صبري زمزم يكتب ممتع وإن كان مكسورا
«اللحن المكسور» عزف أدبي للأديب نشأت المصري
أولى عتبات الرواية هي ذلك العنوان (اللحن المكسور) الذي يفجر تساؤلات لدى القارئ تدفعه في شغف لأن يستكشف مدلول هذا العنوان من خلال الإسراع بقراءة أحداث الرواية محاولا ربط أحداثها ووقائعها ومعانيها ودلالاتها المباشرة والإيحائية غير المباشرة لهذا العنوان المثير والحزين في الوقت نفسه، فالعنوان يتكون من كلمتين الأولى (اللحن) وهي كلمة توحي لدى القارئ بالبهجة والسعادة المستمدة من الموسيقى المنظمة،المقصودة والمتعمدة والمؤلفة بعناية من موسيقار والتي عزفت من آلات من خلال عازفين ليستقبلها مستمعون في كثير من الاستمتاع والبهجه التي يضيفها اللحن فينشر السعادة بين جوانحهم من خلاله آذانهم اللاقطة للحن، المتفاعلة معه وجدانيا ليعيشوا في حالة طرب.
كل هذا من تداعيات متصورة ومعان متخيلة من خلال كلمة (اللحن) ثم تأتي الكلمة الثانية، وهي الجزء الثاني من العنوان وهي (المكسور) لتهدم كل هذه التصورات والانطباعات من أساسها، لتعيد القارئ إلى حالة سلبية خالية من الطرب والبهجة والسعادة، ليحل محلها القلق والتوتر والترقب، وذلك لدلالة كلمة مكسور، فدلالتها تقف أمامها تساؤلات، فهل هو لحن نشاز وهل الكسر متعمد؟ أم أنه خارج عن إرادة الملحن؟ وهل هو مشكلة الملحن أم أن الكسر نتيجة خطأ من العازفين وما دلالة هذا الكسر وهذا الخلل في الموسيقى؟ ثم ما أثره على أحداث الرواية ومن ثم على القارئ المتوجس خيفة من البداية، يترقب أن تقع عينه على موضع الخلل والكسرة.
الإهداء
ثم يقلب القارئ صفحة العنوان محملا بكل هذه التساؤلات التي تجعل القارئ متعجلا في محاولة لاستكشاف سر هذا اللحن وما فيه من كسر. ليجد صفحة الإهداء، حيث أهدى الكاتب الرواية إلى أمه وزوجته وهذا في حد ذاته شيء طبيعي تقليدي، ولكن غير التقليدي يأتي في آخر السطور الإهداء، حيث يهديها أخيرا إلى بطلة الرواية دلال هاشم بما يوحي للوهلة الأولى أننا أمام رواية لقصة حقيقية بطلتها من لحم ودم وليست من حروف وكلمات وهي في الوقت نفسه عزيزة على المؤلف وإلا فلماذا يهدي إليها هذه الرواية؟
ويفاجأ القارئ بصدمة في أولى صفحات الرواية وقد هيأ نفسه وشمر عن ساعديه ليخوض غمار هذا اللحن ويستشرف مفرداته ونغماته ليفاجأ في أولى صفحات الرواية بانكسار اللحن قبل أن يبدأ، فبطلة الرواية في أول سطورها تسقط ويشج رأسها وتصرخ وتتألم تستغيث تتوسل لجيرانها أن يخلصوها من آلام بطنها التي وصفها كضربات السكاكين التي تمزق أحشاءها ثم سرعان ما تموت بعد أن حضر الغائبون عنها الذين تركوها وحدها ابنها وزوجها وخادمتها وانتهى التحقيق إلى أنها انتحرت رغم أنها كانت في كامل زينتها وأوجها، وكانت تتأهب لتحيي حفلا تعزف فيه روائعها أو تعزف ذلك اللحن الذي انكسر قبل أن يبدأ ولكن المؤلف زرع شكوكا داخل نفس القارئ حول حقيقة الانتحار حيث أشار إلى حادث سرقة الذهب الذي تزامن مع مقتلها، فضلا عن غياء الغياب غير المبرر سواء للزوج عمر أو الابن فادي أو الخادمة الشقراء هدى مما وجه أصابع الاتهام للجميع.
ثم تفتح الستار عن قصة تلك القتيلة دلال هاشم لتكون القصة كلها منذ الفصل الثاني حتى النهايه فلاش باك يستعرض قصة حياتها الغامضة منذ طفولتها المبكرة لافتا إلى أبرز ما فيها وهو إصابتها بالتواء خلقي في قدمها اليسرى ولكن بالرغم من ذلك لا تهتم ولا تؤثر في حياتها، ولكن مع السطور الأولى يبدأ اللحن، ذلك اللحن الصامت الذي كانت تعزفه دلال وهي في مهدها بتحريك أصابعها في الهواء وذراعيها وهي ما زالت طفلة في مهدها لتنشأ وقد صار بينها وبين الموسيقى أواصر محبة منذ مرحلة المدرسة كعازفة ومغنية في الحفلات المدرسية وقد نحت عاهتها جانبا كأن لم تكن بالرغم من عرجها في مشيتها وكأن الموسيقى كانت العوض عن هذا الخلل وهذه العاهة.
الموسيقى بطلا
المؤلف الأستاذ نشات المصري جعل من الموسيقى بطلا من أبطال الرواية ليس فقط في العنوان بل في الأحداث فتكاد لا تخلو صفحة من صفحات الرواية من موسيقى أو لحن أو عزف أو حفل او اله موسيقيه او نغمة ما وذلك مع من خلال ولع دلال بالموسيقى والتي أصرت على دخول معهد الموسيقى لتتفوق وتصبح معيدة فيه أولا ثم أستاذة ودكتورة فيما بعد وتمتزج بالموسيقى بشكل لافت حتى إنها تتنفس الموسيقى شهيقا وزفيرا، بل وتتحول كل الأشياء حتى المرئية منها إلى موسيقى تسمعها بأذنيها وتشعر بها في وجدانها حتى الماكينات في المصانع تحولت أصواتها في وجدانها إلى لحن موسيقي واللوحات الفنية المرسومة حولت خطوطها وألوانها المتداخلة المتشابكة إلى نغمات موسيقية جميلة رنت في وجدانها وعبرت عنها بعزفها،
حتى في ليلة زفافها لم تنس آلة الكمان فقد عزفت عليها لحنا لعريسها عمر الذي لم يكن شغوفا بالموسيقى فلم يبد طربه بلحنها الذي تساوى عنده مع كل الألحان فأصابها بشيء من الإحباط وكانت قد تزوجته استجابه لصوت العقل والحكمة بعد أن فشل قلبها في إنجاح قصه حبها لباهر زميل الدراسة شريك حب الموسيقى الذي رفضه أبوها لسوء سلوكه وعدم إكماله دراسته، ولشكه في مصدر ثروه والده الموظف الكبير بالجمارك.
وتقفز الأحداث 15 عاما يحصل فيها الزوجان على الدكتوراه كلهم في مجاله ويرزقان بمولود خلالها اسمه فادي ولكنه مريض بالفصام وزاد مرضه بسبب إهمال أمه له وانشغالها الدائم عنه بالعمل والموسيقى والحفلات رغم إلحاحه عليها وأشعاره بحاجته الملحه إليها ولكنها تزيح عبأه الى الخادمه هدى التي تنفق كل أجرها على علاج ابنتها المريضة بالقلب.
ومع جريان الأحداث يحرص المؤلف على زياده شخصيات الرواية رويدا رويدا فيظهر في حياة دلال نزار ذلك الطبيب المولع بالموسيقى والفن والأدب والذي يجذبها إليه في منتدياته وتميل إليه بسبب ولعه بموسيقاها على عكس زوجها، فيصبح ضيفا دائما على كل حفلاتها في الصف الأول مشجعا ومعجبا ثم رفيقا ثم حبيبا دون أن تتورط معه أكثر من ذلك برغم غياب زوجها عمر في العمل بالخارج سنوات ويتصاعد الخط الدرامي بين دلال ونزار رويدا رويدا لينتقل من النقيض إلى النقيض تماما، خصوصا بعد زواجه الثاني من سوزان وبطريق المصادفة تكتشف دلال سرا خطيرا وهو أنه طبيب مزيف حيث إنه لم يحصل على المؤهل الذي يدعي أنه حصل عليه، وتكتشف أنه زور شهادته ليخدع وزارة الصحة ويعمل طبيبا ويفتح عيادته للكشف عن المرضى، وهنا تتفجر العلاقة بينهما، وتوضع على صفيح ساخن وينقلب الحب الذي كان بينهما إلى قلق وتوتر وخوف ثم كراهية ويتوجس كل منهما باتجاه الآخر فهو يخاف أن تكشفه وتفضحه أمام مرضاه فيتعرض للسجن وتنهار حياته وسمعته، وهي تخشى على حياتها وحياة أسرتها وسمعتها الفنية، وهنا تصبح الأحداث على صفيح ساخن.
ويتصاعد خط آخر وهو خط ابنها فادي المريض النفسي الذي يتعاطى المخدرات ويعاني من هلاوس تصور له علاقه محرمه تربط بين أمه ونزار، وتتصاعد كراهيته لها وتفكيره في قتلها.
أما الخط البارد فكان خط زوجها عمر الذي كان يثق فيها كثيرا زياده عن اللازم ولا يقلق من اقتراب نزار منها بصفته صديق الأسرة وطبيبها وعدم غيرته التي لم التي كانت مثار تساؤل من القارئ حتى عندما يوعز له ابنه بخيانتها، يكتفي بمعاملتها بجفاء ويعطيها ظهره ويحسن الظن بها ويعزي ذلك إلى هلاوس ابنه المريض نفسيا، في الوقت نفسه يقف في جانبها في مواجهة الخطر القادم من الطبيب المزيف وزوجته التي اتصلت بعمر، واتهمت زوجته بتعدد علاقاتها مع زوجها ومع آخرين.
وتتصاعد الأحداث ويتصاعد القلق، ويتزايد الخوف بين الطرفين دلال ونزار إلى أن يقرر اغتيالها، وكذلك على جانب آخر ابنها فادي يقرر قتلها وفي المحاولة الأولى تنجو من رصاصة غادرة اصطدمت بكمانها التي افتدت صاحبتها لتتلقى عنها الرصاصة وتنقذها دون أن يتبين لنا من الذي أطلق الرصاصة هل هو نزار أم هو ابنها فادي، ليبرز معنى من معاني الكسر في اللحن في الجانب الرمزي بتلف الكمان التي كانت تعزف عليها البطلة ألحانها وذلك بسبب إصابتها برصاصة افسدت أوتارها وعطلتها عن العمل والعزف، ثم في النهاية الكسر الكبير للحن بمقتل صاحبة اللحن الرئيسي في المحاولة الثانية لاغتيالها، عندما ينجح نزار في رشوة الخادمة هدى لتضع السم في كوب الكوكتيل الذي تشربه دلال دون أن تترك بصمة على أي شيء، لتموت دلال بالسم وتقيد الجريمه انتحارا كما جاء في الصفحة الأولى من الرواية، في الوقت الذي كانت دلال قد بلغت الجهات المسئولة عن زيف نزار فتغرق عيادته بالشمع الأحمر ويقدم للمحاكمة لينال جزاءه على تزويره لشهادته والعمل طبيبا بدون وجه حق.
لغة الرواية
لغه الرواية تتناسب مع اللحن دون كسر فكانت لغة موسيقية في بعضها شاعرة ناعمة في وصفها منتظمة في إيقاعها معبرة في صورها ورمزيتها، مع صحة اللغة وتميزها بالإيجاز والإيحاء وكانت لغه الحوار تتميز بالأداء اللغوي الفصيح وليس باللغة العامية وهذا شيء يضيف للرواية جمالا في الأداء اللغوي فضلا عن أن جمل الحوار رغم كثرتها إلا أنها في مجملها كانت قصيرة ومركزة لتخدم الأحداث وتضيف للسرد حيوية وديناميكية بين الأبطال بما يناسب المواقف المختلفة.
المكان
تعددت الأماكن في القصة ما بين القاهرة وفينيسيا بإيطاليا والعين السخنة كمدن وبين المسرح ومستشفى الأمراض العقلية وبيت دلال والشارع كأماكن.
الشخصيات
تنوعت الشخصيات في الرواية بين شخصيات أساسية وشخصيات ثانوية فكانت الشخصيات الأساسية هي دلال وزوجها عمر وابنها فادي وزميلها وحبيبها القديم باهر، ثم نزار الذي استمر معها حتى نهايه القصة، أما الشخصيات الثانوية فكانت كثيرة ومتعددة الأدوار منها الأب والأم والأخت ومنها مرضى الأمراض العقلية الذين ذهبت لتعزف لهم في المصحة لتعالجهم بالموسيقى، ومن هذه الشخصيات أيضا زوجتا نزار الأولى والثانية ومنهم ذلك الرجل الذي كان يعزف الترمبيت في الشارع وكانت تستوحي من أنغامه العشوائية بعض الألحان والمعزوفات التي كانت تؤديها على المسرح فتعجب بها الجماهير، خصوصا تلك الألحان المصريه القديمة المتمثلة في ألحان سيد درويش و هذه الشخصية كان لها حضور مؤثر بالرغم من أنه كان دورا خفيفا لم يأخذ مساحة كبيرة من الرواية.