر على طول السرد والانتقال بين أكثر من زمن كسر – ولا شك – من رتابة سير الأحداث.
وفي سياق بعيد عن النزعة الصوفية، يمكن تلقي هذه الرواية واعتبارها من الأعمال التي تناقش التصدع الحاصل في العلاقات الاجتماعية عقب تحولات سياسية وأيديولوجية متلاحقة؛ فعمل طاهر على استخدام الترميز في أبهى صوره، فتصدع البيت الذي يسكنه الباشكاتب، والشرخ العظيم في جداره، ومحاولته ترميمه والتمسك بسكناه حتى الرمق الأخير يدل على توصيف لآفات اجتماعية ظهرت في المجتمع المصري، ففي سياق القص ومحاولة تأويل العلاقات سيسيولوجيا، نجد الجد يمثل الأصالة والفطرة؛ فهو يؤمن بأن مرشده من أهل الخطوة وعندما يمرض الحفيد يحاول أن يعالجه عن طريق الرقية والبخور، ذلك الجد هو ذاته الذي يتلعثم مع أول مواجهة منطقية مع حفيده،
عندما سأله عن كيفية وجود الصديق (أبو خطوة) في مكانين، فأدهشته حصافة الصغير لكنه لم ينكر هذه المرويات، بل آثر ألا يتكلم في روحانيات قد لا يستوعبها حفيده، هذه الشخصية الطيبة تعلم مصير الإنسان وفق معطيات دينية نشأت عليها، وأن الحياة القصيرة على الأرض ستنتهي إلى النور؛ لذلك كانت حياته سلسة هادئة راضية،
بينما ظهر ”شعبان” على العكس من أبيه.
فهو يقوم بأداء الفرائض بشكل غير منتظم، ولم يحقق التفوق العلمي المطلوب، كما أنه لم يحتفظ بعلاقة ود مع جيرانه؛ فمثل شعبان الانعزال والتخبط والاضطراب وبداية التخلي عن مسؤوليات واجبة عليه، وأهمها تجاه زوجته التي أهمل في علاجها من نزف أصابها حتى ماتت، أو تجاه امتداده الطبيعي المتمثل في ولده سالم؛ فعندما مرض الطفل وأخذ في الشتم والسب واللعن، قام بأخذه إلى الطبيب:
(سأله الطبيب إن كان مستواه الدراسي قد تأثر بعد هذه النوبات فقال شعبان إن جده الذي يشرف على دراسته، لم يلاحظ أن مستواه تغير، كما أنهم لم يتلقوا أي شكوى من المدرسة.
سأله أيضًا إن كان قد لاحظ عليه أي شيء غير عادي قبل هذه النوبات أو بعدها. هل تصيبه حالة من التشنج مثلا أو الإغماء؟ لم يُلَاحَظ شيئًا من ذلك ولكن أخته تقول إنه تأتيه أحلام وكوابيس في الليل.
ابتسم الطبيب: أخته تقول وجده يذاكر له. أنا أسألك أنت!
هو. لم يستطع أن يضيف شيئًا غير أنه قال إن عيني سالم كانتا تغميان أثناء النوبة…)
فذلك النكوص الذي مثله شعبان أو جيله بأكمله، – إن اتبعنا نظرة شمولية- قد جعلته يتواكل على أبيه في كل أمور حياته، مكتفيا بدكان تجاري لا يحتاج منه الجهد أو المثابرة في السعي والتحقق.
بينما ظهرت شخصية فراج زوج فوزية، وهو شخص اعتنق الحلم الوليد عقب الانتصار، وبنى حياته على حجم الوعود بمستقبل واعد ينتظره حين يسافر إلى ألمانيا الشرقية، ويعمل في أكبر مصانعها ويحصد الأموال عن طريق الانفتاح الصناعي الذي تنتظر الدولة تحقيقه، وهو الحلم الذي تبدد بمرور الوقت؛ لتصف فوزية نفسها (بالعبط) إذ صدقت هذا الكلام، وبمرور الأيام وافقها فراج القول، حتى قال:
لا حل غير الدكاكين! (الناس يفكرون في طريقة تزيد من دخلهم) وهي إشارة واضحة لم تعد تحتاج الإيضاح أكثر من ذلك للدلالة على أوضاع صارت الحال إليها عقب السبعينيات من القرن الماضي.
كما يظهر تأكيد بهاء طاهر على خصوصية العمل، من حيث اتباعه نهج الكتابة التي تقلص فيها خط التجديد الذهني والابتعاد عن التجريب وانحسار الأنماط السردية الحداثية؛ بل جاءت الكتابة سلسة ناعمة في تناغم بين الفكرة والطرح،
كما تم الانتقال الزمكاني فيما بين الحارة والجامعة، بشكل هادىء من خلال فصلين أو قسمين، كما أطلق الكاتب عليهما، القسم الأول بعنوان ‘سالم’ والذي انتهى بدخوله إلى الجامعة وتعرفه إلى لبنى، التي وسم القسم الثاني باسمها، هذه الفتاة الثرية التي تنحدر من أسرة مفككة وتحيا بعد انفصال والديها بصحبة أبيها ومربيتها.
ولكن سالم يعتقد دومًا بأنهما لا يشبهان بعضهما البعض؛ فهي تتقن الفرنسية، وبعيدة كل البعد عن أجواء الحارة التي عاش عمره بين أزقتها، وعلى الرغم من ذلك استطاع الحب أن يوحد بين قلبيهما ويذيب هذه الفوارق التي ظهرت بحدة، أكد عليها الكاتب بوصف مظاهر الثراء البادية على لبنى، والتي ظهرت في وصف مظهرها الأنيق، ومناداتها للمربية بلفظة
“دادة”.
وعن الحب، حيث يخبر سالم لبنى عن أن السر كله يكمن في الحب؛ ونكتشف عقب ذلك، أن إلحاح الكاتب على عدم وجود امرأة في البيت بما ترمز إليه من دفء ومودة وحب، أدى إلى الحرمان والجدب، وحدوث فجوة فجفوة بين الأب وابنه تجلت في صورة الخلاف بينهما، واتهام الابن لأبيه بأنه سر فشله، واتهام الجد لنفسه وشعوره بالندم والتقصير حيث يقول: (… بسبب ما فعله بنفسي.
إذن لا تدع لي يا سالم بالصحة، بل ادع لي باقتراب النور
– أي نور يا جدي؟
فقال جده وهو يتطلع إلى نقطة ثابتة في الغرفة النور علامة ولم يكمل)
لنجد سالم ويمثل المنطق والعلم والوجود الجديد، يحاول رأب الصدع الحادث في بنيان البيت (المجتمع)، كما سبق وفعل جده في منزله بالحارة عن طريق الحب والذي سيمكنه هو الآخر من معالجة تبعات الصدع الحادث على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي، فيرصد نقطته ويتمكن من اللحاق بركب النور حتى يصل بسلام.

الأستاذ الدكتور أحمد الباسوسي يكتب: قال بهاء “الوعي واللاوعي” في رحلة الكاتب بهاء طاهر (قالت ضحى نموذجا للمسار)

في روايته الأخيرة واحة الغروب يقول بهاء طاهر « لا أفهم معنى للموت، لكن مادام الموت محتما فلنفعل شيئا يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل ان نغادرها» (محمد شعير، مقال الكاتب الذي لايستعير اصابع غيره). ويصفه يوسف ادريس انه انسان مختلف، استطاع ان يدلف الى قصر القصة المسحور وان يعثر في سراديبه المظلمة على الخيط الأساسي لصناعة القصة (نفس الموقع – نفس المقال للمؤلف). ويعتبره ادوارد ال
خراط صانعا كبيرا من صناع ادبنا الحديث ( ادوارد الخراط، مقدمة رواية قالت ضحى). بهاء طاهر الانسان الكاتب أو الكاتب الانسان يبدو رجل مختلف الى هذه الدرجة، يستشعر الغيب، ويسطو على المستقبل، ويحقق التفرد الكامل الذي تجلى بوضوح يوم مماته حيث بكاه ونعاه الجميع، وحامت غلالة أو هالة بحجم السماء غصت الكافة بالدهشة والحزن والغم على الرغم من اعوامه السابعة والثمانين التي قضاها يتنفس ويكتب ويقابل الناس ويمنحهم الأمل والأمان. بهاء طاهر الفنان الظاهرة حقق مبتغاه، ومثلما عاش وكتب وتعامل مع الناس في هدوء، مشى الى التراب في هدوء أيضا. الرجل كان عظيما في هدوءه مثلما كان عظيما في صمته وفي كتاباته وكافة دروب الفن والابداع التي ولجها. ربما لم يشأ قدره ان يولد في طيبة أو مدينة الشمس «الأقصر» على ضفاف النيل العظيم ويتنسم هواء سبق ان تنسمه أجداده العظماء، نزح أبوه المعلم الأزهري الى محافظة الجيزة حيث ولد بها محمد بهاء الدين طاهر في يناير عام 1935 متشبعا بكل موروثات أجداده القدماء من الصبر والمثابرة والجلد ووضوح الهدف والأهم التصالح مع الذات والطيبة. شغلته الدراسة والبحث عن المستقبل، تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ عام العدوان الثلاثي على مصر 1956 . في اعقاب التخرج اجتذبه العمل في الاعلام مترجما في الهيئة العامة للاستعلام، ثم مخرجا للدراما ومذيعا في اذاعة البرنامج الثاني الذي كان أحد مؤسسيه. حصل على دبلومة الدراسات العليا في الاعلام شعبة اذاعة وتلفزيون جامعة القاهرة عام 1973 قبل ان يصدر فرمان وزاري بمنعه من العمل عام 1975 زاعمين انه من الشيوعيين الذين تقرر منعهم خلال تلك الفترة من المرحلة الساداتية، والرجل لم يكن كذلك أصلا، الأمر الذي اعتبر بمثابة «صدمة» مؤلمة أثقلت كاهله وخلفت صداها من خلال عقله الباطن «اللاوعي» في كتاباته اللاحقة وسنشرح ذلك عندما نتعرض لرواية «قالت ضحى» التي تكشف الكثير من خصال الكاتب الشخصية التي سكبها عقله الواعي تنفيذا لارادة عقله اللاواعي. ترك مصر وسافر الى افريقيا وآسيا، عمل بالترجمة، وفي جنيف واصل ترحاله وراء لقمة العيش التي منعت عنه في بلده الحبيب، عمل مترجما في الامم المتحدة بجنيف في الفترة بين عامي (1981-1995) . قبل ان يعود الى معشوقته مصر ويستقر فيها حتى وفاته. رحلة طويلة، مرهقة، وصعبة على صعيدي مصري أصيل من ابناء طيبة، يكره الغربة والاغتراب والظلم . هكذا دارت الأيام والأحداث مع بهاء طاهر بداية من تغريبة والده وترحاله من الأقصر الى مختلف محافظات مصر ثم الى الجيزة، وولادة بهاء الذي حمله اسم مركب «محمد بهاء الدين طاهر». ثم دأبه ومثابرته للاستحواذ على مكان ومكانة وتميز مع هدوئه وصبره وقدرته اللامحدودة على الاحتواء واستيعاب الآخرين بمنتهى الطيبة وتجنب الصراعات والصدامات بقدر الامكان. ان شخصية بكل هذه الخصال مؤكد كابدت كثيرا، كانت في حالة تحدي دائم مع ظروف خارجية صعبة للغاية بلغت ذروتها بطرده من عمله الذي عشقه وصنع فيه تاريخا متميزا. استغلوا طيبته وعفة نفسه وعزوفه عن الصراعات والصدامات، تقبل الأمر لكن داخله لم يتقبل ايضا. واما التحدي الداخلي يتمثل في كل هذا الكم من القلق والتوترات التي تستعر داخل المبدع الذي لايكف راداره عن الرؤية والكشف والاستبطان سواء فيما يتعلق بواقعه الاجتماعي أو الانساني أو السياسي المليئ بالتقلبات والتناقضات والأخطار المهددة للوطن. ان رادارات المبدع مزعجة وتنغص عليه حياته كل لحظة ويتمنى لو يتلفها ويرتاح لكن هيهات انه قدر المبدعين الأصلاء على شاكلة بهاء طاهر وغيره.
الوعي واللاوعي في الواقع والخيال في عالم بهاء طاهر ربما لايوجد جانبا في العقل الانساني أكثر الفة وأكثر حيرة في ذات الوقت من الوعي وخبراتنا الواعية للذات وللعالم. ان مشكلة الوعي هي القضية المركزية في التنظير الحالي للعقل. ونحن بحاجة الى فهم ماهو الوعي، وكيف يرتبط بالجوانب الأخرى غير الواعية (Consciousness-Stanford Encyclopedia Of Philosophy,Jun18.2004).
وتعرف دائرة المعارف البريطانية الوعي المجتمعي بانه فهم وسلامة الادراك. ويقصد بسلامة الادراك هنا معرفة الانسان لنفسه والمجتمع الذي يعيش فيه (سعود ابن سهل، دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الوعي الاجتماعي، مجلة جامعة الفيوم للعلوم التربوية والنفسية، ص6،العدد العاشر، الجزء الأول، 2018).
ويذكر شلدان وفايز ان الوعي الاجتماعي هو وعي أفراد المجتمع بشكل عام بمختلف قضايا المجتمع التي ترتبط بحياتهم وواقعهم وتحدد مستقبلهم، وللوعي الاجتماعي أنواع وهي: الوعي الثقافي، والديني، والاقتصادي، والسياسي، والأخلاقي والوعي الصحي (شلدان، فايز كمال، نموذج مقترح لدور الجامعات الرسمية الاردنية في تنمية الوعي الاجتماعي لدى الطلبة من وجهة نظر أعضاء هيئة التدريس والطلبة. رسالة دكتوراة غير منشورة، كلية الدراسات العليا.
الجامعة الاردنية، 2006). ان الوعي الذي شكل معرفة ووجدان الكاتب بهاء طاهر لايمكن بأي حال عزله عن الأحداث والخبرات والظروف القاسية المؤلمة التي لامست هذا الصعيدي الجلد الذي يحمل موروثات اجداده القدماء وتشكلت في طبقات هي ذاتها تمثل عالم اللاوعي داخله ومسئولة بصورة مباشرة عن مجمل انتاجه الابداعي قبل ان يقوم الوعي الحاضر لديه دوما بمسألة التنقيح والمراجعة وضبط الايقاع بقدر الامكان. ويذكر العلامة سيجموند فرويد ان الفن نتاج عوامل نفسية لا واعية وكذلك نتاج لأنشطة اللاوعي الخفية (احمد الخميسي، مقال الوعي واللاوعي في عملية الابداع، موقع الفيصل، 2018). والكتابة انما تأتي من أكثر أعماق المرؤ سرية لدرجة ان الكاتب نفسه لايدرك تلك الأعماق.
وربطا بمحددات الشخصية الخاصة بالكاتب بهاء طاهر ومنتجه الابداعي قالت ضحى الذي نتاوله بالشرح والتحليل باعتباره نموذجا يكشف عن صدى عمليات توحد الكاتب مع راويها، والكشف عن مناطق التداخل بين العقل الواعي والعقل اللاواعي في هذه الرواية يتبين ما يلي
اولا: ان رواية قالت ضحى صدرت في عام 1985 سبقتها ثلاثة مجموعات قصصية (الخطوبة 1972 / بالأمس حلمت بك 1984 / انا الملك جئت، ورواية صدرت في نفس العام 1985 هي شرق النخيل/ وبعد ان اعتبرها نقطة تحول في مسيرة صنعته الجادة الملهمة من حيث الصياغة والرؤية مقارنة بالنصوص التي سبقتها (الخطوبة/بالأمس حلمت بك) حيث كان عالقا في عالم الكابوس والقهر البارد اليدين الذي يسحق النفس على مستويات عدة يقول ادوارد الخراط ان بهاء طاهر يؤرخ فيها لقاهرة الستينات بمعالمها التي اندثرت وكأنه بقوة الفن والحب يريد ان يبتعثها فتبقى أبداـ وبمزاجها السياسي والاجتماعي الذي اندثر أيضا كأنما يريد ان يثبته في جو من الرثاء والحيرة معا(ادوارد الخراط، مقدمة الرواية). ان استدعاء ستينيات القرن الماضي وما فيها من اضطراب واضح في الواقع الاجتماعي، والأحلام المجهضة، والآمال الموؤودة وطغيان الفساد والرشوة تحت ظلال الشعارات البراقة يمكن اعتباره معادلا موضوعيا لانكساراته الشخصية في منتصف سبعينيات القرن الماضي وطرده من وظيفته وتغريبته التي طالت منذ نزح ابوه الأزهري من مأمنه بالأقصر مغتربا في بلاد المحروسة حتى حط أخيرا في الجيزة وانجب بهاء الذي عاش نفس لحظات الاغتراب والألم بداية من اسمه المركب الذي اختلط عليه وكان غريبا عليه، حتى اضطراره الى الصبر والجلد من اجل النجاح والتفوق الدراسي وعمله بمجرد التخرج وتحمل مسئوليات الواقع الصعب، حتى طرده من وظيفته ظلما واضطراره الى الترحال والغربة التي يبغضها. هنا يسطر عقله اللاواعي بكفاءة ملحوظة على مقدرات قلمه وينحت شخصية الراوي التي انهزمت في الحب مثلما حدث له مع بواكير مراهقته والفتاة صاحبة العيون الزرقاء التي كانت تعمل وقد تعلق بها قلبه غير انها اختفت فجأة أو انسحبت من التاريخ، نفس ما حصل بالضبط مع حبيبته ضحى صاحبة نفس العيون.
ثانيا: لاتزال شخصية الراوي تتميز بهشاشة ورمادية في علاقتها بالواقع وبالآخرين، لايستطيع الاقدام على تغيير حياته النمطية بادعاء المثالية، لايستطيع الزواج قبل ان يزوج اختيه، ولا يستطيع البوح بحبه لمجرد ان حبيبته متزوجة. ولايستطيع التحرك من موقعه الوظيفي الى موقع آخر يحصل منه على حراك يرفع من قدره وشأنه وراتبه، ولايستطيع التدخل لمساعدة شخص تعاطف معه (سيد) وتوظيفه سوى لدى صديقه الذي يشعر نحوه بالأمان . باختصار هو شخص يفتقر للمغامرة والمخاطرة، يفضل السير بجوار الحائط واحيانا داخل الحائط، هزمته الظروف والمحن ولم يستطيع الصمود في أعقاب القبض عليه في المظاهرة، واضطر ان يشي باسم صديقه الانتيم في الجامعة ويخونه الأمر الذي مثل لديه جرحا وصدمة قاسيين. كان يمكن ان يظل هذا الأمر داخله الى الأبد لولا اضطراره الىى البوح به الى ضحى في لحظة ضعف انسانية . وربطا بما ذكرناه آنفا مع مايتعلق بشخصية الكاتب ذاتها فان اللاوعي لديه قد سكب الكثير مما يضمره داخله في شخصية الراوي ولايبتعد الأمر بين الشخصيتين كثيرا شخصية الراوي وشخصية الكاتب.
ثالثا: شخصية ضحى مركبة ومزاجية، حائرة مثل حيرة كاتبها، نتاج لفترة الستينيات المرتبكة الغامضة، شابة متزوجة لكن غير سعيدة، استولت الثورة على اموال اسرتها وتركت لهم ما يفي بالغرض، غموضها اربك الراوي أو الكاتب المرتبك أصلا. شهدت شخصيتها تحولات كبرى على مدار الأحداث، ازمانية تعرضها للراوي نتيجة لجلوسهم في مكتب واحد ومن دون عمل تقريبا خلق بينهم عاطفة لم يبوحا بها سوى في فترة المنحة في روما، انطلقا معا في حرية وفرح، تراجع الانكسار والغموض وبقيت فرحة الجسدين بتلاقيهم أخيرا. لحظات مشبوبة بالعواطف والأمل، لكن لابد من الانقلاب المفاجئ في المشاعر والاجهاض والتحول. ضحى تحولت مثلما تحول كل شيء خلال هذه الفترة، انتكست بالمعنى السياسي، ادمنت الخمر والقمار، فشلت كل محاولات الراوي في استعادتها لكن هييهات، لم يكن ذلك كل شيء، بل تواطأت مع وكيل الوزارة رأس الفساد أو رأس الأفعي . أثبحت مديرة مكتبه وكاتمة اسرار سلطان بيه، ضحى ضاعت في الرشاوي والمحسوبيات وكل موبقات وكيل الوزارة واصبحت ماركة مسجلة للفساد والسرقة والانحراف، هكذا تحولت البلاد في تلك الحقبة الستينية، وهكذا يصرخ الراوي على حال البلد وعلى حاله ايضا.
رابعا: يتقدم سيد عامل الجراح باعتباره المعادل لشخصية الراوي في الاتجاه المعاكس، جريء، مغامر، يعرف ما الذي يريده ويسعى للحصول عليه، اصيب في حرب اليمن وقطعت ساقه لكنه عاد أكثر نشاطا وحيوية وحربا ضد الفساد وضد وكيل الوزارة سلطان بيه. شخصية قوية كاشفة لزيف النخبة وهوانها التي يمثلها الراوي وصديقه حاتم. يضع الكاتب في شخصية سيد وكفاحه ضد الظلم والفساد على الرغم من محدودية تعليمه النخبة المثقفة في موقف حرج كاشف لانتهازيتهم أو تفضيلهم الاختباء في منطقة الأمان.
ان رواية قالت ضحى فاضحة بجلاء لحال الواقع المصري في حقبة الستينيات شديدة الخصوصية والاضطراب غلفتها شعارات عظيمة براقة لكنها كانت فارغة انتهت بحرب اليمن وما حاق بها من فساد وعدم تدبر انتهى باستشهاد المئات من جنودنا وبتر ساق سيد الشجاع الذي عاد لكي يستكمل كفاحه داخل مؤسسته التي تتعرض للنهب مثلما تعرضت البلاد كلها، وانتهت ايضا بالهزيمة الكبيرة في عام 1967 وخسارتنا ارضنا وجنودنا وكرامتنا وخسارتنا لضحى أيضا، وانكسار الراوي العليم في الرواية الذي تقمص دور المؤلف أو المؤلف الذي تقمص دور الراوي. ان هذا النص الروائي في مجمله يكشف بجلاء عن سيطرة للاوعي الكاتب على وعيه على الرغم من حرص الكاتب في مجمل اعماله على كبح جماح اللاوعي الخاص من خلال سيطرة الوعي لديه مثلما هو معرف عنه وشرحه في سيرته الذاتية من استغراقه بعد فراغه من النص في المراجعة والتنقيح لدرجة الوسوسة، وعندما سألوه عن قلة نصوصه الابداعية مقارنة بابناء جيله اخبرهم انه يقف كثيرا على كل كلمة يكتبها وينتقي ما يجب ان يكون. لكن التحليل ربما يشير الى ما لم يريده الكاتب وربما يكون هذا الأمر سببا في حيوية نصوصه وجمالها وتفوق الابداع داخل كتبه الجميلة.
الشاعر اشرف عتريس يكتب: الخال بهاء الذى نعرفه

هو واحد من جيل الستينيات أبدع فى القصة والرواية برؤية مختلفة ومتفردة معلنا ً هذا بكل جرأة فلم يقلد أحد حتى ولو من جيله، فالخطوبة، بالأمس حلمت بك، أنا الملك جئت ،مجموعات قصصية مختلفة عمن قرأ لهم وكان مبهوراً بعمدة القصة د. يوسف ادريس ولم يسع إليه قدر ماهو وصف نفسه انه من مريديه وقارئ جيد لما يبدع، وفى الرواية كان يجايله منيف والطيب صالح فجاءت شرق النخيل وتبعتها الحب فى المنفى وكأنه يزاحم اسماء محققة بالفعل فى الوطن العربى لضيف للمكتبة العربية نتاج صنعه بمهارة شديدة ثم توالت الاعمال المبهرة والتى احتفى بها النقد وتحولت الى افلام سينمائية ايضا وتكفى ( خالتى صفية والدير ) ثم ( واحة الغروب ) ..الكل يشهد له وعلى المستوى الانسانى لم يطعن أحد بتلك الأبوية المفرطة مع الجيل الجديد من كتّاب القصة، ولقد حضرت اكثر من لقاء معه بعد ثورة يناير فى الأقصر والجيزة وقد شاهدت بنفسى واشهد انه سمع زميل لنا (عصام السنوسى) فى قصة قصيرة وكان يحفظها فكان رده ( تذكرنى بيحيى الطاهر عبد الله الذى يحفظ قصصه، انت تحب التكثيف مثل) هذه الكلمات كانت داعم للصديق سنوسى لكتابة للقصة بالعامية وقد سبقه د. طه وادى ( الله يرحمه ) فى ذلك..
اذا اختلف لا يهاجم قدر توضيح وجهة نظره، اذا دعم إلتزم، اذا فاز بجائزة دولية يقبلها على استحياء، الكل يشهد له هذه السلمية والسلام النفسى والهدوء الذى يؤمن به قدر ايمانه بقيمة ونكهة الأدب، اذكر انه اعترض على رفض نصرالله ابراهيم الجائزة وقال ( لن نزيد بل نمتع ونستمتع ونقبل تحايا الاخرون ) ونشرهذا فى ادب ونقد واحترمه الوسط الأدبى كله رغم الضجيج وقتها ..
الشاهد أن الراحل الانسان اقوى من الأديب الفنان عند بهاء طاهر واعتقد ان ( نقطة لنور ) م أهم أعماله حيث الزخم والشخصيات والاحداث المتلاحقة والرهان طول الوقت مشاركا القارئ فى الحث عن النور / الحب اى يغير كل شئ ورجعة ( لبنى ) بتلك الفضيلة بعد انهيارات وهزائم كادت تفتك بها ، وقد قالوا ان رواياته جميعها تؤسس لتيار الوعى لدى الكاتب والرواية فى مصر وبلادنا العربية وسرده رهيف لدرجة المتعة ولا تقارن باحد.
نعم هذا بهاء طاهر الذى نعرفه وامتعنا بحرفية الكتابة الابداعية وقد تأثر البعضمن أجيال لاحقة فى التسعينينات وبداية الألفية الثالثة بعد نقطة النور، واحة الغروب ولتى صدرت 2006 ويتضح هذا من روايات لها حضورها بمعرض الكتاب والاحتفاء النقدى بأصوات تستحق لأنها من مدرسة بهاء طاهر ولن ينكر التاريخ والقارئ النوعى ذلك..
تحية من العقل لكاتبنا الكبير ثم تأت المحبات وسحائب من الرحمة من باب الرجاء وكما نقول ( ذكرى طيبة وسيرة مليحة ) هكذا نحاول قدر الوفاء استلهام عطر حياة المخلصين فى مجال الابداع والانسانية لكل رموزنا الثقافية والتى لن ننساها مهما طال الزمن والعمر فى الحياة الأدبية ..

الكاتبة والمحاورة نجلاء أحمد حسن تكتب: واقعية بهاء طاهر ورصد التنوع الثقافي بمجموعة الخطوبة

 

من خصائص الأدب الواقعي القدرة على رسم الشخصيات، بكل أبعادها وطموحاتها وأفكارها وبيئاتها الحقيقية الثقافية والاجتماعية بل وزلاتها وأخطائها الإنسانية بدون اللجوء إلى تأليه البطل على حساب الواقع، فيظل الإنسان بشرا، يخطئ ويصيب، يحب ويكره، يثق ويحقد، وقد يكون مدمرا لنفسه وغيره متسلطا وهو ما يجسده أدب نسيج الواقع، وحوارات الحياة اليومية وهو ما تمثله مجموعة الخطوبة لبهاء طاهر.
وهي إحدى نماذج اتجاه الأدب الواقعي بكل خصائصه فهو يصور الحياة اليومية باقتدار، دون تسربِ لشعور تجميل الشخصيات أو التدخل في لغة خطاب الحياة اليومية، لشخصيات قصصه فمنذ الوهلة الأولى يجد القارئ نفسه متوحدا مع الشخصيات، ومصدقا لكل تفاصيلها الواقعية بألفاظها ومكوناتها النفسية والإجتماعية، وكأنه يرسم كادرات سينمائية متعددة، تحكي الواقع راسما بالكلمات وحوارات الشخصيات بألفاظ عصرها.
يسبح القارئ بخياله نحو نسيج الواقع للحياة الأُسرية وأعمار الشخصيات وألوان ملابسهم وتصميماتها التي تعكس عصرها وطبقاتهم الاجتماعية والثقافية، بل وضحكاتهم وتهكماتهم التي تتجسد في سينما العقل.
تتمحور صور تلك المجموعة الأدبية حول صراعات رمزية السلطة بكل أشكالها.
ففي قصة الخطوبة أول القصص في المجموعة تًظهرصورها معاني واضحة يمثلها الشاب الذي يتقدم لخطبة محبوبته ليلى، ليجد نفسه في مواجهة إبتزاز عن طريق معلومات مغلوطة يسردها االأب بشكل ضاغط ومفاجئ في محاولة لتبرير رفضه له كعريس لإبنته ولكن ، بأن يظهر هو أمام إبنته بريئا من فكرة أن يكون هو الرافض له بشكل مباشر، وأن يكون الخاطب هو السيء، وهو المتلاعب وأنه يحاول أن ينجو بابنته، من براثن شاب علم عنه الخسة والوضاعة والتسيب الأخلاقي، وذلك مستخدما براعته في كشف تاريخه، متحريا ومستخبرا عن العريس وعائلته بالمعلومات التيجمعها الأب من بيئة العريس المحيطة، والتي كلها تحمل احتمالات أن تكون مغلوطة أو مشوهة أو أن يكون ذلك الشاب مجرد ضحية من ضحايا الإشاعات الأسرية، وهي ما بين حروب على الميراث وحروب التشويه بالعمل في الشركة التي أثرت فيما بعد على حياته العاطفية وتهديد الأب له بكتمان ذلك كله في مقابل ألا يقوم بتشويه سمعته في العمل مستقبليا.
ومن المفارقات الغريبة قصة الأب الذي يتعرض المبدع بهاء طاهر لقضية مازالت قائمة بالمجتمع حتي أيامنا هذه، وهي العنف الرمزي وهو ما تتعرض له ابنته من قبل زوجها، وهي حالة رصدها بهاء طاهر وهي تحكم الزوج براتب زوجته وقيامه بطلاقها وممارسة الضغط النفسي عليها لترجع مغلوبة على أمرها الى بيت الأب، شاكية إلى أسرتها سوء معاملة الزوج لتلك المسكينة، ويشحذ بهاء طاهر ذهن القارئ الذي تظهره، المقارنة بين مواجهة الأم لزوج ابنتها وقدرتها الهائلة على وضع ابنتها أمامه في مكانتها الأولى قبل اقترانها به، بعد أن عاد معتذرا ومواجهته بأن قيمته أقل بكثير من كل العرسان الذين تقدموا للزواج منها قبله ، ونجد حبكة بهاء طاهر في نسج حوار الأب في جلسة تفاهم مع زوج ابنته ،بأن الحياة تحتمل التفاهم دوما فخرجت الابنة مع زوجها متجهين سويا إلى البيت، فتبدا هي في استعادة ذكرياتهما سويا، و يتذكر هو أن زواجه كان بديلا للانتحار، فقد كان ينظر إلى تلك الزيجة بأنها فخ وقع فيه لحظة ضعفه وأنها هي التي ضغطت عليه بأنها لن تعيش بدونه.
أما هي تلوم نفسها وتجلد ذاتها، بأنها السبب في فشل الزيجة باكتسابها وزنا زائدا وإهمالها جمالها مع مرور الأيام، وتصبح هى العائق الرئيسي لفشل علاقتهما الزوجية وعائق انجابهما الأول، فقد كانت فتاة جميلة على تقف على محطة الأتوبيس وانتهى بها الأمر الى زوجة له .
القصة الثانية بالمجموعة بعنوان الصوت والصمت، التي وصف بهاء طاهر البيئة وجمال السماء والأرض بعد المطر فالأشجار خضراء مغسولة والأرصفة تعكس الشمس التي عكست النجوم على الطرقات.
عكس المؤلف حالة التنوع الثقافي بالمجتمع بجلوس سيدة أرملة أربعينية ترتدي طرحة سوداء بجوار ابنتها الصامتة فتاة ترتدي فستان سماويا بلا أكمام ،واضعة بلوفرها الأزرق على حجرها ولا تستطيع تحقيق أحلامها بإستكمال تعليمها ، ورصد المبدع بهاء طاهر الهوة الثقافية والفكرية بين جيلين وحالة الصراع بينهما فالأم عاشت وحيدة تحت ضغط مجتمع يطلق الشائعات لمجرد أنها إمرأة جميلة مع ابنتها الصامته دوما إلا من سرد طموحاتها في تكملة تعليمها، دون أن تخطو خطوة واحدة لتحقيق ذلك، لتظهر المفاجأة بأن حياة السيدة الأم عابثة متعطشة للعلاقات؛ ليكتشف القارئ سر هذا التنافر بينها وبين إبنتها صاحبة الكلمة الاولى فهى مالكة الشقة التي يعيشان فيها سويا
الصوت الصمت رصد المبدع بهاء طاهرة حالة تكوين الهوية و صورة مصر في عيون الصغار بين ميدان التحرير وكورنيش النيل والجيزة وأحاديث الإنتماءات الكروية التي تسيطر على الخطاب الحياة اليومية بين مخاوف الصغار من غضب الكبار وبين حالة الإختلاف الفكري بين أهل البيت الواحد التي قد تعكر صفو اليوم . وكأن البيت يمثل سجنا أو قبرا بذهن أفراد الأسرة فهو دوما يمثل القيد، وعدم الراحة، وكان المتنفس الأول للأسرة هو الإنتماءات الكروية والأحاديث المصاحبة له، وهو التنفيس الذي يظهر حالة التنمر بين أفراد المجتمع مستترا ومستخدما الانحياز لفريق كرة القدم المنتصر .
القصة الثالثة ترصد حالة الضجر الشديد وأن الجميع أصبح مختنقا في روتين البيت ومشاهدة التليفزيون وكان البيت سجناء او قبرا
أما قصة (اللكمة) ص ٥٣ تحكي عن لكمة وجهت بلا أي سبب وهي فكرة فلسفية فقد يصاب الإنسان بأشياء تصيبه بلا أي مبرر ويرصد بهاء طاهر ردود أفعال المحيطين بذلك الشخص طوال الوقت، وتبريره المستمر لكل متسائل أنه مظلوما وليس مستحقا لتلك اللكمة التي أدمت روحه كما أدمت رأسه
يتحرك بنا بهاء طاهر في كل قصصه بفكرة محورية وهي إشكالية الروح المعذبة والمضغوطة في عتمة حياة الجسد المتهالك، بحوارات المجتمع الذي لا يرحم أحد وفي مكاشفة لجميع الأشكال والصور لتلك المجتمعات التي تستتر دوما تحت شعارات مغايرة ومتناقضة لتلك الحقائق
وفي قصة( بجوار أسماك ملونة ) رصد بهاء طاهر ظاهرة لغة خطاب الحياة اليومية بإدخال ألفاظ اللغة الفرنسية مع بعض كلمات العربية مثل «جنان -مش ممكن» وهو ممتد حتى عصرنا الحديث
وفي قصة (المظاهرة) رصد نماذج للمرأة حالة العند المتبادل بين زوجين التي تظهر في جميع البيوت بعد فترة طويلة من الحياة الزوجية، فمثلا أحدهما لا يحب البطاطس ولكنه يأكلها والآخر، لا يحب الشاى الساخن ولكنه ينكر أن يشربه وحالة التراشق اللفظي بين زوجين ماتت مشاعر المحبة والبهجة بينهما ، وبقت حالة الندية والعند والعنف اللفظي بفعل سلطوية ضغوط حياتية وإجتماعية مثل موضوعات عائلية معلقة مثل الميراث بين أهل الزوجة التقطيب الذي تنتهجه الفتاة ذات الملابس المثيرة في أثناء سيرها في الشارع لمنع المعاكسة ورسم وجه الجدية ونفي أن تكون عابثة نظرا لثقافة المجتمع السائدة بأن المراة التي تظهر بشكل محبب لها يترجم في الأذهان أنها شخصية رخيصة وسهلة المنال وكأن تقطيب الوجه سلاح ترفعه في وجه الناظرين الطامعين فيها
رصد المبدع بهاء طاهر ماكينة إعلانات التلفزيون عن أصباغ الشعر ومستحضرات التجميل و فيلم المصارع الوحشي بالسينما حالة شبق البطل بجارته الجميلة المدخنة التي بكت بعد تنمر أحدهم على عمرها بأنها خمسين عاما من العمر وكان التقدم في العمر عارا وتحقيرا من شأن كرامة المراة ،وهو شيء نادرا ما يتطرق له الأدباء بشكل صريح
ونموذج أمرأة الجاز التي درست الرسم في باريس وأحاديث عن السعادة والحب الضائع مع احداهن ذات العشرون عاما
ظهور المظاهرة الغريبة بنعش رمزي مختلف لفريق كرة مهزوم حالة الشارع عند مباريات كرة القدم وتنمر فريق الفرقة الفائزة وخناقة بين مشجعي الفريقين والتي تنتهي دوما بأن مشجعي الفريق المهزوم هم تلك الفئة التي يتشفى فيها المجتمع تلك الليلة وهو الذي يحمل اثام العالم ولابد أن يتم محاسبته عليها وإفتعال المشاجرات لدرجة أن أحدهم جرح وسالت دماءه وفي إنتظار سيارة الشرطة ولكننا أمام نهاية مفتوحة فهل جاءت الشرطة ؟ وهل سيبت في الحجز الشرطة للتحقيق معه ؟ وكيف سيذهب لإستئناف حياته العملية في صباح اليوم التالي لمواصلة الشقاء اليومي من اجل لقمة العيش في تلك الحالة ؟
وفي قصة ( المطر فجأة ) يرصد الكاتب بهاء طاهر قصة تحكي الحالة الإقتصادية وهي عصب الحياة الإجتماعية رجل وسيدة في شارع بوسط البلد أثناء أسبوع الأوكازيونات والتخفيضات بمحال البيع الذي تهرع فيه الأسر من الطبقة المتوسطة بعد انتظارها لتلك التخفيضات من العام للعام ومن الموسم للآخر لسد احتياجاتهم السنوية . وحالة من المكاشفة وسؤال أحدهم لسميرة هل أحببت ام لا ؟ وردها بالنفي المصاحب بضحكلتها التي لم تقنعه . وحوار حول دور المرأة بالبيت نحد صورة رمزية لشكل الأسد العابس الجالس بكوبري قصر النيل وقد امطرته الطيور بفضلاتها وظهور المطر و التغير المفاجئ الذي يعطي حالة جديدة بان دوام الحال من المحال، وبداية رذاذ المطر الذي ينبى بالرجوع الى حالة النظافة والنقاء.
وفي قصة (كومبارس من زماننا) ص١٢٨ يتسائل بهاء طاهر في بداية القصة بشكل صريح من هو مالك العمارة ؟ تاجر الخردة وادعاء مطلقته التي تصاحبه دوما أنها صاحبة تلك العمارة ذات الاثنى عشرة طابقا بوسط البلد بشارع فؤاد االتي تعاني من الإهمال
رصد بهاء طاهر أهل العمارة المختلفين دوما تاركين ذلك الكيان الذي يضم عائلاتهم مهملا قذرا ، فقط هم يرصدون ما لا يعنيهم ويهتمون بكل ما هو هامشي فقط يتلصصون على بعضهم البعض ، بين من حلق ذقنه وبين من يعاني مرض السكري والأندية والكمساري ومهندس الزراعة الذي شرب أربع زجاجات من البيرة
وقصة الكمبارس الصامت التي تراوده صاحبة العمارة عن نفسه، لكي يسحب الشكوى التي قدمها بأن العمارة سيئة وأن البواب سيئ ورغم ذلك جاءت إليه ووقامت بإغوائه وإنها ترغب في أن تصبح ممثلة لما لها من جرأة وهنا المؤلف يرصد صورة المجتمع الذهنية عن حياة الفنانين بانهم يملكون أخلاق ضحلة بل بلا اي إطار إجتماعي منضبط
إن مجموعة الخطوبة لبهاء طاهر ترصد بعمق أفكار المجتمع بكل طبقاته وكانه خطاب للحياة اليومية وهو جدير بالدراسة الأنثربولوجية النفسية باكثر من منهج ونظرية، مرات عديدة في أكثر من اتجاه لرصد التغير الإجتماعي الذي حدث للمصريين بشكل خاص.

الكاتب والناقد زكريا صبح يكتب: اللحظات الفارقة في حياة المصريين في رواية شرق النخيل لبهاء طاهر

اللحظات الفارقة في حياة المصريين في رواية شرق النخيل لبهاء طاهر
الهزيمة القاسية وضياع الأرض، أودت بالكرامة المصرية إلى  الحضي
ض، ذهبت بعقول المصريين، لم يصدق أحدهم ما آل إليه الأمر، أي هزيمة نكراء تلك التي استيقظ عليها الشعب بعد وعود عدة من قبل القيادة السياسة وخداع القيادة الإعلامية، هزيمة مُرة علقت مرارتها بحلوق المصريين لاسيما الشباب منهم، الشباب يعني الحلم والأمل، يعني قلوب متقدة،  وحماسة ملتهبة، الشباب يعني كرامة ثائرة  تأبى الهزيمة  ولذا خرج الشباب خاصة شباب الجامعات فى عام ٦٨ يطالبون باسترداد الأرض ورفع الهامة ولملمة الكرامة المبعثرة، خرجوا يطالبون بالثأر فما كان من النظام إلا قمعهم وتخدير حماستهم بوعود كاذبة، ولأن الشباب لايقبل بالهزيمة عاودوا الخروج ثانية فى يناير  ٧٢  مطالبين  بمحو عار الهزيمة وفتح المجال للديمقراطية  بعد أن كان وعدهم الرئيس الراحل أنور السادات أن عام ٧١ هو عام الحسم، هنا يلتقط الكاتب الكبير بهاء طاهر  هذه اللحظة الفارقة  حيث اندفع شباب الحامعات  فى مظاهرات عارمة  للتعبير عن غضبهم الجامح، ولأن الكاتب ليس مؤرخا  بل راصد لتحولات المجتمعات محاولا تلمس أسباب انهيار المجتمعات ومتلمسا  تبعات الهزائم  وأثرها على المجتمع أفرادا وجماعات أقول لأن الكاتب يرصد بعين فنان وقلب منفطر وضمير  يقظ  فإنه صور أحداث الرواية فى يوم عاصف من المظاهرات والمطاردات  بين  أمن النظام _ الذى لا يعنيه سوى النظام  وأمنه  _ والطلاب الثائرين على ضياع كرامتهم وارضهم، موضوع روائى بامتياز  عالج فيه بطريق غير  مباشر القضية وحدد فيها أسباب الهزيمة  لمن كان له عقل  يستطيع  استنباط  رأيه، 
ليس مصادفة البتة  أن  يجعل البطل الرئيس ومعظم أبطال العمل بلا أسماء  وكأنه أراد أن يقول أن الهزيمة  أضاعت الهوية فليس ضرورة إطلاقا أن نعرف من عساه يكون  هذا البطل، هو شاب  من شباب مصر  ربما  من صعيدها وربما من ريفها، ربما كان مسلما او مسيحيا، ربما كان غنيا او فقيرا، لا يعنينا، فاذا ضاعت الأرض  وتحققت الهزيمة فلا معنى لشيء بعد ذلك، ولأن الهزيمة  كانت مرة بطعم العلقم  و مؤلمة  حد الموت  فقد كان البطل لا يفيق  من سكره وكأنه يهرب من  الحقيقة المرة، والحقيقة تقول أن الأرض ضاعت والهزيمة وقعت والفضيحة مجلجلة،  ليس هناك مثل  هزيمة الأوطان، فما بالك إذا كان الوطن قاطرة لامة، البطل  لم يعد راغبا فى النجاح  لذا فقد تعاقب عليه زملائه  وهو لم يزل فى المرحلة الثانية لا يغادرها، جيل الشباب عبر عنه الكاتب فى روايته بمجموعة من طلاب  الجامعة يسكنون شقة  فى حى المنيرة العريق  القريب من وسط البلد  وميدان التحرير الشاهد دائما على عظائم الأحداث،  مجموعة  مختارة بعناية مثلت طوائف شتى  من الشباب، سمير  الثورى  وسوزي المنحلة  والبطل الضائع وليلى الحالمة، يجمعهم جميعا وطن ضائع  وتنحنى هاماتهم  خجلا من العار، والهزيمة ليست وليدة الصدفة وإنما  الهزيمة  سلوك  واعتياد،  فمن  فرط فى ارضه التى  يملكها  والتى تركها له  والده  والتى رواها  بعرقه  وزرعها بكده لن يستطيع الدفاع عن أرض الوطن، هذا ما صوره لنا الكاتب الكبير بهاء طاهر فى روايته صغيرة الحجم كبيرة المضمون عظيمة الأثر والتأثير فى سهولة تمتنع عن كثير من الأدباء ذكر لنا متن الحكاية التى توازى حكاية الوطن، والحكاية أن والد البطل الذى لم نعرف له ولا لابنه اسما كان يملك ارض تركها له والده شرق النخيل ولان الجد يعرف قيمة الارض استصلحها واعدها للزراعة، فعل ذلك بمجهود فردى حتى اصبحت الأرض مطمعا ولما مات تركها لولديه فى حوزتهما فإذا أحدهما يكمل مسيرة والده ويعتنى بأرضه بينما الآخر وهو والد البطل الرئيس فى الرواية يهتم بالمال وجمعه وإقراضه ربويا ولذا عندما طمع جيرانهم فى الارض لم ينتفض لها مدافعا إلا الذى اكمل مسيرة والده بينما الذى اهتم بالمال نكص على عقبيه وتراخى فى الدفاع عن أرض ابيه وترك اخاه يدافع وحده ارضهم حتى سقط قتيلا، هكذا وببساطة الحكى وعمق الدلالة يقول فى غير مباشرة كيف يدافع عن أرض وطنه من لم يستطع الدفاع عن ارضه الخاصة، رواية شرق النخيل تقع فى مائة وست وثلاثون صفحة من القطع الصغير.
وكيف تكون كبيرة الحجم وهى تمثل يوما واحدا فى حياة البطل الجامعى الذى لم يعد مهتما بنجاحه ولا بعقله ولا بنفسه، يوم واحد يسرد لنا فيه البطل الحكاية الرمزية على هامش الحكاية الاصلية، ونحن إذ نستكمل العمل لا نعرف الاصلى من الهامشى، اذ يتماهى هذا مع ذاك، لنعرف أن الدرب واحد فمن تخاذل عن نصرة أخيه فى وجه الطامعين لن يستطيع دفاعا عن ارض وطنه الذى يعيش عليها، والنتائج واحدة، فمتى تخاذلنا عن أرضنا الخاصة ضاعت كرامتنا وقتل اهلينا وفقدنا عزنا و ضعنا وأصبحنا مثل الذين يعيشون تيها لا يعرفون متى الخروج منه، وكذلك عندما تمنى الأنظمة الحاكمة بالهزيمة النكراء يضيع الوطن واهله ويفقد الناس عقولهم ويهيمون على وجوههم فى الطرقات ويحتسون الخمر لا يرغبون فى الصحو والانتباه هربا من ألم الهزيمة وهربا من انكسار الذات رواية قصيرة تدور أحداثها فى يوم عاصف من أيام ثورة الطلاب الذين تألموا من الهزيمة فجأروا بالصراخ والهتاف فى قيادتهم السياسية مطالبين إياهم بالثأئر ممن أوقع بهم الهزيمة، وفى خلفية هذا اليوم يلعب معنا الكاتب لعبة الفلاش باك أو الاسترجاع التى مثلت التقنية الرئيسة فى العمل ولقد كانت لهذه التقنية اهمية كبيرة إذ من خلالها عرفنا الماضى المذل للبطل وأبيه
وتقنية أخرى جاءت فى صدر الرواية وهى استخدام الخطابات بين الأب المرابى وابنه الضائع فى طرقات القاهرة، خطاب يرسله الأب وخطاب يرد به الابن نعرف من خلالهما تاريخ هذه الاسرة
رواية الراوي المشارك وهو الطالب الذى ضاع ولم يعد قادرا على النجاح، هو بنفسه يروى الرواية من بدايتها حتى نهايتها، لكن ذلك لم يمنع من الاستماع لاصوات الابطال الاخرين من خلال حوارت البطل مع هذه الشخصيات، لغة راقية لم تلجأ إلى العامية مطلقا، سهلة فى غير سطحية وعميقة فى غير الغاز.
لم يتركنا الكاتب دون أن يأتي على ذكر القضية الفلسطينة محاولا أن ينفى عن أهلها فكرة بيع الارض، جاء ذلك على لسان عصام الطالب الفلسطينى زميلهم فى الجامعة والذى أزال العصابة التى ربطها العرب على عقولهم هربا من الحقيقة المؤلمة، والحقيقة تقول أن أهل فلسطين لم يبيعوا أرضهم ولكنهم اجبروا على تركها، لكن العرب فضلوا ترديد مقولة انهم باعوا ارضهم تنصلا من المسئولية وخلودا إلى الدعة والراحة، لانه من باع ارضه عليه ان يتألم وحده، بينما الحقيقة ان الخذلان كان عارا كلل جباه الجميع كذلك ناقشت الرواية فى مشهد بالغ الصغر لكنه بالغ العمق والدلالة كيف يفكر جيل الاباء وكيف يخنعون بينما الشباب تملؤه الثورة والحماسة الجنود يطاردون شابا فيختبئ فى الترام ويحتمى بركابه فتحميه امرأتان ويشى به رجل من جيل الآباء لانه يعتقد أن الابناء بثورتهم سبخربون الاوطان.
كأن الكاتب كان من الشفافية بحيث رأى المستقبل بعين ضميره إذ خرج الشباب فى الخامس والعشرين من يناير لسنة ٢٠١١ ثائرين مطالبين بالديمقراطية ومطالبين بحقهم بشراكة حقيقية فى وطنهم واذا بالاباء يصمونهم بالتهمة ذاتها، الشباب يريد تدمير البلاد ما اشبه الليلة بالبارحة، يناير ١٩٧٢ ويناير ٢٠١١ تجمعات الشباب فى ميدان التحرير ذاته والجنود هم الجنود والاباء هم الاباء والقضية نفس القضية كأن الوطن لا يتحرك خطوة للامام وتنتهى الرواية بنهاية مفتوحة على وطن يبجل الخرافة وينتصر لها و يقتل العقل واهله وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا او هكذا فهمت أنا، أن وطنا مهزوم سيظل دائما فى حالة هروب جماعى إما الى السكر وغياب العقل وإما إلى السقوط فى بئر التدين السطحي الذى يتلاعب فيه مشايخ الجهل بعقول البسطاء، وفى كل الأحوال تضيع الأوطان، شرق النخيل وغربه، شماله وجنوبه.

أوبرا مصر /ملفات وحوارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى