د. نهال القويسني تكتب رواية “مبني للمجهول ل.. هوشنك أوسي نقطة من أول السطر”..
محاولة لفكّ شفرات الحياة والإجابة على أسئلتها.
هوشنك أوسي كاتب سوري من أصول كردية، صحافي وأديب يعيش في بلجيكا منذ عدة سنوات، يكتب بلغة عربية رشيقة ورصينة، أتيحت لي فرصة الإطلاع على جزء من منتجه الأدبي من خلال مجموعة ثقافية معنية بالنقد والشأن الأدبي، اسمها “الساردون يغرّدون”. ومن النادر أن تصادفك هذه النوعية من الكتابات الملحمية المليئة بالشجون الإنسانية للبسطاء، والهموم الفلسفية للعقول المعنية بفك طلاسم الحياة في مجملها وتفاصيلها. الحقُّ أنها كانت تجربة فريدة بالنسبة لي كقارئة اعتادت الاطلاع على الأعمال الأدبية، ومحاولة الغوص في أعماقها، وتحليل أفكار كاتبها والوصول إلى مراميه. فوجدت نفسي أمام عمل ملحمي إنساني تاريخي سياسي فكري فلسفي وجودي. كل ذلك في رواية “مبني للمجهول.. نقطة من أول السطر”، المتعددة الشخصيات والأماكن والأزمنة والمراحل التاريخية. عملٌ يطرح أفكارًا كثيرة عميقة بسيطة ومعقدة، في محاولة جادة وصادقة لفك شفرة الحياة، والوصول إلى إجابات شافية لأسئلتها.
تجري أحداث الرواية على امتداد زمني طويل، منذ الحرب العالمية الأولى وبدايات أفول الاحتلال العثماني للمنطقة الذي عانتنا ويلاتها ومراراتها لأربعة قرون، ثم اندحار ذلك الحكم وزوال سطوته على يد الأوروبيين. بالتالي، يرتحل بك الكاتب عبر قرن من الزمن، من خلال حيوات شخصياته منذ ميلادهم إلى نهاية أعمارهم، وما مرّوا به من مصاعب وتحديات إنسانية وشخصية واجتماعية وفكرة ومادية.
تجري الأحداث الرئيسية في منطقتنا العربية، فتتداخل الأعراق والجنسيات ومجموعات البشر بصورة مغرقة في إنسانيتها وحميميتها، فتكاد تستغرقك تمامًا وتستولي على مشاعرك وتعاطفك. ثم لا تلبث أن تشدك نحو أحداث تاريخية حقيقية بشخصيات وأسماء قد تعرفها بحكم مرحلتك العمرية، أو لا تعرفها. لتجد نفسك في خضم حروب ونزاعات وصراعات وأطماع إقليمية ودولية، تلقي يظلالها الكثيفة على البائسين من ساكني هذه المنطقة. أولئك المفعول بهم، المنساقون وراء الأوهام والمفاهيم الساذجة التي تصورها لهم عقولهم، وما تم حشو أدمغتهم به من أفكار ماكرة، هدفها السيطرة عليهم واستخدامهم لصالح الدول المحتلة المستعمرة. بشرٌ من كل أرجاء المنطقة العربية، ارتضوا تحت وطأة الفقر وقلة الموارد أن ينخرطوا في جيوش محتليهم، ليحاربوا ويُقتَلوا بالنيابة عنهم. حربٌ ليسوا طرفًا فيها، لكنهم يساقون إليها كوقود للمعارك وخط دفاع أول لحماية أرواح أبناء المستعمر. وحين يطالع القارئ هذه الرواية، طبيعي أن سيتوقف مرات عديدة ليقول: “ما أشبه اليوم بالأمس”! ولا بدّ أن تستدعي ذاكرتك ما تمرّ به المنطقة في المرحلة الحالية من انتهاك للأراضي والأرواح والأعراف والمواثيق الدولية. كل ذلك بدم بارد واستهانة وتجبُّر وإجرام فاجر. تتأمّل الصورة جيدًا عن قرب، فتكتشف التشابه الكبير. دوائرٌ تاريخية مفرغة مازلنا ندور فيها، ونرزح تحت نيرها. والأمر المؤلم أنها تتكرر بدون أية بارقة أمل في التغيير أو تجنّب تكرار الأحداث والسلوكيات والمفاهيم، رغم اختلاف الأزمنة والشخصيات والملابسات.
الكاتب لا يطرح عليك تساؤلات، ولا يعتسّف الإجابات، بل يدفعك دفعًا، من خلال الأحداث والشخصيات والصياغة اللغوية الماهرة، إلى التأمل والتساؤل: كم من ثورة، وكم من صراعات، يظنّ أصحابها أنهم على حق، أو يدعون ذلك، وأن خصومهم على باطل؟ كم من جرائم يدفع ثمنها الأبرياء البسطاء من دمائهم ومقدراتهم؟ يدفعون أثمانًا باهظة، إيمانًا منهم أنهم الأعلون، وأصحاب قضية عادلة؟ من الذي يحاكم كل هؤلاء الجبابرة الذين يستغلونهم ويستغلون إخلاصهم للعقيدة وللقضية، ويلقون بهم في أتون الصراعات دون تردد أو شفقة؟
في الرواية شخصيات حقيقية معاصرة يقابلها مراسل صحافي عسكري شهير، ويجري معها أحاديث صحفية متخيّلة بغرض استيضاح الصورة وإلقاء الضوء على القضية. شخصيات معاصرة تعرفها بالاسم، منها من عاش في منطقتنا، ومنها من عايش صراعات مسلحة في منطقة أخرى من العالم. والمجرم واحد في كل الأحوال، ذلك الذي يستغل الآخرين ويخطط لاستعمالهم لتحقيق مصالحه بشتّى الصور.
كل أشكال استنزاف موارد الدول وثرواتها في إفريقيا، وقهر أبنائها وإذلالهم بدم بارد ونفوس مريضة لا تمت للإنسانية ولا التحضّر المزعوم بصلة. وإن كُنت ممَن سمعوا بقضية الأكراد ولم تُلمّ بتفاصيلها ولا خلفية البشر والأحداث، فسوف تعرف معلومات قيّمة ترفع عن عقلك غشاوة الجهل. بدون انحياز، حقائق ومواقف تاريخية، لا بد أنها استغرقت وقتًا وجهدًا من الكاتب، للتحقق منها أولاً، ثم صياغتها وطرحها من خلال عمل أدبي يعجّ بالشخصيات والأحداث والأزمنة والأماكن.
أنت أمام كاتب موسوعي المعرفة، شغوف بالبحث عن حقيقة القيم الإنسانية، معني بأمر الإنسان، صاحب رؤية عميقة للحياة، فكريًا وفلسفيًا وعاطفيًا وإنسانيًا. كاتب يحاول إيجاد مفاتيح الأحداث وتواترها وتتابعها وتكرارها، لعلّه يجد إجابة شافية عما يعتمل في نفسه من تأملات عميقة، وتساؤلات حائرة تقضُّ مضجع كل مثقف واعٍ وصاحب عقل أريب. لكنه في وسط كل هذه الأنواء العاصفة والأحداث الجسام يجد شعاع النور المشرق، المبشّر بحلم الإنسانية الصادق، يضع يده على كنز البشرية الدفين؛ الحبّ الذي يجمع القلوب ويغيّر مقدرات البشر. المشاعر التي ترسخ معنى الإنسانية، فتجسّدها في أبهى صورها.
قصص صغيرة هنا وهناك، وأشخاص جمع الحبّ بين قلوبهم ليبدّل حياتهم ويخلق لهم أملاً في الحياة، يتمسّكون به ويستميتون في تحقيقه. تطالعك الروح السمحة الجميلة لتمازج العقائد وتداخلها في منطقة من العالم كانت مهبط ومستقر العقائد والأديان. ويرسم لك هوشنك أوسي صورة هذا التمازج التلقائي الجميل، في مقابل صورة التعصّب البغيض، وتوهّم امتلاك الحقيقة المطلقة، ومعاداة الآخرين والتعالي عليهم تحت هذا البند الذميم. فترى راعي الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان يقوم بتزويج عاشقين مسلمين، كُردي ودرزية، بين جنبات دار العبادة المسيحية. أيوجد أروع من ذلك تجسيدًا لثقافة المحبّة والتعايش بين أبناء العقائد المختلفة؟
ستأخذ الأحداث بتلابيب عقلك، فتهزّها بعنف وتزلزلها بتساؤلات وجودية لا توجد لها إجابات قاطعة. ما حدود الحق والباطل..؟ وأين الخط الفاصل بين الخير والشر..؟ أين تكمن مواطن الظلم..؟ وما مدى مسؤولية المظلوم عما يتعرض له..؟ ما هو مفهوم العدل..؟ وما الحق..؟ أتراه مطلق أم أن له أكثر من جانب وأكثر من زاوية نظر..؟ هل هناك رأي قاطع أم الأمور نسبية؟
أسئلة كثيرة سوف تتبادر لذهن القارئ وهو يطالع العمل، تدفعه للتأمل والتفكير، لكنها دون إجابات، ومبنية للمجهول، هي حديث الصبح والمساء. هي أحداث الليلة والبارحة.. نقطة، ومن أول السطر. حين تظن أنك قد وصلت لخط النهاية، تعاد الكرة بحذافيرها، كأنّ الزمان لم يمرّ، وكأنّ الإنسان لم يعِ الدرس، وكأنّ الفاعل مجهول.. طوال الوقت مجهول! ولعبة الأقدار؛ تلك التي تختار الأماكن والأشخاص والتوقيتات لتنال من ضحاياها، من عاش منهم ومن قضى! أين الصدق وأين الباطل في أحاديث البشر ورواياتهم، ورؤيتهم لذواتهم وأفعالهم؟
وقد يأخذ البعض على الكاتب صياغته الملتهبة لبعض المشاهد الجنسية الساخنة، لكنه لا يكتبها بغرض الإثارة أو الترويج للعمل الأدبي وحفز الإقبال عليه من جانب القراء، بل يكتبها من واقع إحساسه بها كجزء أصيل وعميق من الحياة، تؤثّر في حياة الأفراد تأثيرًا بالغًا. خليطٌ من المشاعر والغرائز والحاجة للتحقق والتوحّد في بعض الأحيان. هو يراها زاوية من الزوايا الأساسية والرئيسية في الوجود الإنساني.
قد تتفق أو تختلف معه في فكره وطرحه وتصويره، لكنك في النهاية سوف ترى الأمر بصورة مختلفة حين تنتهي من مطالعة العمل. وقد يحيّرك أمر فصول الرواية في بدايتها، شخصياتها وأحداثها ورسائلها، وقد يلتبس عليك الأمر حين تتابع الأحداث وتتوالى الفصول وتظهر الشخصيات وتتداخل، لكنك في النهاية سوف ترى الصورة كاملة بكل تفاصيلها الدقيقة، وجوانبها الثرية، ورسائلها العميقة، وأسئلتها العويصة، وإجاباتها الغائبة. لوحة فسيفساء لم تترك شيئًا إلاّ وأوردته بين أبعادها المترامية.. لوحةٌ تجسّد الحياة الإنسانية في أبلغ تصوير لكل حناياها. ولكن عليك أن تقرأ بتركيز ولا تتهاون في ذلك الأمر. قد يؤخذ على العمل بعض الهنات البسيطة مثل استرسال الكاتب في مواضع قليلة، في التعبير عن رأيه والتعقيب على الأحداث بصورة مباشرة. كما قد يؤخذ عليه أيضا تكرار ذكر أسماء أشخاص بعينهم بصورة مفصّلة، رغم كونهم شخصيات هامشية يأتي ذكرها في حدث محدد لا امتداد له ولا تأثير على السياق الدرامي للأحداث. لكن الرواية في مجملها سفرٌ أدبي من طراز نادر، اختار إطارًا تاريخيًا وسياسيًا وانثروبولوجيًا متسعًا، وناقش من خلاله العديد من القضايا الفكرية والفلسفة القيّمة. وهو في النهاية يحقق لقارئه متعة عقلية مؤكّدة.
بالننيجة، كل ما طواه هوشنك أوسي في ورايته “مبني للمجهول” سيغدو معلومًا لقارئه.. لكن العنوان الفرعي “نقطة من أول السطر” تطلع سراح القارئ مما قرأه وتطالبه بالبدء مجددًا