سليم النّجّار يكتب تستيقظ الذّكريات في “1970” لـ صنع الله إبراهيم
أوّل ما يفاجأ به القارئ لرواية “١٩٧٠” للروائي صنع الله إبراهيم أنّه ليس بإزاء قصّة ممتدّة بأشخاصها وأحداثها وفضائها من الصّفحة الأولى إلى الأخيرة وفق منطق داخلي لبنائها.
وجدتني وأنا أنتهي من قراءة رواية “١٩٧٠” الصادرة عن دار الثقافة الجديدة- ٢٠١٩ وانا اتسأل بوعي ما الذي يجعلنا نصدِّق “الحكاية”؟ أو نتسمك بمبالغتها الحلوة، وننكر أنّ كلّ ما قرأناه أو سمعناها شفوياً من بيئتنا التي نحيا فيها، استخفافاً بعقولنا” القلقة”! أو كقرّاء نطرح أسئلة بسيطة عن موقف الكاتب الأيديولوجي؟ ما مدَى تعبيره عن الواقع؟ وما شابه هذا من القضايا المثارة في حياتنا الاجتماعية السياسية في عالمنا العربي.
لا يمكن قراءة رواية “١٩٧٠” دون الإشارة إلى تشابك الرّاوي مع الأحداث المطروقة في الرواية. ضمن توليف لا يؤكِّد التماثل بين الرِّواية والواقع كما نجده مع سوسيولوجيا المضمون، وتقاطعه في/ مع الاجتماعي وفق علاقة مركّبة ومعقّدة ما نزال نطرح على أنفسنا بصددها سؤال “الهل” مفتاح قدر للحال الذي وصلنا إليه في عالمنا العربي.
استطاع الرّوائي صنع الله إبراهيم في روايته “١٩٧٠” أنْ يصنع فيلماً روائياً داخل نصّه، يحرّك المشاعر بطرق مذهلة ومثيرة للغضب، وتتملّكه رغبة دائمة في محاولة إثارة السّؤال من مصادر غير متوقَّعة، إنّ ما يزيد هذا السؤال تعقيداً، هو كون الفيلم “مفقود” لدى الذّاكرة العربية، وأصبح من الماضي المختبئ في غياهب النّسيان، وأجمل ما صنعه صنع الله إبراهيم اعتماده على الميلودراما السّياسية، سجّل من خلالها فيلماً مثيراً جداً له أسلوب سينمائي حقيقي:
(٤ أبريل
معركة جوّية وسط الدلتا تشترك فيها ٣٠ طائرة مصرية وإسرائيلية مقتل “فيصل الشعبي” رئيس الوزراء السّابق في اليمن الجنوبية أثناء محاولة الفرار من معتقله.
٥ أبريل
لأوّل مرّة في مصر تلفزيون ٢٠ بوصة (تليمصر) ب ١٢٥ جنيه للجهاز ص٨١).
كما يعدّ سيناريو صنع الله الذي قام بكتابته نموذجاً خاصاً من نوعه. إذ يبحث ويتحوّل هذا البحث إلى سرد روائي ينساب بلا توقّف من خلال سلسلة من المشاهد التي تجمع الماضي بالحاضر، (في محلّات “النصر”.
فرصة لا تعوّض
بيجامة رجالي تريكولين ١٦٠ قرش، بيجامة أولاد تريكولين ٧٥ قرش،
جاكيت رجالي كردونية ١٦٠ قرش
عمارة ب ١٦٠٠٠ جنيه إيراد ١١٠٠ جنيه
الذّكرى الأولى لفقيد الشباب
الملازم أوّل “هشام سلامة”
الذكرى السنوية الثالثة
للشهيد النقيب “محمود عبد الرحمن الخضراوي”) ص١٢٧.
تُعدّ رواية “١٩٧٠” فكرتها الرئيسة اليقظة السّياسية، من خلال رصد تفاصيل حياة الإنسان العربيّ، التي هي عبارة عن وشوشات معظمها تصدر أصواتها مكتومة.
استطاع الروائي صنع الله بناء معطيات اللحظة الفارقة في المشهد السّياسيّ الذي تناوله في العام ١٩٧٠، موظِّفاً تقنيات صحفية، في سرده، ملتقطاً تفاصيل التفاصيل للأحداث برؤية إبداعية لا تحاكي التاريخ حرفياً ولكن توازنه رمزياً. ورغم أنّه نقل الأحداث واقعياً وفي ذات الوقت قدّم صورة متخيَّلة، وإنْ بدت واقعياً على صعيد الإخبار، لكن في المضمون كان الإيهام هو ما أراد له الروائيّ بمعنى مشاكلة الواقع التاريخي. أعني المعنى الذي يقنع القارئ بأنّ هذا الذي يقرأه حدث وإنْ لم يكن المتلقّي غير مقتنع بذلك.
وفي داخل هذه الدّائرة من الإيهام بإمكانية الحدوث، تجّلت ظاهرتان منفصلتان، لا يمكن المطابقة بينهما. الخبر الصحفيّ والمانشيت، ومهما يكن شكل العلاقة ببنهما، تبقي التّقنيات الصّحفية عنصرا ًمسيطراً، (شركة “بيع المصنوعات المصرية” وفروعها بالقاهرة والأقاليم تقدم تشكيلات فوق العادة من الملابس والراديوهات والتليفزيونات والثّلاجات:
ولّاعات “ديبون”
بالأسواق الحرّة للمصريين والدّبلوماسيين والأجانب) ص١٧٣.
إنّ مآل المواجهة بين العنوان والخبر المباشر الذي جاء على شكل إعلان، ومن الملاحظ أنّ فاعلية التضادّ بينهما، على درجة تلبية رغبات المجتمع، أو تذريره (أي تحويل النّاس فيه إلى ذرات منفصلة)، فعلى هذا كلّ شكل من أشكال المعارضة المنظّمة تختفي قبل أن تبلغ المعارضة أهدافها، (شطب الماركسية والفلسفات المعاصرة من الكتب المدرسية المصرية)
كاريكاتير “صلاح جاهين”: الطالب اللي عاوز يفهم الماركسية يبقى يروح الجامعة الأمريكية.. بيدَّرسوها هناك.
جريدة “الأهرام”: ما زالت بعض قوى القومية العربية تنسى إسرائيل وتغرِق نفسها في حرب مقدّسة ضدّ الشّيوعية) ص١٤.
هذه الصورة السّردية الدّرامية بامتياز والتي قدّمها الرّوائي إبراهيم صنع الله، قدّمت صورة السّيطرة الشمولية المؤسسة على المراوغة وطرح الفكرة ونقيضها، والهدف خلق مناطق ضبابية للوعي الجماعي لأكبر قطاع من الجمهور، وأظنّ أنّ الروائي قد نجح بالمزاوجة أو بإعادة عقده للكشف عن هذه الممارسة الاجتماعية السياسية.
ومن الأمور التي استرعت انتباهي وانشغلت بها الرّواية، عدم كبتِ المعرفة بنوعيها: العلمي والسياسي بصيغتين: الأولى كتابة كلّ ما كان غير معلوم لدى القطاع الواسع من القرّاء، (هذا هو اليوم من مايو ١٩٦٧ الذي ارتكبتَ فيه أوّل خطأ في حسابتك عندما طلبت سحب قوّات الطّوارئ الدّولية من مواقعها على الحدود في سيناء وفي شرم الشّيخ ومضيق تيران، واستعادت حقّ السّيادة على خليج العقبة الذي فقدته مصر في عدوان ٥٦).
والثانية نعرفها في عالمنا يربط بالذنب حتّى يكاد يكون مطابقاً لها، (وكنت قد تبينت أيضا هشاشة “هيئة التحرير” التي تغلب عليها الانتهازيون والمنافقون وممثلو الإقطاعيين وكبار الملّاك، فقمت بحلّها وإنشاء “الاتّحاد القومي” لكي يقيم المجتمع “الدّيمقراطي التّعاوني” الذي تخليّته. وسرعان ما تجلّى لك مع تطوّر وعيك، هلامية أطروحتك وتكرار نفس العيوب في التّنظيم الجديد) ص٩٤.
يمكن القول إنّ المكان الروائي هو إحدى وسائل التّعبير السّردي والأكثر طواعية لأدوات تقنيّات السّرد الرّوائي. كما اعتمد الرّوائي على تقنية السرد “المسترسل” لبناء نصّه المكاني، معتمدًا على “كوميديا” كان لها القدرة على استعادة أقنعة الواقع، (وكانت هناك رسالة أخطر من الثلاثي السوفييتي يعارضون تنحيك، ويؤكِّدون استعدادهم لحلّ جميع المشاكل الاقتصادية والعسكرية) ص١٤٥.
والمكان المعني به، هو المكان السّياسي الذي يمثل القناع المثير للحيوية والإثارة والدّينامية على الحدث. وهناك قناع آخر وظّفه الرّوائي. المخادع والمراوغ، الماكر وفي حالات أخرى الفضولي. وكان لكلّ قناع في رواية “١٩٧٠” شكل مميّز، فلكلّ شخصية في الرّواية قناعها الخاصّ بها، (محنة أخرى تعرضت لها منذ سنين.. فلأوّل مرّة منذ سنة ٥٤ تقوم مظاهرات ضدك في أعقاب محاكمة قادة الطيران عن مسؤوليتهم في الهزيمة. كان الناس يتوقّعون إعدامات فإذا بهم يفاجئوا بأحكام هزيلة) ص٧٧.
تلقّي القارئ النصّ ارتباطه بالهزلي المرير والكوميدي بوجه عام الأرنجال كمبدأ وكتقنية عملا على ترسيخ المردود السلبي للأرنجال، (عادت الأسرة كلّها إلى القاهرة في المساء بدونك، واحتفلوا في “منشية البكري” بعيد مولدك وأطفئوا الشموع، بينما بقيت أنت في القناطر يومين آخرين، لم تشارك في الحفل، ولم يعرفوا أنّك لن تشترك بعد ذلك أبداً) ص٢٦.
تميّزت رواية “١٩٧٠” للرّوائي صنع الله إبراهيم بأنّها عبّرت عن روح عصر من عصور العالم العربيّ، لدرجة أن الكاتب لم يسمح للهواء بتجاوز فكرته، التي أرادها أنْ تكون معبِّرة عن العصر الذي تناوله الكاتب. وكأنّ سرده الإبداعي يشير تماما بما يحيطنا من أجواء كاذبة تكاد تقتلنا.