دراسات ومقالات

الأديب القدير إبراهيم عبد المجيد يكتب ولا في الأحلام . مسرحية كل زمان

صحبني الصحفي والكاتب مصطفي طاهر وزوجته الشاعرة والكاتبة زيزي شوشة ومعي زوجتي لمشاهدة مسرحية جديدة هي ” ولا في الأحلام ” تشجعت بحديث مصطفي طاهر وذهبنا أنا الذي غبت عن مشاهدة المسرح منذ سنوات بسبب ما مر بي من أزمات صحية. كانت آخر مسرحية رأيتها هي “اضحك لما تموت” من تاليف لينين الرملي وإخراج عصام السيد وتمثيل نبيل الحلفاوي ومحمود الجندي وسلوى عثمان. لقد عشت حياتي أحب المسرح وكانت لى بعد كل مسرحية أجمل السهرات مما تجد شئيا منه في كتابي “الأيام الحلوة فقط”. المسرحية على مسرح سينما قصر النيل. أخذني الشوق القديم وذهبت. وجدت نفسي أمام عرض مسرحي طموح في الجمال وفي فكرته وفي أداء الجميع. المسرحية غنائية بها حوار أحيانا ما يلبث أن يتحول إلي غناء، والغناء مصحوب بالرقص من فتيات وشباب صغير وأبطال العمل. رقص هو تنويع على بالباليه يتناغم في حركاته مع الموسيقي ومع الكلمات.  فكرة المسرحية التي تدور في ستينات القرن الماضي، هي  أن مخترعا يقوم باكتشاف مشروب سحري، يدخل بمن يشربه إلى منطقة الحلم الذي يحقق فيه رغباته المكبوتة في عالم سعيد، فيعيش أجمل ولو لوقت قصير. هذا الذي له سمة العلماء يحمل اسما مثيرا للضحك هو” برجل ” يقوم بدوره هاني عبد الناصر، ويحاول أن يقنع أخاه الذي يحمل إسما أكثر إثارة هو “سفرجل” ويقوم بدوره الفنان محمد عبده، أن يقوم بالشراب وينام فسيري ما يريد في الأحلام. الإثنان يسكنان في مكان أشبه بالحارة الصغيرة تتفرع من حارات أخرى، وبالمكان محل خردوات البائع فيه اسمه صابر ويقوم بدوره شادي عبد السلام، وبائع فول على عربة هو كمال ويقوم بدوره ابراهيم سعيد، وسكان يظهرون يعيشون حياتهم مثل أحمد ويقوم بدوره بهاء الطومباري، أو نفيسة وتقوم بدورها تالا رضوان أو نيفين محمود ذات الاسم الجميل ” كاليتسا ” في المسرحية، والتي تحملنا من أسمها ولغتها الفرنسية التي تتحدث بها مندمجة في اللغة العربية، إلي بلد قديم كان يسمي مصر، وتكون “كاليتسيا” رمزا للجاليات الأجنبية. ليس رمزا سياسيا لكن رمز للمكان وعلامة على الزمن. لكن الخردواتي الذي ظهرت لتشتري منه بعض الأشياء مثل الزراير،

يذكّرها بانها مدينة له وتبدو حائرة مسكينة من أزمتها. المشاهد لا تستمر كثيرا، فالمؤلف والمخرج يتنقلان بينها بسرعة لتكون وسط أحد ث كثيرة في الحارة. تظهر الفنانة زهرة رامي وتقوم بدور “زهرة” وتظهر الفنانة منى هلا وتقوم بدور “جميلة”، ويبدو سفرجل حائرا في اعجابه بينهما. كل واحدة مشغولة باسمه الذي لايعرف معناه ويضايقه السؤال لكنه يحاول الإجابة، ودائما لايصل إلى نهاية فالأسم محير، ومظهر حيرته أنه مثير لسؤال بلا إجابة، وكأن الحيرة في الاجابة وتكررا السؤال تجسيد للحيرة في الإسم، وتتذكر كمشاهد أن أخاه المخترع هو “برجل” والبرجل يصنع الدوائر، لكنه باختراعه يدخل في خط مستقيم فيصل إلي غايته من التجارب العلمية، لكن يقع سفرجل في دوائر من العلاقات وبين الأحلام والحقائق. مايكاد يبدأ الحوار حتي يتحول إلي غناء ورقص لمجموعة فائقة الجمال من الفتيات والشباب ومن بين الغناء  الجميل أغنية رائعة للشاعر ابراهيم عبد الفتاح هي أغنية ” مستحيل” بينما الباقي للمؤلف والموسيقار إبراهيم موريس. يوافق “سفرجل” علي شرب المشروب السحري ويدخل الحلم ويتنوع لقاؤه بين جميلة وزهرة. خلال الحلم نراه في الحدائق أحيانا مع جميلة، ونراه في الشوارع أحيانا أمام البيوت حيث الحوار، وفي كل مشهد يتحول الحورا إلى غناء. بين ذلك تظهر امرأة شابة ترتدي فستانا أسود هي منار الشاذلي تبكي وسط الفرح. معها طفلة صغيرة هي دعاء أو دودو تقوم بدورها “حبيبة عادل” التي تبدو طبيعية جدا في الأداء والغناء معهن والرقص. الأرملة الشابة تدفعها إليهم في الحلم الذي غطس فيه سفرجل، فيسألون الطفلة من هي فتشير إلي أمها التي يسألونها هي التي ترتدي السواد عكسهم جميعا في ملابسهم البسيطة الأنيقة، ملابس الستينات التي تبرز جمالهن ورقصهن، فتبكي الأرملة الشابة وتخبرهم بالغناء أن زوجها توفي وترك خلفه ديونا كبيرة، ومالبث البوّاب أن جاء بالديّانة بعد الوفاة وأخذوا كل شيئ في البيت والبيت نفسه، ولم يعد لهما إلا الشارع. في أول مرة تقنعها من يحبها سفرجل ومن اتسقت معه على الحب أن تذهب إليها فى الصباح وستجد لها عملا، لكنها تظهر مرة أخري مع الحلم كلما انقطع وعاد فيظنونها نصابة وهذا أمر طبيعي، ويبدو سفرجل  ساخرا وقد حفظ ما ستقول، لكن المعنى غير ذلك. وجودها مثل إنذار يتكرر أن الأحلام لن تصل إلى السعادة المطلقة، وأن هناك نُذرا سيئة قد تفسد النهايات،

وأن هذا حال الدنيا كما يغنون أحيانا متسائلين ليه يادنيا، ليس عن الأرملة الشابة ولكن عن المعني العام للحياة. العرض من فصلين اثنين وغاية فى الإمتاع . الحركة فيه شدية الدقة والتوازن بين الحوار والغناء لا يدخلك فى أيّ شبهة ملل أو انتظار، وكلمات الأغاني رائعة بالصور والمعاني. لقد كتبها وكتب المسرحية وألف الموسيقى الفنان الكبير إبراهيم موريس، وكلها تحتويك وتتنقل بك بين المشاعر والممثلين على اختلافهم. من قام بأدوار طويلة أو قصيرة، كلهم يعيشون دورهم كأنهم في حالة من الحقيقة، ويظهر هذا منذ البداية فتقتنع عقليا وروحيا بهم وبهن. ينتهي العرض وأنت تنتظر أن لا ينتهي، وتمشي معك المعاني الوجودية للحياة التي تم تقديمها ببهجة عارمة رغم قفزات الأسي والحيرة.. تجد الإجابة أنه ” ولا فى الأحلام” ستجد كل السعادة، لكن تضحك وتغمرك السعادة حين تري عرضا جميلا ولا في الأحلام . يستحق الديكور ومصممه محمد الغرباوي إشادة عظيمة مستقلة، سواء في البيوت أو للوحات التشكيلية التى تجد الحارة فيها أكثر من تجلي، أو الحديقة أو المعمل الصغير أو الشرفة. كذلك مصمم الإضاءة ياسر شعلان ومهندس الصوت علي صدقي، وكذلك مصممة الاستعراضات التي توسع من خشبة المسرح سالي أحمد، ومصممة الرقصات رجوي حامد، ومصممة الأزياء الدكتورة مروة عودة التي تعود بك إلي الستينيات، وتجعل فساتين الراقصات في الحركة مثل المولوية في ارتقائهم بالجسد عن الأرض، وفريق الروك ” رِد سي ” فكلهم أصحاب تجارب سابقة رائعة يطول الحديث فيها، وكلهم جعلوا من العرض تحفة مسموعة ومرئية، أما المخرج هاني عفيفي صاحب الأعمال الجميلة مثل ” أنا هاملت” و” عن العشاق ” وغيرها، فله كل تقدير علي هذا العمل الرائع الممتع، وكذلك كل من ساهم في هذا العمل ممن ذكرتهم أو لم أذكرهم من  شباب الراقصين والمغنين. العمل الذي وهو يحمل جرحا جميلا قد نكون نسيناه، وهو عدم اكتمال السعادة، يُشفي من جروح كبيرة حولنا بما يحققه من جمال في الأداء، وتمازج كل عناصر الدراما المختلفة في هارمونية أشبه بهارمونية السيمفونيات.

إبراهيم عبد المجيد

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى