وداد أبوشنب تكتب خريف .. (لا بداية ولا نهاية) لحن أيلول الّشاحب
((ليش..
صيف السنة انتهى بسرعة واحمرت أحراش الغار
والمرا الي شعرا أحمر متلن شعلانة بالنار
لا بداية ولا نهاية والوقت مارق غريب…))
كم تمثلِّني هذه الأغنية التي أحفظها كاسمي، وكسنين عمري المتساقطة مع أوراق الخريف، مع اكتئاب موسمي يحاصرني، ويلوِّن بالبرتقالي المصفرّ الكالح مسرح عمري، كئيبٌ يا خريفُ كئيب!! منذ نعومة أظفاري لم يرسخ في روحي شيء منك أو عنك غير رجفة اللّون الشّاحب، وبيت من الشّعر كأنّما قيل في حضرتي، لأتناثر عند قدوم كلّ خريف أنفاسا وهواجسَ وحزنا وقلقا، ذلك هو الإرث الخريفي في حضرة كلمات يوسف غصوب:
نثر الخريف على الثرى أوراقه / فتناثرت كتناثر العبرات
دون سابق إنذار يقرع خريف هذا العام أبوابي باكرا! فأغزل الرّؤى من اللاشيء، وأنسج بعطر الصّبايا الحالمات مأوى يقيني رعبَ الخريف، وأسرج للحبّ مطايا الخير والعطاء، كأنّما ليس خريفا ذاك الذي باغتني هذا العام؟ يشبهه تماما! في اصفرار أرواحنا الفجائي، في استدراج أسباب الخذلان، وإخفاء مفاتيح الأمل التي أجدّدها كلّما عصفت بالباب غمائم الّشؤم فأصدّها كيلا تحجب عنّي وهج الشمس.
لكنّه الخريف! فصل البكاء، لا فصل للبكاء غيره عزيزي نزار، أترى ذلك الشّحوب المستعار؟ يحاول أن يتمكّن من رؤايا التّفاؤلية التي تنثر عطرا موسميا، كجاردينيا تحاول الصمود لآخر الشّتاء، فيعانقني طيف ديسمبر الأمل، كزهرة منثور تحاول معانقة خريفها ليطغى عطرها على شجيرة كولونيا الجار!!
هو الخريف، صوت أجراس المدارس، ودموع السّماء الخائفة دوما دون هطول! صوت الجدّات وهنّ ينهرن أحفادهن كي لا تصيبهن أمراض آخر الصيف وأوّل الشتاء، فتلجأن إلى ابتكار الحكايا المرعبة –عكس حكايا الصّيف والشّتاء- شيء ما يرسِّخ هذه القواعد في روحي التي تُحتَضَر ما بين أيلول وتشرين، وكلاهما دامعٌ باكٍ، خانقٌ ككرة شعرِ هرٍّ علقت في حلقي، لا الماء ينزلها، ولا السّعال يصرفها ويخرجها، كنقطة المنتصف، كاللّون الرّمادي، شاحب كيفما كان!!
يحتلّني شحوب الخريف، بأوتاد وُلدت معي، يمتصّني حتى آخر رحيق نَظِرٍ يشدّ عودي عبر سنوات العمر، إلى أن أدركت ماهية هذا الفصل! أو بالأحرى فهمت سوداويته (صفراويته)، دموعه، اكتئابه الذي يسكنني، ذلك الذي يتجدّد دوريا ولا يقمعه غير غيث الشتاء، تماما كخريف العمر، الذي يستلّ ابتسامتنا بمكر: ((لم يبقَ إلاّ القليل! فلِمَ الابتسام؟))، يرسل وشائجه بخفّة السّارق المحترف كي يتمكّن منّا، وينفث فينا سيمفونية الأسى، فنردّد: ((شو ضلّ بهالعمر؟ ما ضلّ قد الي راح))، ويوشك أن ينال من أرواحنا البريئة، لولا سحابة علقت على باب المواسم من الشّتاء الماضي، وقفت تتفاوض مع نسمة صيف غادرتها رفيقاتها، فكان الأمل، وما كان للخريف المستعار إلاّ أن يحزم نواياه الصّفراء ويرحل! أرجو أن يرحل قبل اصفرار زهر الجلنار، ورحيل وعد السنونو، وهطول أعياد الأمل، لنغنّي: ((شتّي يا دنيي شتّي موسمنا يحلي!!))
كـ بلاء يمتحننا، يمرّ كل سنة، كوحش ضارٍ يراقب، ولا يقترب حيث أحجبُ روحي عن رتابة جوِّه الكئيب، أو أحاول ذلك على أقلّ تقدير، فأقرن قصيدي بالمعوّذتين وأردّد في داخلي على إيقاع المتقارب الرقيق: ((أناجي التماسا/ إلهي عساه البلاء الأخير!!)) فيرتد إليّ الصّدى اللّهم آمين! اللهم عساه البلاء الأخير!!