أخبار عاجلةساحة الإبداع

فاطمة البسريني تكتب عذاب

قصة قصيرة

عذابي لا يتحملني, جسدي لا يتحمل عذابي,
ينفصل عني، ينشطر عن نفسي,
أرى نفسي وحيدة، محتارة تواجه العذاب,
يحز في نفسي منظرها، أتعذب.
تنفصل يداي عن جسمي, تبتعدان، ثم تنظران إلى جسدي الذي يتلوى في أتون من جحيم، تصفقان بحرارة، أذناي تصطكان،
تحاور الأذن اليمنى أختها في الشمال:
( انسلخي هيا نفر بعيدا, حياتنا على هذا الرأس البركان لا تطاق، هيا..)
لا تسمع الأذن الأخرى شيئا.
تبحلق عيناي في رجلي، فقد انسلختا عني أيضا, لكن لم تستطيعا الابتعاد إ لا خطوات ثم تجمدا ن في مكانهما ولا تتحركا ن.
يقطر من عيني الأسى، دموعا من أجل رجلي اللتين ظلتا ممدودتين كساريتين، بعد أن عملت فيهما أيدي العذاب.
يا للعذاب وغصة في حلقي،
الكلمات تنفر مني، تتقطع حروفا، تندثر و تفنى، لا تتكون, أدمدم:
ياه, آه…
لحمي يجز قطعا، يجزه جزار عنيد, شرس يتطاير من عينيه الشرر,
والقطع الصغيرة تنضم إلى بعضها، تتكوم إلى جانب جسدي العظام كوما صغيرة لتباع في المزاد العلني.
وعيناي من وسط البركان رأسي تحدقان إلى لاشيء، ومن لاشيء تنبعث حروف تكون كلمة واحدة في كل قواميس اللغات التي تعلمتها:(عذاب!) وعيناي في رأسي تنظران إلى من يتزايدون ويدفعون الثمن الغالي في قطع لحمي الصغيرة، إلى من يتصايحون ويتصارعون حول كوم لحمي الصغيرة.
أين يداي تجمعان قطع لحمي وتعيدها لتغطي نفسي من العري؟
أين رجلاي أقف عليهما ولا أظل ممدودة، مرمية دون يد أو رجل؟
لماذا انسلخت عني اليدان والرجلان؟ لماذا؟
وتسقط من عيني دمعة، كبيرة,
عذاب,
تشق طريقها من المنبع إلى المصب،
لا مصب
تتيه دمعتي حول جسدي النحيل، تحيط به من كل الجهات،
يتعذب،
أين يداي تنقذان دمعتي من التيه والغربة والتمزق والابتعاد؟
عودي يا دمعتي إلى المنبع, واغرقي فيه، في عيني, ولا تخرجي لكي لا تتعذبي.
أتوسل إلى دمعتي العذاب، لا تهتم !
تذهب بعيدا، تطوف وتجول بلاد العالم،
عيناي تثوران، لا تريدان أن تظلا دون دمعة، تريدان الانطلاق وراء دمعتي العذاب بحثا عنها.
يا عيناي، لا أملك سواكما في هذه الحياة،
أين يدا ي لتمنعا عيني من الانفلات والإسراع وراء دمعتي النافرة التي تعذبني من بعيد,
إنها تقتل نفسي كل يوم,
وأنا أتعذب بجثث نفسي التي أحاول أن أبعث فيها الحياة، فتموت من جديد!
وكانت نتيجة رجائي الطويل المرير لعيني أن لزمتا محاجرهما
لكن بعد ذلك بقليل,
رأتا,
ويا لهول ما رأتا !
رأت عيناها, مستأصل العيون قادما يحمل في يديه أسياخا من حديد, محمرة تلتهب بالنار,
لو كان لدي رجلان لفررت بهما بعيدا,
لو كان لدي يدان لحميت بهما عيني,
لو كانت لي القدرة لجررت هذا الجسد العظام بعيدا،
لا أريد أن أصبح عمياء.
أردت أن أصرخ,
ياه، ياه،
أين لساني؟ أين لساني؟
هل بيع فيما بيع من قطع لحمي في المزاد العلني؟
لا تتكون الكلمات، إلا كلمة واحدة تظهر أمام عيني:( عذاب )
أقرؤها على ضوء الأسياخ التي ستستأصل عيني بعد قليل,
ويقترب مني مستأصل العيون،
لا عيون له، إنه أعمى لا يرى,
أنظر في عينيه بعيدا, أغور, أتعمق:( كهوف مظلمة، حالكة السواد, على جدرانها حروف بجميع أشكال الخط ا لعربي،
حروف لكلمة واحدة:(عذاب ).
أعود أدراجي، أخرج من كهوف ومغارات عيني مستأصل العيون,
تلتقط جمجمتي، كفه العريضة، ينام عليها رأسي,
يا رأسي لا تنم, لكي لا يغافلك، فيأخذ منك أعز ما لديك, ويغرس فيما حفرت يداه، شجرتان للعذاب.
لم أكن أظن يوما أن جميع أطرافي وحواسي قد تنفر مني وتتركني أتعذب وحدي.
لم أكن أظن يوما أن نفسي ستموت وتفنى إلى اللانهاية, إلى الأبد، دون أن أستطيع أن أفعل من أجلها شيئا، دون أن أستطيع إحياءها من جديد.
وتنادي محول الشعور, بعدما لم تجد في عيني أي شيء تستأصله، ويسألني محول الشعور، وهو يتفحص عيني بتمعن:
لماذا يلازم الحزن عينيك؟
يلازمني الحزن يا محول الشعور لأن أمي حزينة، و أختي حزينة، لأن جارتنا حزينة ولأن المذيعة حزينة، يقطر الحزن من كل كلمة تفوه بها ولأن صديقتي حزينة..،
إنني حزينة يا محول الشعور, لأن الحزن حصن أسرت فيه ولا أعرف له بابا,
حياتي قلعة حزن وعذاب, لا نافذة لها ولا باب, لا أمل أينما اتجهت لا أجد أمامي إلا كلمة واحدة, عذاب,
وتقول:( لماذا لا تتكلمين؟)
وهل تعرف شفتاي النطق إلا بكلمة واحدة هي الشعار الأبدي الخالد هي الأيام, هي القدر, هي الحياة.شفتاي ترتعشان من الحزن والعذاب، تنسلخان عني، تنفران مني, أريد أن أجمع شتاتهما, لا أستطيع.
رغم ذلك,
تبعدك يدي يا محول الشعور, لا أحس بها لأنها انفصلت عني منذ زمن بعيد.
يا نفسي، تجلدي، واصبري على المكاره,
أنت كلما أملك,
لن تستطيع يا محول الشعور أن تغيرها, لأنها شعور واحد لا يتغير
لا تبحث عن جسد يتحطم كل مساء، وتنفر منه أعضاؤه ـ تذهب عنه بعيدا
ولا تصبو يا محول الشعور إلى دمي,
فليس لي دم,
يخيل إلي بعض الأحيان أن ما يجري في عروقي هو مياه باردة كالثلج, لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى