عبــد الهــادي شـــلا يكتب قـــراءة في رواية “جــــابر” للكاتبة / نجـــلاء محــرم
“سلام من النيل للبوسفور” .. بهذه الكلمات الأربع إفتتحت الأديبة”نجلاء محرم” روايتها التي حملت إسم “جابر” ،ذات القطع المتوسط في 375 صفحة والتي صدرت عن دار الزهور للطباعة والنشر .
وفي الصفحة التالية مقطع من قصيدة للسلطان سليم الأول : ( سُجادة واحدة تَكفي صُوفِيـَّين إثنين.. لكن العالم كله لا يكفي مَلـِكْينْ ).
مع الكلمات الأولى للرواية تدق الكاتبة باب التاريخ بيد الواثق لتنحاز إلى صحته دون إنحياز لجانب منه، وتربط تفاصيله بوثاق لا إنفصام فيه يقنع القارئ بصدق الحدث وإن كان خيالها وراء الكثير منها بسيطرة لا مجال يسمح بانفراط الأحداث بل تلجمها بيد الفارس الذي يمتطي جوادا أصيلا بوفاء للتاريخ وأحداث أرادت أن تكو” القاهرة” و”إسطنبول” وما بينهما من بحر واسع وأراض ممتدة هي ساحة اللقاء الذي ينتهي أمام باب مفتوح على نهاية يقررها القارئ الذي أغلب ظنه أنه باب للفرح.
“جابر”..مصري بكل سماته التي وصفته بها الكاتبة وبجمال أخلاق حميدة هي سمة زمان أحداث الرواية،ووفاء نفتقده في زماننا اليوم ولكننا نعرفه فيما وصلنا وتوارثناه أبا عن جد ونسعد حين يأتي أحدنا على ذكره ويعيدنا إلى ذاك الزمن الجميل كما فعلت بنا الكاتبة وهي تتنقل بالأحداث بين” القاهرة” و”أسطنبول” وتتوقف عند أحداث بعينها إرتبطت بتراث مصر وتاريخها لتقدم تفاصيل دقيقة وتسهب في وصفها حول ما كان وراء فتح العثمانيون لمصر والحجاز والتوسع غربا حفاظا على الدين الإسلامي ودرء الخطر الغربي ” الصفويون والبرتغال” عن الأرض المقدسة في مكة وما كان يتهددها من أعداء الإسلام في وقت كان المماليك يعيثون فسادا في أرض الكنانة ويروعون أهلها ويستولون على خيرات أهلها وهم منقسمون فيما بينهم ومختلفون.
تفاصيل الوقائع التاريخية كانت تنجلي واضحة للقارئ وكأنه يشاهد شريطا مصورا فيه الصناع والحرفيين ويسمع صوت الأذان في جوامع القاهرة كما يسمعها جابر حين حـُمـِلَ إلى أسطنبول وكان يروق له أن يتمشى على شاطئ البوسفور في إنتظار الصلاة.
الروابط كانت كثيرة بين المكانين،ولعل أكثرها قوة هو الرابط الديني الذي أخذتنا الكاتبة إلى جانب هام في مقوماته ألا وهو ” التسامح” الذي جعل “جابر” وهو في غير أرضه أن يستأنس بأهل الارض الجديدة في “أسطنبول”،وهو نفس الشعور الذي إستأنس به ” أفنان المجر وقشتالة – المسيحيون” حين إلتقاهم جابر في ليلة فرح وعرف أنهم تركوا بلادهم لأنهم فيها “عبيد يعملون بأجرة طعامهم ومأواهم فقط في حماية السيد “، بينما هم في الدولة العثمانية المسلمة لهم الحماية والحقوق كاملة وعليهم الجزية.
تمر الكاتبة في هذه الجزئية السريعة على صورةالتسامح الإسلامي مع الديانات الأخرى وهي تدعم فكرة التواصل بين الأمم وأن الديانات كلها تتفق على المحبة وقيمة الإنسان.
في الرواية قصة تواصل وسبر غور للنفس الإنسانية حين تدقق الكاتبة نجلاء محرم في صفات أبطال الرواية وتدلنا على مفاتيح كل شخصية التي تيسر لنا الربط بأريحية وبلا تشنج بين كل الأبطال دون أن تنسى أن تجعل من الوقائع التاريخية وجبة دسمة تجعلنا ننحاز إلى الإنسان الذي حاول المفسدون من الحكام أن يسخروا قدراته لمنافعهم وجبروتهم.
على الجانب الأخر وعند شاطئ البوسفور يرخى الزمن أثقالا على كاهل “جابر” ويضعه في تجربة لم يسبق له أن عاشها حين جيئ به معلما في “البدستان” وليكتسب خبرات جديدة حين يصبح مقصد الباب العالي في تزيين كرسي العرش وقلبة ينبض حبا وشفقة على زوجته”زينب” وإبنه الوحيد”حسن” اللذان لم يبرحا مخيلته طوال سنين الفراق.
الكاتبة تروح وتجيئ بالقارئ بين مكانين اجتمعت فيهما كل القيم الرفيعة إلا واحدة مقيته ألا وهي الحرب التي كانت محور حديث جابر و من قابل من الأتراك وخاصة صاحبه”كنان”،وكيف أن صديقه “أصلان” الرجل المميز ومسؤول المدفعية في الجيش العثماني قد قتل في غير أرضه بعد أن كان يوصيه على صنع صندوقين من الخشب لزوجته “مهتاب” وإبنته”أيفر” اللتان بقيتا في “اسطنبول” تنتظران عودة غير معروف وقتها ،بعد أن أصبح بين “جابر” و”اصلان” مودة منذ اليوم الذي أنقذ فيه الأخير الطفل”حسن” نور عيني “جابر ” وزوجته “زينب”.
أما زينب..فقد وصفتها الكاتبة بكل ما في المرأة من حياء وطاعة وحب للزوج المخلص الذي علمها كيف تكون الحياة جميلة برفقته،وكيف يكون الوفاء في غيابه.
الصدفة وحدها هي التي جمعت “جابر” مع زوجة صديقة”أصلان” السيدة “مهتاب” وإبنتها “أيفر” ومع الأب الثاني الجار “فرحات” وزوجته “بيللور” الأم الثانية وصديقة “مهتاب” منذ الطفولة.
لحظات مؤثرة نسجها السرد حين التقى”جابر” و زوجة صديقه وإبنتها والجار وزوجته لم يكسر حدتها سوى فرحة الصغيرة بما حمله “جابر” هدية الأب المقتول على أرض مصر في حرب كان له فيها عمل هام وواجب أداه فكانت شهادته في غربة أبدية وهما صندوقين صغيرين وضع “جابر” فيهما كل خبرته في النقش والحفر والإتقان لأعز صديق عثماني أنقذ فلذة كبده ذات يوم.
الحوارات المتعددة بين أبطال الرواية كانت ترسم خطوط الفصول القادمة دون عجلة ،و كانت الفصول تتلاقى في تقارب وابتعاد دون إنفصال يشتت ذهن القارئ فبقي ملتزما الإنصات إلى ما هو أت.
الفصل الأخير من الرواية ضم حوار الغربة والشوق واللهفة والطاعة بين”جابر” العائد وبين “زينب” الصابرة على فراقه ليأخذ فلذة الكبد”حسن” للزواج من “أيفر”إبنة صديقة “أصلان” الجميلة هناك في بلاد الثلج خلف البحر الواسع.
بينما “زينب” تسلم الأمر للحبيب العائد دون صدام وإنما هو الخوف من المجهول وغربة الإبن والأب التي قد تطول وقد تكون بلا عودة!
تنزل كلمات” جابر” على قلبها بلسما حين يعدها بأن يكون الأمر لها بعد زواج “حسن” وايفر” التي أحبت نساء مصر المتعلمات واللاتي يخرجن للأسواق لشراء مستلزماتهم.
فكان هذا الحوار:
– أتيت لتأخذ”حسن” يا”جابر”.. ومن صبرني على فراق أبيه يصبرني على فراقه!
– لماذا تصعبين الأمور يا”زينب”؟
– أصعب الأمور؟! جئت لتأخذ الولد وأقول لك خذه!
– وأنتِ؟
– لن أترك بيتي وبلدي وأهلي يا”جابر”..
– البنت طيبة ومؤدبة وجميلة..
– والطيبات المؤدبات الجميلات هنا أيضا..
– بنت”أصلان” يازينب!
– الله يرحمه ويسهل لها !
– بمجرد زواج حسن سيكون لك القرار..إن قلت نعود سنعود..وإن قلت نبقى سنبقى..
ثم ينتقل الحوار إلى شجن متبادل:
– طاوعيني يا”زينب” هذه المرة..وسأطاوعك أنت و “حسن” فيما ستقرران..
رمقته بعينيها السوداوين الواسعتين
ثم يعلو صوت القلوب المتحابة التي تخشى لوعة فراق جديد:
– تغيرتي يا “زينب”..ما هكذا كانت نظرتك! ترتابين فـِيَّ وفي وعدي؟
– خذ الولد يا”جابر”..زوجه ورده إلي..
– أزوجه بدونك؟
– ما أكثر ما مر بدوني؟
– لن أخذه بدونك..
– ستتركه وتسافر أنت؟
– ولا أنا..لا شيء بدونك!
رمقته من جديد.. وطيف من نظرتها القديمة يسري في عينيها الليليتين
إعتصر قلبها صوت انغلاق الباب الخارجي..
وفي الجملة التالية شجن يمزق جدار القلب الخائف من المجهول حين قالت :
“أول مرة تخرج من البيت غصبان يا جابر” .
وكأنها تعود بالأيام إلى سنين لم تسمع منه إلا كل طيب كلام وما وجدت منه إلا صدرا واسعا وحضان دافئا،بينما جابر في طريقه إلى الدكان يسترجع كل ما دار بينهما من حديث ما خفف عنه سوى أن رأي بديع ما صنعه إبنه”حسن” مسند ” دكة المبلغ” وما بها من تعشيقات وأشكال هندسية وزخارف فارسية ورشفة من النعناع جاء بها صبيه القديم”علي”.
في خاتمة الرواية تخبرنا الكاتبة دون إسهاب بأن “زينب” في طريقها إلى “اسطنبول” وتترك للقارئ أن يرسم صورة المصاهرة العثمانية والمصرية التي صهرتهما العقيدة الواحدة في بوتقه كريمة.
لاشك أن القارئ لرواية”جابر” سيخرج بزاد معرفي في بعض محطات التاريخ الذي مازالت رائحته تعبق في أحياء مصر القديمة وجدرانها وبواباتها التي مر منها الفاتحون وعلقت عليها أعناق الظالمون من الطغاة.
ولن تغيب رائحة التاريخ عن أزقة أحياء القاهرة مادام هناك من يبحث ويجدد الصياغة بقلم رفيع وفكر عال.