أخبار عاجلةساحة الإبداع

محمد صوالحة يكتب في القاهرة ( 2 )

النعاس يداعب جفوني، وأصوات ملائكية تخترق سمعي ” عندنا ضيف .. نعم .. عندنا ضيف من الأردن، وماله يا بنتي بكرة نشوفه ونسمعه ” أحاول النوم ، هذه الأصوات سرقته من عيوني ، من أين تأتي ؟ ولمن هي وكيف عرفت بقدومي ؟ أشعل سيجارة ما قبل النوم كعادتي ، أطفئ المصباح أغمض عيوني ، ولا أدري كم من الوقت استغرقت حتى غرقت في بحر الأحلام .
لم أكد أغفو حتى أيقظني أبو سليمان بقوله: أبو صخر ؛ الفطار جاهز .
دقائق فقط ، نهضت من السرير لأني مشتاق لمصر ، لأم الدنيا ، لا أرغب بإضاعة أي وقت فالأيام تمر سريعاً ولا بد لكل رحلة من نقطة تنتهي عندها ليعود كل شيء كما كان ، اغتسلت ، حلقت ذقني ، تعطرت ،وخرجت إليهم ، أصعق ، أي حوريات هذه التي تحيط بالمائدة ، أي ورود جلبها أبو سليمان حتى يحرض شهيتي على الطعام ، أي بشر ، من أي طين خلقت ، حاشا لله ما هؤلاء إلا ملائكة كرام ، جلست إلى المائدة ، أشعلت سيجارتي، نظر إليّ أبو سليمان قال : ما هذا يا أبا صخر ؟
– ماذا ؟
– لماذا تشعل سيجارتك قبل الإفطار ؟
– تعرف بأني في هذا الوقت أكتفي بالقهوة أو الشاي والسجاير ؟ .
– هنا ستتغير هذه العادة ، ممنوع التدخين قبل الإفطار ، مفهوم .
-حسنا ولكن المرة القادمة .
عفوا نسيت قبل أن أجلس إليهم عرفني بابنتيه وشقيقته ، سحر ابنته الكبرى والصغرى عبير، ورندا شقيقته ، قالت سحر وهي تضحك ” أنت حر تأكل ما تكلش والنبي ما أنا قايمة” طيب أنا سأتناول طعام الإفطار عندا بك ” أنظر إليهن ،آه من عيون سحر إذا ما ابتسمت تشعربها تنطق شعراً ، نظراتها تصبح غناءً ، وإذا ما أقطبت حاجبيها راحت ترمي الناظر إليها بحجارة من سجيل تجعل القريب منها كعصف مأكول .
آآآه من وجنات عبير حقيقة كالورد في أول تفتحه ، إنها تفوح عطراً ،آآآه من رندا واسم رندا وما تعنيه رندا .
تشتعل اللهفة بداخلي وتنتابني الحيرة، ترتبك الروح وتلفني الدهشة، وتحتل فكري الحيرة ويسكنني الانبهار ، ما الذي أصابني وأنا أدخل بيت محمد سليمان؛ الواقع في أحد أحياء القاهرة القديمة ، ظلم أن تكون سكنى هذه الملائكة غيرالجنة، أو مكان لا يصل إليهن فيه إلا من يمتلك كل مقومات الإنسانية والطهارة ، لم كل هذا الارتعاش الذي أصابني وأنا أنظر في عيون سحر، وأتأمل ابتسامة عبير؟إلى أين يأخذني غنج رندا وأنا أتطلع لجسدها الممشوق كعود خيزران ؟ هذه الملائكة التي ترتدي زياً بشرياً يسرق الناظر إليه إلى عوالم من الدهشة والانبهار، وكأنهن الربيع في أوج تفتحه، أو الحوريات اللاتي هبطن من جنان الله إلى هذا البيت الذي يحتضنني؛ ليخطفنني لعالم الخيال والأحلام،كيف سأكلمهن، وبأي المشاعر أتعامل معهن؟ هل لبدويتي وتربية أمي أن تنتصرعلى شيطاني، أم ستكون له الكلمة الفصل؟ هل سأتبع وسوسة هذا الملعون الذي يحتلني ،أم سأكون على قدر الكرم الذي عوملت به وأكون أكثر وفاءً؟
شيء يهمس بداخلي إنها مشاعر الوهلة الأولى والنظرة الأولى، بعد قليل سيكون كل شيء طبيعي وستضحك كثيراً من هذه الحماقات.
أتمنى .
أينك أيها الملعون ؟ لم لم تكن شاعراً لأكتب بهذا الجمال الإلهي قصائدي ، وماذا سيقول الشعر في حضرتهن ؟ هل ستصمد الكلمة أمام روعتهن؟ .
ألوذ بالسكون والسكوت ، والمشاعر تذيبني ، ألوذ ببهاء الصمت وأنا أنظر إلى أم سليمان، أحاول الفرار من المكان كلما كلمني أبو سليمان .
عيوني تقودني إلى تلك الكروم التي بدت ناضجة في صدري سحر الرائعة ورندا الفاتنة، وبدأت بالتفتح عند عبير ، هذه القطوف الدانية في كروم رندا وسحر بدأت تأتي أوكلها ،آآآه من سيكون صاحبها ، آه لو أني لم أملك بستاناً من الشوك ، بالتأكيد لكنت صاحب إحدى هذه الكروم ، يجب أن أغادر هذا البيت بأسرع وقت ممكن؛ لأنني لا أستطيع احتمال هذا الجمال الإلهي الظالم ، وهذا الغنج الشهي .
يقطع فيض خواطري وهطول أمطار الخيال أبو سليمان ، إلى أين تود الذهاب ، أرغب بالتعرف على هذه المنطقة أولاً ومنها ننطلق، نحن الآن في واحد من أقدم أحياء القاهرة القديمة ، نحن في السيدة زينب رضي الله عنها، أتلفت يمنة ويسرة ، المكان مكتظ بالبشر ، النسوة يذرعن الطريق جيئة وذهاباً، هنا الحرائر الفرعونيات أو المصريات العربيات يجلسن في الشارع، كل واحدة تعرض نوعاً من البضاعة التي كانت في أغلبها من الخضار والحشائش ، والغاديات والعائدات لا ينقطعن ، العطر يفوح من كل مكان ، يتمايلن كغزلان تمشي على مهل ، الشالات تغطي نصف الرأس ، أنواع وموديلات من الألبسة ، تشعر وأنت تسير في الشارع بأنك تسير في معرض كبير فيه كل ما يخطر بالبال .
آه من دلع الحوريات وغنج الصبايا ،آآه من سحر النساء وفيض الأنوثة و الدلال ، هكذا هن فتيات مصر الرائعات يجدن اللعب على تلك الحبال ، وكأنهن خلقن ليكن بداية الطريق نحو الخلود، إما في جنة عرضها السماوات والأرض أو في جحيم لا تبقي ولا تذر، يخفق القلب بسرعة ، العيون لا تكاد تستقر على جهة معينة ، فالروائح المغرية تفوح من كل الجهات ، بالتأكيد أنا لست على الأرض، آه من تعب الذاكرة ، ما هو مقدار احتمالها لتخزن كل ما ترى ، وإن خزنته هل أستطيع إخراجه .
زقاق آخر في حي السيدة زينب ، زقاق تجاري ، النسوة يجلسن على الأرض يجبرنك على التعامل معهن ويجبرنك على الشراء إذا ما توقفت عند إحداهن ، هذه تبيع الخضار، وتلك تنادي على ما تملكه من أعشاب ، وأخرى تقف خلف بسطة تبيع بها الكبدة والكشري ، هناك يقف بائع الفول ، إنه التعدد الحقيقي ، كل منهم يعرف حدوده ، هنا من حق المرأة أن تطالب بالمساواة ، فهي شريكة الرجل في كل شيء ، في العمل وبناء الأسرة حتى المهر والمصروف اليومي ، وفوق كل ذلك تجد معظمهن من المثقفات؛ نعم، فلهن أن يسترددن حقهن من الحياة ، لأنها الشريكة فيها ومكملة دورتها .

ساحة الإبداع – أوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى