يقولون أن الإنسان وهو يُحتضر، يمر شريط ذكرياته أمام عينيه، ويرى أحداث حياته المنصرمة، وهذا هو ما حدث لي في هذه الليلة، كلما أغمضت عيني رأيت صورا واضحة من حياتي السالفة، ووجوها جُلُّها لأناس رحلوا عن الدنيا، حتى إنني أسمع حوارات مرَّت عليها سنوات، وأصحابها أصبحوا عظاما ورفاتا ! والأعجب من ذلك أن القطط في الخارج لا تهدأ، وتموء مواء غريبا، حتى كلب الحراسة الذي يحرس الفيلا القريبة، هو الآخر لا يكف عن النباح، يا إلهي ! هل هناك زلزال قادم سيدمر القرية ؟!
أحاول أن أُطمئن نفسي، لكي يهدأ قلبي الذي تتزايد سرعة دقاته بطريقة مفزعة، لدرجة أنني بدأت أسمع صوتها! لكن كيف السبيل إلى الهدوء والاطمئنان وأنا لا أستطيع النوم! ذهبت إلى المطبخ، وفتحت علب الأدوية التي وصفها لي الطبيب بالأمس لعلاج نزلة البرد التي أصابتني، وبدأت أقرأ النشرة الداخلية لكل دواء رغم صعوبة الأمر بسبب صغر حجم الحروف والكلمات؛ فربما يكون أحد هذه الأدوية هو السبب فيما يحدث لي، ربما سبَّب لي هلوسة بصرية أو سمعية ، لكنني لم أجد شيئا من ذلك، فهى مجرد أدوية عادية، وسبق لي أن تداويت بها أكثر من مرَّة؛ أعدتُ العُلب إلى الرف حيث كانت، دقَّت ساعة الحائط معلنة الثانية بعد منتصف الليل، وقفت حائرا لا أدري ماذا أفعل! أخشى إذا أيقظت زوجتي، أن يصيبها الفزع خصوصا إذا أخبرتها بمخاوفي، وأطفالي قد يقومون من نومهم مفزوعين هم أيضا، دقات قلبي أصبحت أسرع من أي وقت مضى! أشعر بآلام رهيبة في صدري، وكأن أضلاعي ستنفجر، كلا لن أوقظ زوجتي ولن أزعج أطفالي، سأذهب إلى المستشفى، وهناك الطبيب النوبتجي في الطواريء سيكشف عليَّ ويخبرني بما أصابني .
ارتديت ملابسي بصعوبة شديدة، وخرجت من الشقة على أطراف أصابعي، كنت أمشي منحنيا كالشيخ المسن، ويدي على صدري من شدة الوجع! في الطريق الزراعي الضيق، كانت القطط كأنما مسَّها جن، ونباح الكلب لا يزال يتردد في الجوار، أسمع أوراق الشجر الجافة تتكسَّر تحت قدمي، الطريق طويلة، ولا توجد – في هذا الوقت المتأخر من الليل – أي وسيلة مواصلات، كان عليَّ أن أواصل السير حتى أصل إلى الطريق الرئيسي؛ حيث يمكنني أن أجد سيارة عابرة تنقلني إلى أقرب مستشفى، بعض الأشجار على جانبي الطريق تعرَّت من أوراقها رغم أننا لسنا في فصل الخريف ! مياه الترعة هبط منسوبها لدرجة أنني أرى القاع وما فيه تحت أنوار القمر، نقيق الضفادع – المنتشرة في الأراضي الخضراء الممتدة على جانبي الطريق – تتردد في أذني – الليلة – كلحنٍ جنائزيٍّ حزين !
مقابر القرية هناك على مرمى البصر، قبل الطريق الرئيسي، وفي وسطها مقبرة أهلي، سرَت في جسدي قشعريرة بسبب الصمت المخيف، ورهبة المكان، عاتبت نفسي قائلا ( ما الذي أتى بي إلى هذا المكان الموحش في ذلك الوقت ؟! ) من شدة فزعي كنت أصرف بصري بعيدا عن المقابر تجاه الطريق الرئيسي الذي أصبحت قريبا منه، لكن قوة خفية كانت تدير رأسي نحو المقابر ! توقفت فجأة عندما لمحت أنوارا تظهر ثم تختفي، كنت مرعوبا، لكن المكان الذي كانت تظهر فيه الأنوار وتختفي كان هو نفس المكان الذي فيه قبر أهلي، هل هذه أرواحهم؟! نظرت يمينا ويسارا لعلي أجد من يساعدني، فالخوف يكاد يقتلني، وفجأة سمعت صوتا حبيبا إلى قلبي، لا يمكن لأذني أبدا أن تنكره، لم يعد في القلب مكان للتردد، لا أستطيع تجاهل هذا الصوت، سأدخل بقدمي الجحيم – وليس المقابر – إذا لزم الأمر ! لم أعد أشعر بأي ألم في صدري، ذهب الوجع الذي كان سيقتلني منذ قليل ! ووجدتني أهرول وسط المقابر حتى اقتربت من الأنوار، يا إلهي ! من أنتم، أيها – اللصوص .. أيها الكلاب .. ماذا تفعلون ؟!
كانوا ثلاثة، وبين أيديهم كفن، وضعوا فيه عظاما وجماجما ! التقطت فأسا كانوا يحفرون بها، وتركوها على شفير القبر، هويتُ بها على أحدهم، لكنه نجح في تفادي الضربة، المفاجأة جعلتهم يهربون رغم أنني كنت وحدي بلا معين، وبعد أن لاذوا بالفرار، أخذت أصرخ بأعلى صوتي :
– يا كلاب .. يا لصوص! الله يلعنكم ..
القبر كان مفتوحا كبطن إنسان نزعوا منه أحشاءه ! لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأخذت أدور حول الكفن والعظام، وأنا أجهش بالبكاء، بكيت أكثر مما بكيت يوم وفاة أمي، ويوم وفاة أبي، كنت أتساءل كالمجنون:
– من هؤلاء .. وماذا يريدون .. هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة ؟!
جسدي كله كان يرتجف، اقتربت برفق من العظام، وأخذت أتحسسها بيدي المرتعشة، وأربت عليها وكأنني أربت على صدر طفلي الصغير حتى يهدأ ويطمئن، وظللت أبكي حتى بلَّلت العظامَ دموعي، همست بصوتي المبحوح :
– لا تفزعي يا أمي .. أنا هنا بجوارك، لن أتركك !