حيدر حيدر رحيل صاحب الوليمة (2)
مرايا النار : فضاء سادي وحساسيات متطرفة .
الحسام محي الدين – لبنان
ربما لم يكن بالامكان أكثر مما كان ليطل علينا الروائي السوري حيدر حيدر في روايته الموسومة بعنوان ” مرايا النار ” طبعة عام 2000 عن دار ورد للطباعة والنشر في دمشق ، منجزا روايته كعالم مفكك من الاحاسيس والرؤى التي تبسط السيرذاتي مما تقدم من حياته ، وتحاول قول ما لا لزوم لقوله وهي تركَبُ مركب التهويمات السوريالية كي تشي بعبثية العلاقات وضحالتها بين بني الانسان من خلال علاقة بين رجل وامرأة لا ترقى إلى قصة حب ، إنما انحراف غير مألوف ولا خُلُقي عن الفطرة السّوية للانسان العاقل كيفما كانت ثقافته وفي أي أرض حل . لكن القارىء المتمكن بالمرصاد طبعا ، إذ يلتقط وبسرعة ، التوجه الحقيقي لمعاني هذا الفضاء الروائي ومغازيه، الذي يولّد مناخا كلاميا مكثفا لا حركية روائية ، نعني استرسالات السارد العليم بالاستعارات الشعرية (لغة مكثفة ، صور ، تشبيهات … )
التي تقوم مقام نمو وإغذاء حركية الرواية ما يفتح الباب دائما على التدخل الخاص لذاتية الكاتب في مقابل توقف حركة الشخصيات الروائية وأحوالها وأسئلتها ومشاكلها ، ما يعني الدوران في بؤرة سردية لا تفضي بالاحداث إلى مصير متوقع أو غير متوقع ، بل تكرار الكليشيهات بضمائر مختلفة بين الغائب والمتكلم . في دولة عربية مغاربية تدور الحوادث بين ناجي العبدالله القادم من المشرق العربي ليحل ضيفا بواسطة صديقه حسين القصار على عبدالله التاجي الرجل المقعد المتزوج من امرأة تدعى ” دميانة ” ولهما بنت صغيرة اسمها ” بوران ” ، حيث يقع الاعجاب فورا بهذا الوافد الغريب في قلب الزوجة ، مستبيحة كل الوسائل للفوز به ، في حين يتعالى هذا العبدالله عن الأمر ، فحينا يتعفف وحينا يتفلسف وأحيانا يقدم نفسه انسانا موضوعيا يحاول معالجة تلك المعضلة النفسية لـ ” دميانة ” فيما تتخبط فيه من مشاعر الحب اتجاهه، مع تفرع السرد إلى تفاصيل ومواقف جانبية تتصل بحركة الاحداث، حيث يكتشف التاجي زوج دميانة طبيعة العلاقة الخيانية بين زوجته وضيفه الغريب ، فيحاول الانتقام بطريقة ما لكن حالته الصحية لا تسعفه حتى يقرر التخلص من الوضع الجديد بمحاولة انتحار فاشلة في الوقت الذي يبدي له العبدالله ودا ظاهريا يخفي تحته حقدا دفينا بسبب مواقفه اللاانسانية تأسيسا على ادعاءات الزوجة التي تمضي والعشيق الضيف كل في طريقه بعد علاقة حب متوترة أكثر مما هي مستقرة ومقنعة بين مد وجزر.
يبدو الروائي أنه هو السارد العليم والمشارك معا ، وقد حرص على ذلك قصدا أو عفوا في كافة أرجاء التشاكيل السردية ، كما أن الشعور بالتضاد بين العنوان والنص يتسلل إلى ذهن القارىء كلما امتدت قراءته ، فالنص لا يقدم دلالات جديدة للعنوان ، ولا الأخير يحمل لقطة فنية يترجمها السياق التصاعدي للحوادث ، ما يعني انتفاء صياغة علاقة فاعلة ، ضرورية ، مع ذلك القارىء.
من هنا ، فلا هندسة في هذا النص الروائي كما يجب ، ولا دال في تصميمه ، إنما مكابدة في التلبث على تطور في قراءتنا له بعكس الاحداث التي تتكرر ولا تتطور ، عطفا على الاستغراق في بعض التفاصيل التي يكسر الكاتب الزمن الروائي دائما للعودة إليها كالقطار العابر للغابات والسهول مثلا ، وهو ما يبعث على الضجر أحيانا في انتظار أن تسير الاحداث بسرعة نحو النهاية .
لكن الكاتب يصر على هذا النمط السردي وكأنه يريد إقناعنا بأمر ما، نجد أنه لا أهمية فيه ولا جديد مدهش بعد لأي وانتظار، عطفا على إقحام اللغة الشاعرية في النص بديلا من الاتيان بفكرة قوية ترفع الخطاب السردي إلى مستوى الاقناع والامتاع معا، وهذا ليس خطأه الوحيد؛ ففي حمأة الاخذ بأحاسيس القارىء صعودا الى ذروة المواجهة بين العبدالله ودميانة، ورط الكاتب نصه بإقحام أسماء شخصيات سياسية تاريخية هي محور خلاف عقدي بين الجمهور ، ترجمت رهاب نشأته الأخلاقية ببُعدٍ ساديّ أبدى خوفا نفسيا بخلفية دينية / مذهبية أكثر منها ثقافة واقعية تدعي التنوير أو تريده، وكان يمكن الاستغناء عنها، كأن يذم الخليفة يزيد بن معاوية أو المتوكل أو الواثق بالله متجاوزا عن كثيرين من الشخصيات المتفق على تاريخها الأسود والمرفوض وكان يمكن الاستشهاد بها عند الضرورة ، ما يحول روايته إلى رأي شخصي ببعده الضيق والخاص جدا ، لا منجزا أدبيا عاما مستساغ الرؤية والخطاب للقاصي والداني ، كما ولا حاجة للقارىء العربي له به في ظل الاوضاع المأزومة التي تعيشها الأمة من البحر الى النهر.
ولم يتأخر الروائي عن استباحة مجازات الأفكار السوية لفطرة الانسان ، عربيا كان أو غربيا ، فأدخلنا في أزمة الرؤى التي ترى إلى الثورة على السائد إنما بفهم خاطىء مقلوب حد تشييئ الانسان ، فاتحا الباب على نسف الأدب الذي هو منجز خلقي في أصل أهدافه الكبرى . ذلك أن روايته لم تقدم سببا معقولا لشيطنة ” التاجي” زوج دميانة سوى أنه ستر عليها وتزوج بها بعدما زنى بها أخوه الذي تركها إلى خارج البلاد ، عطفا على اعتبار هذا الذي فعله التاجي نذالة وحقارة وأنه رجل ” وغد ” لأنه قبل بالزواج ممن ” وطأها أخوه ” ، في تمهيد مكشوف لشرعنة خيانتها لهذا الزوج وأنه مستحق لأفعال زوجته الخيانية ، ما يعكس عبثية ممجوجة في مخاطبة القارىء والاستهتار بمبادئه الانسانية الفطرية نعني إغفال إنسانية الزوج ومعالجته المستنيرة للامور في مجتمع عربي شرقي لا حل له في هكذا أمور الا الستر وتلافي الفضيحة .
أما الاصرار على المساواة بين الضيف الوافد ” العبدالله ” ، عاشق الزوجة ، والزوج ” التاجي ” ، المطعون في شرفه ، كضحيتين متساويتين في الظروف المأسوية التي تعرضا لها كل على حدة في حياتهما السابقة فلم يكن منطقيا ؛ فالأول هو من خان الثاني وعاشر زوجته ، والثاني هو من حاول التخلص من هذا الوضع اللاأخلاقي بطريقة أو بأخرى حتى حاول الانتحار سبيلا إلى ذلك في ظل اعاقته الجسدية ، عطفا على ما أظهره الكاتب بأن للعبدالله الحق بأن يكون حكما في العلاقة المأزومة بين التاجي وزوجته وابنته ، ولا ندري من أين جاءت شرعية هذا التحكيم لرجل خان أمانة الزوج الذي أحسن وفادته وتكريمه بعدما حل ضيفا عليه .
إلى ذلك عالج الروائي بعض المواقف بتقنيات تقليدية لم يعد لها مكان في الرواية الجديدة ، أولها استحضار القدر في مجرى الاحداث ، مبتكرا القصة التي تزيد من تعاطفنا مع الزوجة الخائنة وكرهنا للزوج المسكين ، وهي محاولة قتل ابنته لسبب مجهول انتهت الرواية ولم ندركه ، وثانيها انتقاله مرارا إلى تضخيم وتعظيم المأساة لدى تلك الزوجة ” دميانة ” لتوكيد أن خيانتها هي فعل صغير ، عادي ، طبيعي ، وحل ” مقبول ” يمكن للقارىء هضمه قياسا على ” ضخامة ” تلك المأساة ، أما ثالثها الذي استغله القاصي والداني دائما في مشهدية السرد العربي اليوم ، فهو الاستثمار في الحيز العقدي للشخصيات ، إذ يقرر أن تلك المرأة هي فريسة لمجرد أنها في بلاد المسلمين ، مبتعدا من تفسير ما ستكون عليه لو كانت في غير بلادهم ، ما فضح طريقة ” السلق ” السريع لتحولات المواقف من واقع إلى آخر ، والقصورعن تطوير الشخصيات بتطور الاحداث . في مثل هذا التصور ، حاول الكاتب أيضا بسط بعض المشهديات الجنسية الغير موفقة ، إذ لا حاجة لنا بها اليوم وهي تصل حد الوقاحة في وصف لقاءات العاشق ” ناجي العبدلله ” بالمعشوقة ” دميانة ” المتزوجة في غرفتها وعلى أمتار قليلة من غرفة زوجها المقعد ، في مشهدية كان يمكن توليفها بنص أكثر ايحاء وأقل مباشرة ، مع الامعان في صفّ وتتالي الجمل الخبرية التي عمت النص ويبدو أن تقنيات الربط بينها قد أعيت الكاتب ما يفتح الباب على استشكال موهبته في السرد . مهما يكن الأمر فإن المحاولة الكتابية في هذه الرواية تحتاج حتما إلى تذوق جديد بحساسيات حيادية تسهم في إعادة إنتاج أعمال مقنعة للقارىء الذي تمرس على قراءة نصوص السرد المحكم الحبكة .