Uncategorizedساحة الإبداع

عبد الغفور مغوار يكتب رحيل بلا وداع

بين جدران باردة، يجلس رجل عجوز في غرفة باهتة الإضاءة، لا يمسها ولا شعاع واحد للشمس. يرتشف قهوته بيد مرتجفة، بينما بالكاد يسمع زقزقة العصافير في الفناء المقابل. يحاول جاهداً استحضار ابتسامة من الماضي أو شعورا بالبهجة، لكنه عبثاً يفعل، فقد تغير الزمن، وأصبحت حواسه تعاني من جروح عميقة تجعله يشعر وكأنه شجرة مقتلعة من جذورها. يظل بصره يتجول بين جهات الغرفة بشكل هستيري بحثًا عن سبب عابر، مدفوعًا بأبخرة خانقة تُعيد إحياء أحزانه العتيقة، كدقات الساعة القديمة التي تُعلن عن الساعة الحادية عشرة صباحًا. تبدو الجدران العارية كقبر، بينما تصدر الأبواب الخشبية البالية، دون أقفال أو مقابض، صوتًا يناغم صرير طقم أسنانه. يجلس وحيدًا على كرسيه القديم، محاولًا معرفة ما إذا كان هناك أحد في الغرفة المجاورة ليذكره بالوقت أو اليوم أو الشهر أو السنة، لكن لا صوت يصل إلى أذنيه. ترى هل لا يزال سمعه يعمل أم لا؟ يسعل ويسعل وينادي بشكل عشوائي أسماء عدة، ولا من يرد عليه.
تستمر الأبواب في الصرير، والعصافير في الزقزقة، بينما تصبح الغرفة أكثر برودة. وفجأة، تظهر يد مرتجفة تُصافح يد العجوز المرتعشة، بينما تحمل اليد الأخرى بشكل خائر عكازا. ثم بصوت هادئ، تهمس السيدة العجوز بصعوبة في أذن ذاك الشيخ القابع على كرسيه وسط الغرفة: “هذا حساؤك، وأدويتك على طاولة غرفة الطعام، حان وقت النوم، لقد تأخر الوقت يا أبي الحبيب”!
– “حسنًا يا جدتي!” يرد العجوز بطاعة طفولية كأنما يتحدث إلى نفسه، لكنه لا يغادر كرسيه، فيما تجلس هي أيضًا على كرسي بجانبه، وتبدأ في استكشاف ذاكرتها على أمل استعادة بعض التفاصيل أو ما يدل عن ماضيها وشبابها.
لا تزال العصافير تغرد، والأبواب تصدر صريرها، لكن بالنسبة للزوجين العجوزين، فإن الغرفة تظل هادئة كمقبرة للأشباح. لا يعرفان بالضبط ما إذا كان الوقت نهارًا أم ليلًا، ما إذا كانا لا يزالان هناك معًا، يصارعان للبقاء دون وعي.
تتذكر هي فجأة أن زوجها كان طيبًا لكنه كان غيورًا. فتغادر كرسيها بتمايل حذر لإغلاق الستائر: “لو كان هنا، لكان قد غضب من ترك الستارة مفتوحة”. قالت مهمهمة.
يتذكر هو أيضًا أن زوجته كانت رائعة، ويقول بحزن: “يا إلهي، لقد استحقت زوجتي حياة أفضل!” ثم يشرع في البكاء. وتنخرط هي الأخرى في البكاء. يظلان يبكيان معًا دون أن يدركا أنهما موجودان معًا، يصارعان من أجل البقاء لفترة أطول، دون أن يجدا أي معنى لحياتهما.
بسبب سوء حظهما، ما من أحد معهما ليخبرهما أنه حان وقت النوم أو وقت تناول العشاء. تصبح الغرفة مظلمة. يسود الصمت. تصدر الأبواب صريرًا غبيًا. تغرد العصافير أيضًا بشكل رتيب. ترن الهواتف المحمولة في الفراغ بينما الروحان تغرقان في اللامبالاة. في هذا اليوم، وبفضل الرحمة الإلهية، ينتهي كل شيء.
فقط في هذا اليوم، يحل الأبناء والأحفاد مجتمعين، يحيطون بالزوجين العجوزين الراقدين رقاد الخلود، وقبل تشييعهما، يتحدثون تارة ويتشاجرون تارة أخرى حول الكنز الذي تركاه لهم هذان الشيخان الخرفان.
فاس، في: 14 أكتوبر 2020

عبد الغفور مغوار – المغرب

ساحة الإبداع – أوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى