أخبار عاجلةدراسات ومقالات

صورة في حدوتة

محمد الكيلاني والصورة الأخيرة

بقلم/ حسام عبد القادر مقبل

“الحياة ذكريات جميلة وحزينة، سعيدة ومؤلمة، قد تكون مليئة بالإنجازات، أو بالإخفاقات.. وتبقى الصورة هي التي تسجل هذه الذكريات وتحتفظ لها لتصنع تاريخنا”.
محمد الكيلاني والصورة الأخيرة


تمر السنوات وأنتقل من مكان لمكان ومن بلد لبلد، أمر بخبرات عديدة وتجارب متنوعة، لكن دائما ذكراه لا تفارقني، فهو علامة فارقة لي في حياتي كلها، أؤمن أن حجم الإنسان بما يتركه من أثر في حياة الآخرين، والأستاذ محمد الكيلاني رحمه الله استطاع أن يترك في نفسي أثرا كبيرا، ليس فقط كأستاذ علمني كثيرا في مجال الصحافة، ولكن لأنه علمني كثيرا في فنون الحياة والتعامل مع البشر.
صورة اليوم كانت مع الأسف هي الصورة الأخيرة لي مع أستاذي محمد الكيلاني، واكتشفت أن ليس لدي صورا كثيرة معه ولا أعرف لماذا، وكانت المناسبة عيد ميلاده ولم يكن يهتم بأعياد الميلاد ولكننا هذه المرة اجتمعنا أنا والأصدقاء الأعزاء سلوى محمود وجيهان حسين ومحمد بدوي، وقدمنا له تورتة بسيطة ولم نكن نعلم أنه آخر عيد ميلاد له، ولكننا أضفنا سعادة إلى قلبه باحتفالنا.
ولمن لا يعرف من هو محمد الكيلاني، فهو الكاتب الصحفي الكبير مدير تحرير مجلة أكتوبر، ونقيب الصحفيين بالإسكندرية لدورتين، وأستاذ للعديد من الأجيال من الصحفيين، له مواقف جريئة جدا، وصاحب قلم شجاع أثر وغير في العديد من أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية بالإسكندرية، أما قصتي معه فلها حكاية طويلة.
والحكاية تبدأ في أواخر 1992 وأوائل 1993 عندما تولى محمد الكيلاني مسئولية إدارة مكتب مجلة أكتوبر بالإسكندرية، وقام على الفور ببث دم جديد للعمل من خلال مجموعة من الشباب حديثي التخرج الذي توسم فيهم التميز والموهبة، فأجرى مقابلات مع عشرات الشباب وأعطى لهم الفرصة ولكنه استقر في النهاية على أربعة شباب، هم إبراهيم رضوان، سامي خير الله، سلوى محمود، والعبد لله، وتشرفت أن أكون واحدا من الذين وقع عليهم الاختيار ونالوا ثقته.
استطاع محمد الكيلاني بمكتب مجلة أكتوبر بالإسكندرية أن يغير خريطة الصحافة بالإسكندرية دون مبالغة واستطاع أن ينافس بهؤلاء الشباب الصحف اليومية بل ووكالات الأنباء، فكان ينشر أخبارا في مجلة أسبوعية لم تنشر بعد في الصحف اليومية.
كان لدى محمد الكيلاني قدرة ومهارة فائقة على القيادة، كان يستطيع الجمع بين الشدة والحزم من ناحية و”الجدعنة” والتعاطف والأخوة من ناحية أخرى، واستطاع تكوين مدرسة صحفية متميزة شرفت أني كنت أحد تلاميذها.
لا أنسى أبدا كم الأخبار الذي قام محمد الكيلاني بتمزيقها لي وأنا أقدمها له، كان دائما يريد الأفضل، كنت أخرج من مكتبه وأعيد كتابة الخبر مرات حتى يوافق عليه ويوقع عليه، كان توقيعه على الخبر الذي أكتبه بمثابة شهادة تقدير لي، وبعدها يجلس معنا ويبدأ بشرح أهمية ما يقوم به وأنه يريد مصلحتنا وأن نكون صحفيين مهنيين، وصدق في كل كلمة قالها، وتدريجيا بدأنا نستوعب أن ما يفعله الكيلاني لمصلحتنا جميعا وأننا نتعلم بطريقة صحيحة.
كنت أتعجب بشدة من آرائه الجريئة التي تصدمني أحيانا، ثم يمر الوقت وأجد أن كلها آراء صحيحة، سواء كانت آراء عن شخصيات أو عن مواقف.
كانت أحيانا تتملكني وزملائي مشاعر الإحباط والسخط، عندما تأخر التعيين، عندما نرسل موضوعات لا تنشر، أو أخبارا تنشر بدون أسم، ولكنه كان دائما يبث فينا الأمل ويرفض تماما أن يتملكنا الإحباط، وكان دائما يقف معنا بالنصح والإرشاد.
وعندما تولى الأستاذ الكاتب الكبير رجب البنا رئاسة تحرير مجلة أكتوبر، جاء للإسكندرية واجتمع معنا، وبعد الاجتماع قال الأستاذ رجب للأستاذ الكيلاني، سيكون من الصعب أن أعين أربع شباب في مكتب فرعي أختار لي اثنين فقط، رد عليه الكيلاني وقال: “يا ريس صعب أختار اثنين، دعهم يعملون ومن يصبر أكثر هو الذي يستمر”، ورد عليه الأستاذ رجب أن أمامه سنة وسوف يتخذ قرار التعيين، وسيرى وقتها من الذي استمر.
لم يقل لنا هذا الحوار أبدا، وأن المطلوب للتعيين اثنين فقط، ولكنه شجعنا أكثر على العمل وعلى الاستمرار وعلى تطوير أنفسنا، حتى أن الأستاذ رجب شهد في إحدى جلسات مجالس التحرير أنه يستطيع إخراج المجلة من مكتب الإسكندرية، وكانت شهادة بمثابة وسام على صدرنا.
مرت السنة، واستمرينا جميعا نحن الأربعة في العمل بنفس الكفاءة، ورفض الكيلاني أختيار اثنين مرة أخرى، فما كان من الأستاذ رجب إلا أن أصدر قرارا بتعيينا جميعا، ومعنا زميلنا محمد بدوى المصور وكانت سابقة أن يتم تعيين خمسة مرة واحدة في مكتب الإسكندرية.
تحول مكتب أكتوبر بالإسكندرية إلى بيت الأمة كما كان يطلق عليه كثير من الصحفيين، كان دائما مليئا بالصحفيين من كل الصحف والمجلات، الكل يطلب النصيحة والمشورة، شهد هذا المكتب شهادة ميلاد لمعظم الصحفيين بالإسكندرية الذين أصبحوا جميعا الآن ملء السمع والبصر.
لم يتأخر يوما عن خدمة زملائه وكان يواجه ويدافع عنهم في كثير من المشاكل مع رؤسائهم وكان سببا في تعيين كثير منهم بفضل علاقاته الواسعة، كان أي صحفي يقع في مشكلة يتوجه على الفور إلى مكتب أكتوبر بالإسكندرية ليقابل محمد الكيلاني حتى لو لم يكن يعرفه ويخرج من عنده وقد تم حل مشكلته.
تاريخ طويل ونضال وعمل مشرف من الصعب أن ألخصه في مقال، كنت دائما أعرف أن ورائي ظهرا يحميني من أي مشكلة وعندما تنتابني الحيرة تجاه أي رأي أعرف أنه هو الذي سيعطيني الجواب الشافي والرأي السديد. رحم الله الأستاذ محمد الكيلاني المعلم والقدوة.

حسام عبد القادر مقبل –  صورة في حدوتة

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى