منال رضوان تكتب جدلية التفكيك وتعدد الأصوات في ديوان “آيل للصمت” لعزة رياض
مقاربة نقدية بين دريدا وباختين
ديوان “آيل للصمت” للشاعرة والباحثة المصرية عزة رياض والذي يمثل تجربة شعرية غنية بالرموز والدلالات، تتشابك مفردات الصمت فيها والفقد والموت؛ لتقدم خطابًا شعريًا يتأرجح في ما بين المادي والروحاني في ذلك الصراع الوجودي متعدد الطبقات والمستويات، منذ العنوان حتى الشطر الأخير، حيث يحمل عنوان الديوان “آيل للصمت” دلالة رمزية تعكس البنية الكامنة للنصوص؛ فيشير إلى حالة من الانهيار التدريجي ليتجه نحو حالة من السكون والتأمل، وهو ما يتسق مع الصراعات النفسية والوجودية التي تتناولها الشاعرة؛ فالصمت هنا ليس مجرد غياب الصوت، بل هو حضور مكثف لمعانٍ برزخية غائبة تتصارع بين المادي والروحاني، مما يجعل العنوان مُدخلاً لفهم طبيعة الديوان وتجربة صاحبته الشعرية.
والنصوص الشعرية المشتمل الديوان عليها، -بوجه عام- تتسم بالعمق النفساني الذي يعكس تساؤلات الذات في عدة ثنائيات تتأرجح بين الحياة والموت، الحضور والغياب، الصخب والصمت، مما جعلها أقرب إلى رسالة استغاثة تارة، وتارة أخرى بدت وكأنها برقية رثاء، تتفاعل مع عوالم متداخلة ومتشظية، ذاك التناثر يمكننا من النظر إلى الديوان من خلال مقاربات نقدية تستند إلى التفكيكية لدى جاك دريدا والتعددية الصوتية التي أفرد ميخائيل باختين لها الكثير من رؤاه؛ لفهم البنية الشعرية وتأويل الدلالات الكامنة في نصوص الشاعرة.
ومن المعلوم سلفًا سعي التفكيكية إلى كشف تناقضات النصوص، وتعرية بنيتها الظاهرة؛ للكشف عما تخفيه من معانٍ عميقة ومتناقضة، فبالنظر إلى إحدى قصائد الديوان وهي قصيدة “رقصة الموت”، نجد أن الصورة الشعرية تمزج بين الرمزي واليومي، حيث تصف الشاعرة مشهدًا مليئًا بالدلالات مثل “خيمة قديمة” و”الغيمة الممطرة”، وهي عناصر تعكس هشاشة الحياة ورمزيتها، في الوقت ذاته، فإن تفكيك هذه الصور يكشف عن صراع داخلي بين الإحساس بالعجز، ورغبة الذات في الاحتفاء بالوجود ومعايشته رغم عبثيته!
كذا فإن نصوص العمل يمكن أن تضع القارئ أمام حالة من الإرجاء المستمر؛ حيث لا تقدم إجابات نهائية بل تساؤلات مفتوحة، تتجاوز ظاهر الكلمات لتدخل في فضاءات التأويل المتعددة، فمثل “رقصة الموت” تجىء قصيدة “على ناصية الفقد” أو “الحب على طريقة أخرى” والتي تقول فيها:
كنت قد أعلنت اعتزالي
لكن جمهوري طالبني بالعودة
قالت لي إحداهن:
أحببت دورك وأنت تقتلين حبيبك
بسيانيد البوتاسيوم
وأرسل إلىَّ آخر يطالبني بالعودة
فهو لم ينس دوري في مشهد وحيد على المسرح
حين دخلت على زوجة أبي وأطلقت عليها الرصاص
ثم ذكرني بزهور أهداها إليّ
وطفلة جميلة في الشارع
صاحت: يا نسيم
هذا كان اسمي حين قمت بدور
طفلة معذبة بإحدى الملاجىء
بائع الخضر اندهش حين رآني
وقال بعفوية: لقد انتحرت في حلقة أمس!!
جعلني هذا أفكر مليا
وأعود بالدور الذي عرض عليّ
امرأة سكيرة تموت في حادث سير.
هنا، نجد تلك النهايات الغامضة لأدوار تتشابك في حياة الساردة لا تغفل عن إسقاطات قتل الحبيب والذي استحق نهاية مأساوية، بتصاعد الحدث المجهول للقارىء منتهية حياته كفأر مسموم، يفتح الباب على مصراعيه لتعدد التأويل ومن جهة أخرى، يظهر أثر التعددية الصوتية في تلك القصيدة، وفي الديوان بشكل عام بوضوح، حيث تخلق النصوص حوارًا بين أصوات متعددة داخل النص الواحد، وهو ما لوحظ في النص السابق، كما يتضح في قصيدة “في مكان ما”، على سبيل المثال، حيث يتداخل صوت الراوي الذي يعبر عن الوحدة والفراغ مع أصوات أخرى مثل “نباح الجرو” و”صراخ المكبح”، مما يخلق جدلية بين العالم الداخلي والخارجي، الإنسان والجماد، هذه الأصوات المتعددة تجعل النصوص تعبر عن تجربة إنسانية جماعية تتجاوز الفردية لتشمل حضورًا إنسانيًا أوسع، ولا ينبغي لنا إغفال الصمت الذي يتكرر كعنصر محوري في الديوان، ولا يمثل الصمت هنا مجرد غياب الصوت بقدر ما هو حالة ممتلئة بالأصوات المبتورة التي تحاور الوجود والعدم في الوقت ذاته.
ويعكس ديوان “آيل للصمت” صراعًا نفسيًا وجوديًا يجعل اللغة الشعرية أداة لاستكشاف العلاقة بين العوالم المادية والروحانية، من حيث المفردات المستخدمة مثل “الصمت” و”الفقد” و”الموت” والتي تحمل دلالات رمزية تتجاوز معانيها السطحية، لتصبح وسيلة لاستكشاف تساؤلات الذات حول ماهية الحياة وقيمتها في عالم يبدو عبثيًا ظالمًا في أحيان كثيرة،
وبالعودة إلى قصيدة “رقصة الموت” والتي تقدم تصويرًا مسرحيًا للموت؛ حيث يتحول إلى حدث اجتماعي يحتاج إلى تصفيق العامة، مما يثير تساؤلات كتلك التي تدور حول الدور الذي يلعبه الموت في تشكيل القيم الإنسانية.
كما تشير النصوص في الوقت ذاته إلى التفاعل المستمر بين العوالم الروحانية والمادية، حيث يتم استدعاء رموز من الحياة اليومية للتعبير عن تجارب إنسانية عميقة، كما في قصيدة “في مكان ما”، والمنزل الموصوف بعناصره المادية مثل الثقوب القديمة، والصور المعلقة لعائلة لم تسكنه قط!
هنا تحول عزة رياض الموجود إلى رمز للوجود ذاته؛ حيث يعبر عن محاولة الذات لملء الفراغات الروحانية بالذكريات والخيالات، هذه التداخلات بين المادي والروحاني، والواقع والخيال، تخلق نصوصًا ذات طابع تأملي يعكس تعقيد التجربة الإنسانية منتظرة مخاتلة الصراعات والهزائم لتقابلها انتفاضات للأمل وحب الحياة في حوارات لا تقل أهمية عن تلك المخاتلة؛ ليمثل آيل للصمت حالة من حالات ثنائيات الأضداد الكثيرة في واقعنا المعاصر.