ساحة الإبداع

في ذكرى رحيل الأديب: محمد عبد الحليم عبدالله

رسالة الإعلامية حنان عبدالله

أحبك يا أبى

و أشتاق إليك كثيرا
أثق أن كلماتى ستصلك عبر العوالم البعيدة، كما أشم طيب عطرك من هناك، حكايات كثيرة لم نحكها عن الحب و العبادة والوطن؛ تمنيت أن أرى الحياة بعينيك وليس من خلال كلمات مطبوعة على أوراق كسائر البشر؛ كنت أطمح أن أرى هذه لكلمات روحا تتجسد أمامي في صوتك ولغة جسدك، نتحاور أخذا وردا موافقة و معارضة ؛ و أن ترى مني ذلك الجانب الذى كنت أتوقع أن يزعجك الجانب المشاكس المجادل العنيد، كنت أفضل أن ترحل منزعجا من عنادي واستقلال رأيي على أن ترحل خائفا هكذا على طفلة عاطفية خجول تمسك بذيل مربيتها ضعيفة البنية سريعة البكاء ولكن ربما أهداني القدر مشهدا لازمني طوال حياتي؛ هو مشهد سحابة القلق التي كانت تمر بعينيك عندما أبكي ؛ و كأنها مرٱة لخوفى فكثيرا ما بكيت خوفا من العجز أمام الكبار أو الفقد أو التأنيب إذا ما قصرت، وكنت أرى هذه السحابة تمر فى عينيك فتشتد نوبة بكائي؛ و أنت لا تدري لماذا يشتد بكاء هذه الطفلة الضعيفة جدا رغم أنك لم تفعل لها شيئا ؟
رحلت أنت و بقيت سحابة القلق ترافقنى؛ لم أكن أتصور أن عقلى سيختزلها كنغمة مواساة أزلية، وأنها أثر أبى الذى سيظهر لى عندما أحتاج إلى كتفه لأبكي عليه .
حكايات لم نحكها هى أهم من تلك التى حكيناها فالحياة ليست مجرد أناشيد المدرسة و سور قرآن ترتلها طفلة فرحة على أبيها كإنجاز عظيم؛ لقد فاتني أن أعيش تفاصيل ذلك التشابه الذى جعل من قلقك مرٱة فى عيني تزيد بكائي؛ تفاصيل تلك البصمة الوراثية التى كانت كفيلة بفك شفرة روحي و إنارة دربي، عشت اقتفى أثرك بين الأوراق لأجد إجابة و ألملم فى الكلمات؛ مستحضرة صورتك فى مخيلتي ؛ كنت نبعا سخيا نقيا ينهل منه كل من مر به قريبا كان أم غريبا؛ و كانت كفي صغيرة؛ فلم أغترف سوى أقل القليل، وذهب النبع.. و بقيت أحتاجك يا أبي و استحضر تلك السحابة كنغمة مواساتي الأزلية .
هل كانت زينب بطلة روايتك الشهيرة شجرة البلاب تشغلك ؟ هل كانت تقبع فى ركن خاص داخل عقلك كنمط للمرأة التى تحيرك؟ هل هى ضعيفة مستسلمة للحب؟ أم أنها صاحبة فكر و قضية تدافع عنها وهى الحب للحب ؟ أرى زينب تجربة أدبية طاغية كلحن ثابت ظهر بتنويعات مختلفة داخل أعمالك .
كانت نموذجا للمرأة التى تعطى بلا شروط، و لا تنتظر مقابل و أحبت رجلا شكاكا، تصور أنها سيئة كسائر النساء اللاتي عرفهن فى حياته؛ هجرها و ماتت من الهجر وعاد بعد فوات الآوان، ولم تكن زينب الوحيدة التى قتلها الهجر بين بطلات أعمالك، ولم تكن الوحيدة التى استغل عطاءها رجل تحت ذرائع مختلفة؛ لكنها أطلت برأسها فى روايتك و قصصك القصيرة عدة مرات فى أثواب عدة، مرة فلاحة أحبت قاهري وأقام لفترة فى قريتها؛ لتمنحه الحب أو يقتنصه منها، وعندما حان وقت الفراق رحل فى صباح باكر ركضت خلف القطار؛ لتسلمه لفافة ورقية فيها قميصه بعد أن غسلته له؛ وأزهار التمر حنة وأشياء للذكرى.
وأخرى قاهرية يشتد بها المرض بسبب الهجر أيضا؛ و تبقى فى انتظار الحبيب و يفتح أحدهم الباب و هى فى شبه غيبوبة لا تفكر فى شىء سوى الحبيب لتقول للحضور : ألم أقل لكم أنه سيعود .. متوهمة أنه عاد ؛ لتودع الحياة بابتسامة أمل على وجه ملاك . لتختم القصة قائلا : اقتلوني إذا بسيف الحب … وففى إحدى القصص القصيرة يستغل أحد النصابين عاهرة و يظل يستدرجها للحديث عن حياتها و ماضيها و كيف ساقتها الأقدار للسقوط فى الخطيئة و تنساق المسكينة وراءه، وتحكي وتبكي؛ لتزيح ذلك الجبل الجاثم على صدرها، حتى يحقق فى النهاية مبتغاه وتعفيه من الأجر المتفق عليه بينهما .. (يعنى حتى العاهرة لم تسلم مشاعرها من الاستغلال يا أبى؟)
كاتب رومانسي من طراز فريد أنت يا أبى؛ فلم تجعل المرأة تموت فى قصصك بجرائم شرف كالعديد من كتاب عصرك؛ و لكنك رأيت في الهجر سببا كافيا للموت .
كم هى قوية هذه المرأة التى أنجبتك و شكلت وجدانك، واتخذت قرارات مصيرية بشأنك؛ واعترفت للعالم بفخر.. أنك ورثت عنها حسها الفنى، إنها أمك .
كم هى عظيمة رغم أنها فلاحة أمية عاشت فى قرية مصرية أوئل القرن العشرين لكنها علمتك الحب، وفهمت منها معنى توأمة الروح، و مبادئ الحلال و الحرام و فنون معالمة الناس بذكاء و براعة، وأن تكون طموحا و أن تنصر المرأة دائما عندما تعيش فى المدينة فى بيت أحد أقاربك؛لأن ذلك سيجعل كل من الزوج والزوجة يحبك . وعرفت كيف تزرع فى قلبك حب الخير و حب الضعفاء، وكانت أمك الدرس الاول فى حياتك فى حب المرأة و إعلاء شأنها ؛ فصرت نعم الابن ثم نعم الأخ ثم نعم الزوج و نعم الأب. و كأن القدر جعلك حارسا و راعيا لكل هؤلاء بل ولكل النساء عبر قلمك .
لم أنس دروسك فى الحب و الدين و الإنسانية رغم بساطتها لتناسب عقل طفلة، وكلماتك الداعمة عن أهمية عقلب و ليس شعري؛ وأن على أن اهتم بعقلي فلن يصلحه الكوافير، ذلك لأن شعري لم يكن ناعما مسترسلا كشعر أختي .
.مازلت سحابة القلق فى عينيك تلازمنى و تؤنسنى أستدعيها كلما كنت فى حاجة لها .
و أرى طيفك يأتي لزيارتي يحوم حولي و يرعاني لا يبتلعه الظلام، وأشم رائحة جسدك مختلطة بعطرك المميز، كيوم ودعتنى وداعك الاخير في ليال أحس بك تقبع في ركن ما ترقبني متمهلا غير متعجل إلى أن أهدأ ويزول همي..
تختار مكانا قريبا و كأني ألمسك بعيني .
عندما يأتي الليل ينام الناس ظنا منهم أن أحبابهم فى أمان ؛ أما الأطياف فإنهم يطوفون حول أحبتهم ليتأكدوا أنهم حقا فى أمان .
هذه ليست خرافات .

أحبك يا أبى
حنان محمد عبد الحليم عبد الله

 

أوبرا مصر تنشر الملف الأدبي الخاص بالأديب القدير محمد عبد الحليم عبدالله

 

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى