عبد الرحمن أقريش يكتب الريح والحمام
قصة قصيرة
الصباح، الساعة 9.15
يجلس (المامون) في مكان مرتفع، مكان يشرف على المدينة ويهيمن على الأفق، يدخن، يشرب قهوته وينظر أمامه، ينظر إلى اللاشيء، يتأمل الفراغ، يفكر ويحاول ألا يفكر.
يبدو العالم الخارجي مكشوفا أمامه وعلى مرمى حجر، البيوت المجاورة تنتظم يمينا ويسارا، أشياء وتفاصيل أخرى كان قادرا على رؤيتها بوضوح، مكتب البريد، الصيدلية، موقف الحافلات بواقيته وكراسيه الحديدية المعطوبة، السور الخلفي للمدرسة الابتدائية، المتجر الذي يجر وراءه تاريخا غريبا وممتدا من الكساد، وفي كل مرة يغير بضاعته بدون جدوى، علامة (قف) المقلوبة التي تعلن نهاية زقاق وبداية آخر، والتي عادة لا يتوقف عندها أحد…
بدت له المدينة غابة إسمنتية ممتدة، تخترقها ممرات إسفلتية سوداء وأخرى لا لون لها، يفكر أنها مدينة ميتة، محنطة، فقدت روحها من زمان.
يسأل نفسه، لم لا يحب هذه المدينة؟
ترتسم على وجهه ابتسامة مؤلمة وكأنه وجد الجواب.
يسافر، يغادر المدينة، يغترب لسنوات، وفي كل مرة يعود يجدها كما هي لا تتغير أبدا، نفس البؤس، نفس الحفر، نفس العفن، لا حدائق، لا مكتبات، لا سينما، تكبر المدينة، تتمدد مثل ورم خبيث، تفعل ذلك بانتظام، وفي كل مرة يتسع مشهد البؤس، متسولون، لصوص ومحتالون، مجانين وأطفال مشردون يجوبون الشوارع، كلاب وقطط ضالة، بهائم عجفاء متخلى عنها…
يبدو الجو مضطربا في هذا الوقت من السنة، طقس يستعصي على التصنيف، لا بارد ولا حار، فسنوات الجفاف مسحت الفصول كلها، وحل محلها فصل جاف أغبر يكتم الأنفاس.
ثم عندما يعود إلى نفسه، ينتبه إلى المقبرة، ينظر إلى الجدار الحجري العالي الذي يفصلها عن المدينة، إلى برج الماء، إلى الأشجار التي تحف جانبا من سورها وبوابتها الخشبية الضخمة.
ثم يغمره شعور مريح، يقدر أن هذه المقبرة هي المكان الوحيد في المدينة الذي يتمتع بقدر معقول من الهدوء والنظافة والجمال…
كان ما يزال مستسلما لهواجسه عندما هبت ريح قوية من جهة الجنوب، هبت معها زخات خفيفة وباردة، ثم تحولت الريح إلى زوبعة سديمية بلون التراب، تعالت الأشواك وبقايا الأوراق والأعشاب الجافة، ترتفع، تسافر.
يستشعر رائحة الأرض تملأ عليه كيانه.
ثم يحدث أمر عجيب.
سرب من الحمام البري يظهر في الأفق، يظهر فجأة وكأنه ينبثق من العدم.
يطوف الحمام على المقبرة في دورة، دورتين، يطير، يعلو، يرتفع، يطفو، ثم يهبط في حركة تمويه، يقترب من الأرض، ولكنه لا يحط، ينحرف يمينا ثم يسارا، ويغادر المقبرة، يغيب للحظات، ثم يعود، يحوم على ارتفاع منخفض، يحط للحظات على الممرات بين القبور، ثم تهب الريح أقوى مما كانت، تعود زخات المطر، يطير الحمام مرة أخرى في حركة قوية ومنفلتة، يرسم دوائر وأشكالا متناغمة، فيبدو جزءا من مشهد الريح والزوبعة…
انخرط (المامون) في لحظة بياض قوية، استيقظت هواجسه، استعاد بداخله فكرته عن السعادة والشقاء، عن الموت والحياة، فكرة تخصه لوحده، فكرة يمتزج فيها الإيمان والشك والألم والأمل بالمعنى الفلسفي والديني العميق، نوع من التفاؤل المأساوي.
ثم ينتبه إلى قهوته التي فقدت جزءا من حرارتها، يشعل سيجارته الثانية، يمتص منها نفسا عميقا، ويطرد الدخان من رئتيه، يرسله، يدفعه بعيدا في أعمدة قوية ومستقيمة، يبتسم، تتسع ابتسامته، ثم تنمحي.
يخاطب نفسه بصوت مسموع.
– السعادة والشقاء هي قضية الأحياء، أما الأموات فالراجح أنهم يستوعبون الدرس، إنهم يفهمون المسألة بشكل جيد، لذلك يستمتعون باستراحتهم الأبدية.
ألقى نظرة إلى الأفق، استعادت المقبرة هدوءها، تمنى لو تعود الريح، لو يعود المطر، تمنى بالخصوص لو يعود الحمام.
انتظره للحظات، انتظره طويلا ولكنه لم يعد.