حيدر حيدر رحيل صاحب الوليمة (3)
الومض والعوالم المختلفة لحيدر حيدر
أسمهان العبادي – العراق
.يقول كارل ساغان ( من الأفضل أن تتبنى حقيقة قاسية على أن تعيش خرافة مطمئنة)،
وكاتبنا ( حيدر) صاغ هذي المجموعة القصصية معتمدًا على أساس تشاؤمي بحت ،ساحقًا الأمل ومنطويًا في حلقات حزينة التشاؤم والحزن الذي يؤدي بأصحابه الى إنهاء حياتهم ضجرًا وتمردًا على واقع ايامهم.
اعتمد الكاتب حيدر حيدر في مجموعته القصصية الومض، على السرد المتقطع، حيث يسير من حدث زمني حاضر وآني إلى آخر بعيد وماضي، استرجاع ذكريات وأحداث ووقائع وربما عبارات وصور متماشيًا مع حالات شعورية مغتربة ومؤلمة.
واستخدم أسلوبا سرديًا آخر في جانب آخر من قصصه متمثلا بالمونولوج أو الحوار الداخلي، حوار النفس ، سخر من قضايا تخص الأديان ورجال الدين من خلال رؤى وأحلام باستخدام لغة شعرية ساحرة ومستفيضة المعاني محققا ادهاش القارئ وموصله الى تشويق حذر من أحداث موجعة تخص الوطن والانسان كروح وبنية ونفس، كان لرجال الدين حصة في أغلب قصصه ، كما استعان بأسماء أنبياء ومرسلين كاسم صريح ، حيث سخر من استغلالهم هالتهم المقدسة لمشاريع دنيوية خالصة تصب في مصلحتهم الخاصة وملذاتهم. حيث شيدوا لأنفسهم تماثيل مقدسة مزيفة ومجوفة فارغة ، استفاضت النصوص بالتعبيرات والافعال الجنسية الصريحة، لم تكن ممتعة بل تثير الضجر والألم فهي تظهر في مواطن الولادة والمخاض وحلم يقظة غريب.
وفي تتابع للقص نجد :
أولى قصصه هي ( الصيد وحكايات البشر)، نجد صيادًا يجول البراري بأدواته البسيطة بحثًا عن صيد مناسب أرنب مثلًا، كان يحمل صمته معه حيثما حل، لكن حين التقى بكهل يجلس عند كهفه، انفجر من جوفه بالون أسراره، كان الكهل والحديث معه دواءً شافيًا، فهو يحمل العبء الثقيل من الأسرار أثقلت كاهله، الكهل جالس والصياد يبوح، تذكر أمه التي ماتت انتحارًا وحرقا بعد اًن وصلتها أخبار كاذبة عن أن ابنها قد سجن وتم التمثيل به بضراوة، لم تحتمل ذلك الخبر فقطعت اثدائها ورمتها نحو السماء ثم أضرمت النار بجسدها ليغدو رمادا، واستذكر ماريا التي لملمت جثة أمه المحترقة وسارت في جنازتها بعد ان رفضها الناس وحرم رجال الدين السير بعدها، ماريا هذه أيضا عانت من أب مغتصب وزاني بأهله، رفضه الناس وأرادوا أن يطهروا الأرض منه، فاحرقوا داره.
هذا الرجل الشاذ كان يعتقد ويؤمن أن هذا الذي حدث في زمن ما بعد الطوفان، جده اضطجع مع ابنتيه وهو اضطجع مع ابنته، وهو يعاقب بإرث قديم حتى سال الدم في عروق الأجيال ووصل إليه.
– صيف محترق
حكاية الشاب الذي احرق نفسه بالبنزين على إيقاع موسيقى زنجية، (يا له من تضارب وتناقض يخلقه الكاتب ينتحر ويحترق وهو يستمع الى موسيقاه المفضلة!! أية ميتة كانت تلك !، شاب وسيم تربى في كنف والديه وجدته التي طالما اهتمت به، في صغره عانى الصرع ونوباته وأصبح ملازما له ،كبر حتى صار عسكريا باسلا، لكنه مازال يحمل مرضه وكربه، دفعه ألم التحمل أن يكتب رسالته الأخيرة إلى والديه محملا إياهم آملا أن ينجبوا أطفال أصحاء ولا يحبون الموسيقى الزنجية..
– الومض
هذا الحديث المغروس وسط غابة بؤس وحزن ،بطلها شاب يسير في الشوارع الخضراء وجوها الماطر، يشعر الجمال في كل ما حوله ويبعد كل ما يذكره بالحزن او يؤرقه.
– حميمود
راعي البقر المنبوذ من القرية ،الوحيد بعد أن توفي والداه وفقد البقرتان الأختان اللتان كان يهتم لأمرهما عبيدة وزيتونة، بعد أن ماتت الأولى في يوم قائظ وبيعت الاخرى، تعلم الحزن والفقدان حين خسر من يحبهم ويحبونه، سكن الكهف ونام فيه بعد أن فقد الانتماء مع قريته، لايهتم لأمره أحد ولا يفتقده أحد، تشاء الصدفة أن تفلت بقرته وتأكل من أشجار القرية المحرمة. ليغضب عليه حارس المزرعة ويضربه بعصا سنديانية قوية ترديه قتيلًا، فيما تستمر الحياة في القرية دون أن يبالي بشأنه أحد، وهنا يشير الكاتب إلى رجال الدين الذين أكلوا حقوق الفقراء وأموال الزكاة ليتزوجوا وينجبوا ويتكاثروا، ويشتروا المزارع والطعام ويعمرون دارهم وأملاكهم ،وكيف يكون عقاب من يأكل من أشجارهم المحرمة.
– حالة طلق
عوالم مختلفة، تعيش وقائع مختلفة أحاسيس وأوجاع مختلفة، على نهر إسماعيل يبحث عن صيد مناسب مع كلبه يجد في النهر بطًا ويحاول الإمساك بأحدها لكنها تطير، وسيدة تخوض الام الطلق تتأوه وتتألم، تعض أصابعها ووسادتها، تساعدها القابلة برش الماء المقدس والطلق يتناوب عليها مرات عديدة.
بيت منعزل في البرية ويوم قائظ سيدة جميلة وشاب يعيشان حالة حب برفقة الموسيقى والشراب.
كنيسة يعلو منها صوت القس مرتلا صلوات وطقوس الحياة ،الأب والابن والروح القدس، الهبوط والصعود، الثواب والعقاب، وعذابات البشر.!
حكاية خلدون الذي يعيش في كنف والديه وجده، جده رفيقه الذي لا يكل ولا يمل من رواية الحكايات والقصص، قصص المظلومين والمحزونين، حفظها خلدون في قلبه ورددها والتصقت به، طرده أبيه ذات ليلة، كما طرده معلمه من المدرسة، جاب الأزقة والطرقات وحيدًا، كان جريئًا ويتفوه ما يخطر على باله دون خوف لم يكن لديه محظور، فهو منبوذ لا محالة سكن البراري وعاش مع الحشرات والحيوانات، اعتاد أن يروي القصص لمن يجدهم يحتسون الشراب فيطلبوه في مقهى على البحر لأنه يروي قصص فاضحة عن رجال الدين والسلطة، بعد أن يطيل الحكاية يطرد من الجلسة، ويعيش وحدته ووحشيتهم، ذات يوم قرروا قتله بلا رحمة. لأنه أدان أفعال رجال السلطة والنفوذ والقوة.
– طقوس العار
حكاية الراعي الأصلع الذي اعتاد على سخرية بنات القرية، يودع القرية ليخدم في الخدمة العسكرية يتذكرو توصية امه أن يكون شجاعا وذو عقل، يغادر القرية يودع منازلها، هناك تبدو عليه القوة والالتزام فيترفع يقع في حب الثكنة والالتزام العسكري. يزداد صلابة وقساوة حتى يسموه وحشا، كان جاهلًا للقراءة ولا يعرف غير التدريب العسكري والجنود ،تصبح الثكنة أهم ما في حياته فينقطع عن زيارة أهله وقريته، يمنح الإجازة فيرفضها بل يطلب الهجوم ويكرر السؤال عنه متى وكيف سيحدث، يجيبه الضباط أن هذا الأمر من قيادة عليا.
يتمرد على قوانين العسكرة فينشأ منظمة صغيرة تعتدي على الجبهة الأخرى وتثار الفتنة، ينكشف أمره وسره ويعاقب بالنبذ والطرد من الجيش.
إشارات الكاتب واضحة حول جهل الانسان ما يريد وما يرغب، رغم قوته دفعه جهله إلى مشاكل وخسارات كبيرة، وتمرده الغبي على قوانين عامة.
– القتيل
حوار وحديث مزيج بين الفلسفة والشعر، مجموعة هواجس ورغبات داخلية دوافع محركة وباعثة، هو ذرة مقذوفة في فراغ ومحدثه الريح، يدفعه عاليًا يرنو فيه في سماوات سبع طباق يريه العالم ،ضباب يلف الكون، يجعله بين الشك واليقين، فيما بين الفجر والليل.
إشارات كثيرة ورمزية عالية تبين ضياع الانسان في متاهات الحياة
– صخور
بطل يسافر في رحلة متخيلة مليئة بهواجس وتأمل عالم فسيح وتارة ضيق وخانق ومظلم، يغادر زوجة وارضا وعالم، طواف غريب ومجهول. نجد انفاس تشاؤمية من وجود الانسان وبقائه، على الرغم من سفره وتغييره لحياته.
وقد كانت الأحداث السياسية والوقائع والمناخ السياسي غير ظاهر علنا لكننا نستشعره من خلال شخوص وأبطال الرواية والإشارات الرمزية ،خراب الديار والزمن، أيام السفر، حطام النفس وتلاشيها، انكسارها وإحباطها كان خير دليل على ما يحدث في سوريا من تغيرات سياسية وعنف، واضطراب أفكار واتجاهات وانقلابات فكرية.
استطاع الكاتب حيدر حيدر، الولوج بطريقة التعبير السوداوي، إلى النفس المعذبة والسجينة، تتحسس آلامها وأحزانها، طرقها الملتوية التي سارت بها في موج مظلم وعتيق، عرض صور بائسة لمحزونين بائسين، ضحايا المجتمع، أب يطرد ابنه، أم تنتحر، وتحرق نفسها، أصدقاء ساخرين وسلبيين، صمت المظلومين والمحجوبين عن العالم، مفردات الجوع والعطش والقتل والانتحار، أورد الكاتب الفعل الجنسي والرغبات والملذات في أغلب سطور مجموعته القصصية، استعرض الأديان من خلال أسماء الأنبياء والمرسلين، استنكر وسخر من رجال الدين المنافقين، الذين اتخذوا من الدين وسيلة لأخذ أموال الزكاة لمصلحتهم ونزواتهم، وايتغلوا مناصبهم لأفعال لا تليق برجالات الدين، أشار إلى قوة المتنفذين وأصحاب السلطة ممن قتلوا واستعبدوا العباد.
استعان الكاتب بلغة شعرية جميلة وأسلوب فلسفي وجودي ، طرق فيه أسئلة عميقة عن وجوده وسبب بقاءه وخوفه.
كما استعان بحيلة التعبير المجازي كأن يروي قصة شعبية بسيطة لكن المعنى منها أعمق وأكثر دقة أصاب الهدف المراد منه ، حيث فيه إشارة لموضوع إنساني كبير وقضية وطنية أو سياسية ودينية غاية في الأهمية.