منال رضوان تكتب البنية التأملية والرمزية في ديوان “بيد واحدة أتصفح بريد الحرب”
البنية التأملية والرمزية في ديوان “بيد واحدة أتصفح بريد الحرب” للدكتور عيد عبد الحليم
ديوان “بيد واحدة أتصفح بريد الحرب” للشاعر المصري د. عيد عبد الحليم يشكّل نصًا شعريًا عابرًا للزمن، حيث يتلاقى فيه التقاليد الشعرية مع الروح الحديثة التي تستلهم الفكرة الإنسانية الكبرى في البحث عن المعنى وسط الفوضى والخراب، يبدأ الديوان باقتباس من مارسيل بروست: “أنا الرجل الذي سحب نفسه من الدنيا ليعيشها بشكل أفضل”، وهو استهلال يحمل تأكيدًا على الاغتراب الذاتي والبحث عن عمق جديد للحياة، بهذا، يُدخلنا الشاعر منذ البداية إلى فضاء التأمل، حيث يصبح الانسحاب فعل مقاومة بحد ذاته.
ما يلفت الانتباه في الديوان هو البنية النصية التي تمزج بين قصائد قصيرة أشبه بشعر التانكا الياباني، وقصائد أطول ذات نفَس تأملي، هذه البنية تجعل من الديوان سلسلة من المشاهد المتناغمة والمتفرقة في آن، كأنها أجزاء من لوحة فسيفساء واسعة، القصائد القصيرة، مثل:
غدًا ستنتهي الحرب
فهل سنعود كما كنا؟
تعبّر عن الاقتصاد اللغوي والتكثيف الرمزي الذي يلتقط لحظة شعورية بأكملها في سطرين، هنا، يتجلى التأثير الواضح لشعرية التانكا الياباني، ليس فقط في الشكل، ولكن أيضًا في الروح، حيث يسعى الشاعر إلى إيقاظ أسئلة بدلاً من تقديم إجابات.
القصيدة الأخرى:
كائنات الظل
مثل كل شيء هادئ وبسيط
أترك أحزاني تكبر في الظل
حتى إذا جاء أوان نضجها
تحولت إلى مدينة
تعكس براعة عبد الحليم في تحويل المأساة الشخصية إلى رؤى كونية، هنا، تُستحضر فكرة النضج البطيء للحزن ككائن حي، تتجذر جذوره في الظل، لكنه لا يظل كذلك، بل يتضخم ليخلق معمارًا وجوديًا جديدًا، هذه الصورة الشعرية تستلهم جماليات السكون اليابانية، لكنها تنحرف عنها نحو ديناميكية صاخبة تتوائم مع التجربة الإنسانية الحديثة.
في القسم الأكبر من الديوان، يحضر الشاعر كمنقّب عن المعاني وسط الخراب، مستخدمًا عناوين مثل “جغرافيا” و”اللوحة” كمحطات رمزية للتأمل في علاقة الإنسان بالمكان والزمان، في قصيدة “جغرافيا”، على سبيل المثال، يتناول عبد الحليم المكان بوصفه كيانًا متعدد الطبقات، حيث يتداخل الجغرافي بالإنساني، ليخلق حالة من التوتر بين الثابت والمتحول، المكان هنا ليس محايدًا، بل هو مرآة للصراع النفسي والسياسي.
أما قصيدة “اللوحة”، فتتعامل مع الفن كنافذة لفهم العالم، لكنها تتجاوز الإطار التقليدي للتأمل الجمالي إلى نوع من التساؤل الوجودي، اللوحة ليست مجرد شكل بصري، بل حالة شعورية مركبة، كأن الشاعر يعيد تشكيل الواقع داخل إطار جديد من الرمزية.
واحدة من أبرز سمات الديوان هي اشتغال عبد الحليم على المفارقة الشعورية والرمزية، حيث يتناوب الأمل واليأس، السكون والحركة، في نسيج لغوي سلس لكنه محمّل بالدلالات، الحرب، التي تشكّل تيمة رئيسية في الديوان، ليست مجرد حدث سياسي أو تاريخي، بل هي استعارة وجودية للصراع الإنساني الداخلي والخارجي، يبدو الشاعر وكأنه يحاول فهم هذا العالم المتشظي من خلال العدسة الدقيقة للتجربة الفردية، مما يخلق توازنًا بين الذاتية والكونية.
لغة الديوان تتميز بالبساطة المتأملة، حيث يميل الشاعر إلى استخدام مفردات يومية ذات طابع حميمي، لكنها تحمل في الوقت نفسه عمقًا رمزيًا، على سبيل المثال، “بيد واحدة أتصفح بريد الحرب” ليس مجرد عنوان، بل هو مفتاح دلالي يكشف عن ازدواجية القوة والضعف، اليقين والشك، البساطة هنا ليست تقليلية، بل هي وسيلة لتكثيف التجربة الشعرية، بحيث تصبح كل كلمة مشحونة بالمعنى.
من الناحية الأسلوبية، يتبنى الشاعر تقنيات التداخل النصي بين الحداثة والتراث، يظهر هذا بوضوح في تناول المفردات والتي يطوّعها لتناسب السياق الثقافي والإنساني العربي، كما يعتمد على أسلوب القطع الشعري، حيث تتوالى الصور والمشاهد دون أن تخضع لتسلسل منطقي مباشر، مما يخلق إحساسًا بالتعددية والانفتاح.
يمكن القول إن ديوان “بيد واحدة أتصفح بريد الحرب” هو عمل شعري يحمل بصمة فريدة في المشهد الشعري العربي المعاصر، من خلال المزج بين التكثيف اللغوي والتأمل الفلسفي، يقدّم عبد الحليم تجربة شعرية تُشرك القارئ في عملية البحث عن المعنى وسط رماد الحروب والمآسي، إنه ديوان يقف عند الحدود بين الجمال والحزن، بين الذات والعالم، ليخلق مساحات جديدة للتفكير والشعور.
منال رضوان – ناقد أدبي
عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر