عفيف قاووق يكتب قراءة في المجموعة القصصيّة “على شرفة حيفا”
من على شرفةٍ في حيفا، يطُلّ علينا الأديب والمحامي الحيفاوي حسن عبادي بمجموعة قصصيّة تحت عنوان “على شرفة حيفا“، ويمكن إدراجها تحت خانة الأدب الشعبي كما تنتمي ربما إلى ما يعرف بأدب القصّة القصيرة جدًا. هي أشبه ما تكون بومضات تحمل في طيّاتها العبرة والحكاية الهادفة.
ضمَّن حسن عبادي مجموعته هذه بعض الأمثال والمقولات الشعبيَّة المتداولة التي تتآلف ومضمون الحكايةُ كما جعل البعض من هذه الأمثال عتبات لتلك النصوص والحكايا. نذكر بعضها على سبيل المثال: هاي أحسنلكم من حجِّة، هواة الغشيم بتقتل، من طينة بلادك حُط على خدادك ومش كل واحد لف الصواني صار حلواني…
يبدو جليًا للقارىء أن الكاتب وتأكيدا منه على ارتباط الإنسان ببلده وأرضه، نجده قد زاوج وربط بين اسم الشخص وبلده بحيث جعل من اسم البلدة بمثابة الكنيّة للشخص فنجد مثلاً؛ خضر الجليلي، هارون الصفدي، يونس العسقلاني، إم فراس الترشيحانية وغيرهم.
ولكي لا ننسى يأخذنا الكاتب إلى بعض الداخل الفلسطيني ويورد أسماء بعض القرى والبلدات الفلسطينيّة ومعالمها مثل: ترشيحا، شارع البرج بحي وادي النسناس الحيفاوي، قرية الدامون وبلدة شفا عمرو المجاورة لها، تلّ السمك، وشارع عابدين الذي أصبح يعرف بشارع (راحيل أمينو أو أمنا راحيل).
وفي حكاية “كلها طبخة عكّوب” تُسهِب الحاجّة “إم سويلم” في الحديث أمام القاضي عن قريتها “الروحة” وتستحضر أيام زمان وعيون الماء فيها مثل: عين البلد، عين الحجة، عين البلاطة وعين أبو شقير، عين أبو حلاوة، عين الفوّار، غدير الخضيرة ووادي الزيوانيّة. كما أنّ بعض النباتات الموسميّة والمزروعات في هذه القرى كانت حاضرة في ذاكرتها مثل الخبيزة، الزعتر، العلت، البطيخ، الشّمام وطبعا العكّوب التي كانت “مُجرّد طبخة” فأصبحت قضيّة تهدد الأمن الإسرائيلي.
كما يذكر الكاتب بعض القرى التي هُدّمَت ومُحيّت آثارها وأقيمت على انقاضها بلدات دخيلة ومستحدثة مثل بلدة “مسغاف “، وهي بلدة وهميّة أُقيمت على أراضي قرية ميعار المهجّرة، بعد يوم الأرض وتم بناء ثلاث مستعمرات على أراضيها هي: “سيغف”، “ياعد” و”منوف”.
في قصص هذه المجموعة وإن كانت الواحدة منها لا تتعدّى الخمس صفحات في أحسن الأحوال؛ أثار الكاتب جملة من القضايا المجتمعيّة وحتّى السياسية وإن كانت بنكهة مخففة. وسأتوقف عند بعض هذه القضايا والمدلولات التي تحتويها:
في قصة “الحب ديني” يتطرق الكاتب إلى مسألة الزواج المدني من خلال علاقة الحب التي جمعت بين منذر (المُسلم) وماريّا (المسيحيّة) اللذين منذ نشأتهما لم يفترقا سواء على مقاعد الدراسة او المشاركة في التظاهرات الطلابية والنشاطات الثقافيّة ناهيك عن العلاقة التي جمعت عائليتهما وهي علاقة حزبية. لكن والد منذر بالرغم من علمانيته التي يدّعيها لم يتقبّل ان تكون كِنَّته مسيحية ترفع صليباً في بيته. وهذا يأخذنا للاستنتاج بأنّ مهما حاول البعض التظاهر بالتحرر وبرفض التعصب والتمييزعلى أساس الدين تبقى الموروثات والتقاليد متحكمة في لاوعيه مهما حاول إخفاءها، فما كان من الحبيبين إلاّ أن انتقلا إلى قبرص ليتزوّجا بعقدٍ مدنيّ معترف به بعيدا عن الدين.
وفي سياق مختلف أشار الكاتب إلى ما قد يلجأ إليه البعض من تسفيه لأعمال الآخرين وفضح سلوكهم الشائن-بنظرهم على الأقل-دون الالتفات إلى الجانب المضيء في تصرفات هؤلاء “المدانين”، وهذا ما تظهره قصة “عبد تلتليم” الذي صودرت أرضه في إحدى قرى الجليل فجاء إلى حيفا للعمل مياومة وأدمن شرب الكحول. لكن بشهر رمضان أقام مع صديقه حسين وفرح صاحب مطعم يبيع المشروبات حفل إفطار للفقراء على مدى أيام شهر رمضان- على قاعدة خير ذا من شر ذا فإن الله قد عفا – ولكن الناس ومن ضمنهم الحاج أبو الصابر لم يرَ في عبد إلا السكرجي الحشّاش وكذا في فرح سوى بائع للخمور دون الالتفات او التنويه بما يقوم به عبد ورفاقه في مساعدة المساكين وإطعامهم، بل انهمك هذا “الحاج المؤمن” في مراقبة الغير للتصويب على سقطاتهم دون أن يلتفت لنفسه وتهذيبها. وعلى هامش هذه القصة لا بد من استحضار بعض الأبيات الشعرية من قصيدة أبي نواس الذي يقول فيها:
اِسقِنيها مِلءً وَفا لا أُريدُ المُنَصَّفا
وَضَعِ الزِقَّ جانِباً وَمَعَ الزِقِّ مُصحَفا
وَاِحسُ مِن ذا ثَلاثَةً وَاِتلُ مِن ذاكَ أَحرُفا
خَيرُ هَذا بِشَرِّ ذا فَإِذا اللَهُ قَد عَفا .
قصة ثانية يوردها الكاتب وهي “الله لا يهديكُم”، في إشارة إلى أن فعل الخير وإغاثة الملهوف ليس حكرًا على من يتظاهر بالدين أو الإيمان بل ان الإسراع في فعل الخير ومساعدة المحتاج قد نجده لدى الكثيرين ممن لا يُعرَف عنهم الإيمان او التديُن، وإنما حسّهم الإنساني هو الذي يقودهم لهذه الفضيلة، وهذا ما أظهرته الحكاية عندما احتاج حسين لمبلغ خمسة آلاف دولار لمعالجة ابنه علي، لم يستطع أن يجمع أكثر من مئتيّ دولار من مئات المصلّين في الجامع في حين تمكّن من جمع المبلغ كاملا من السكارى الذين قصدهم في الخمّارة، وتمنوا عليه أن »وحياتك إدعيلنا شويّة بلكي الله يسّر أمورنا”. لكن حسين وخوفا من أن يتحول حالهم كحال أولئك المصلّين توجه بالدعاء قائلا: “الله لا يهديكُم” رغبة منه في أن تبقى بذرة الخير مزروعة في قلوبهم. وهنا أستحضر أيضا حكاية معروفة عن خلاف الكنيسة وصاحب الخمّارة التي وصلت الى المحاكم وكانت الخلاصة التي انتهى اليها القاضي ما يلي: “لا أعرف كيف سأحكم في هذه القضية، ولكن يبدو من الأوراق أن لدينا صاحب خمارة يؤمن بقوة الصلاة والدعاء، ولدينا كنيسة بأكملها لا تؤمن به“.
الثقافة الذكورية كانت حاضرة في هذه المجموعة بحكاية خضر الجليلي الذي يبدو أنّه “ربيان عالبزّ الرفيع”، فعندما كان في التشيك للدراسة، كان يعتمد على نفسه في حياته ويقوم بكافة الأعمال المنزلية من مأكل ومشرب، وتنظيف البيت وغيرها من الأمور، لكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع كما يُقال فعندما رجع إلى موطنه استيقظ فيه المارد الذكوري وعاد لاتكاليته واعتماده على أخواته ووالدته العجوز وأيضا على زوجته في صغائر الأمور، كأن يطلب من زوجته أن تصبّ له كاسة ماء علما أنّ القنينة بجانبه. فاستحق بجدارة لقب ربيان عالبزّ الرفيع كما وصفه زميله.
ظاهرة الصالونات الأدبية التي نبتت كالفطريات والتي أفرزت ما يصح القول فيهُم أنهم شعراء وشاعرات بالإكراه، كانت حاضرة في أكثر من مكان في المجموعة، حيث يشير الكاتب إلى الدخلاء على الشأن الثقافي مستفيدين من المساحة الحرّة التي تتيحُها وسائل التواصل الاجتماعي وخاصّة الفايسبوك، ويتخذ الكاتب من ميمي نموذجا عن هؤلاء، فقد لجأت ميمي هذه إلى الصالونات الأدبية تتبختر وتتغنّج بصّف بعض الكلمات والمفارقة أن البعض وصف هذه الشويعرة بالأميرة.
النقطة الثانية التي أثارها الكاتب والتي لا تقل خطورة عن الأولى تكمُن في لجوء العديد من هؤلاء الأدعياء إلى الحصول على نقطة الدال (د.) لتزيّن أسماءهم، فأصبح الوسط الثقافي والأدبي يعجّ بمن يحمل هذه (الدال) والكثير منهم دفع ثمنها إمّا بالكاش أو بالفراش. وهذا ما تشير إليه قصة “جوز الستّ” عندما بحث راضي عن زوجتة فوجدها مع ثلاثة من أهل القلم وهم حُفاة عُراة في غرفة إحدى الحانات، وبعد أن لبس الجميع ثيابهم التقطت ميمي صورة سيلفى للجميع ونشرتها على صفحتها الفايسبوكية وأرفقتها بالخبر الذي يتحدث عن لقاء أدبيّ غنيّ ومثرٍ شارك فيه الشعراء والشاعرة ميمي برفقة زوجها.
كما يتطرق الكاتب إلى حركة الاستيطان ومصادرة الأراضي استنادا إلى ما يعرف ب “قانون أملاك الغائبين” حتّى صار الفلسطيني الملاّك “حاضرا غائبًا”، ويشيرأيضا إلى حالٍ من النفاق الذي يمارسه البعض من اليهود الذين يتظاهرون بيساريّتهم ولكن العنصريّة والكره لا يزال يعشعش في صدورهم، فهذه ليلي التي قدمت عائلتها إلى البلاد من بولندا، تتبجح بيساريّتها ونضالها اليوميّ لصالح العرب، ومشاركتها ضمن نشاط تنظيم “النساء بالأسود” لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي للضفّة وقطاع غزّة. وعندما أوصلها زميلها مجد بسيارته إلى حيث تسكن نسيَت علبة “جودايفا-شوكولاتة” على المقعد الخلفي لسيارته، وللمفارقة وجد مجد أنّ عائلتها تحتل بيت جدّه في تل المتسلّم وصار اسمها مجيدو ولا تزال زيتونات جدّه ودواليه وأشجار الصّبار قائمة.
وحين التقت ليلي بمجد صباح اليوم التالي بادرته بالصراخ “وين الجودايفا؟ شو صار فيها؟” فأجابها “إنتِ متضايقة وحزينة ع بكيت شوكولاتة، وشو أقول أنا؟! أعيدي لي بيت جدّي وخذي كلّ الجواديفا اللّي بالدنيا«..
أما المُضحك المبكي في آن ما ورد في قصة إم فراس التي رافقت صهرها كميل وصديقه حسين وعائلتيهما في رحلة إلى ألمانيا وعند عودتهم يستفسر المحقق من حسين إذا ما رافقتهم في الرحلة هذه امرأة مسنّة، فيرد بالإيجاب نعم هي إم فراس، ليستشيط المحقق غضبًا ويقول عم تتمسخّر عليّ إسمها عايدة، وهذا يظهر حجم التوغل للاحتلال وامتلاكه لأدقّ المعلومات عن الفلسطينيين لدرجة أن حسين يقول لا أعرف لها اسما آخر” كل حياتي بعرفها إم فراس”.
يشير الكاتب إلى تعلق الفلسطيني بأرضه وعدم التنازل عنها مهما كانت الإغراءات أو الحاجة، وهذا ما فعله والد سامي عندما رفض التنازل عن ملكيته لعشرين دونمًا في الرويس تمت مصادرتها في الخمسينات بموجب قانون الحاضر غائب، ورفض العرض المقدّم له باستبدالها بثلاثة دونمات (أرض عمار) ومبلغ من المال. كان ردّه جازمًا حازمًا “هذي الأرض إلها صحاب”.
ولا تقل الحاجَّة عفيفة عن أبي سامي تشبثًا بأرضها، وإيمانها بحق العوّدة إلى قريتها البروة، وعند مرضها في شيخوختها شوهد الجرَّاح يحمل مفتاحًا استأصله من معدتها وهي تمتم قائلة: “مش رايحة أوصّيكُم ” ثمَّ فارقت الحياة.
قضايا ومحاور أخرى تضمنتها هذه المجموعة لا أود التطرق إليها حتى لا أفسد على القارئ متعة القراءة والاطلاع عليها.
ختامًا مبارك للعزيز حسن عبادي هذا الإصدار وإلى المزيد من التألق والنجاح.
عفيف قاووق – لبنان