منال رضوان تكتب استلهام الشخصيات الحقيقية في الأدب: جدلية الإبداع والواقع
بالطبع يجوز للمبدع أن يستلهم شخصيات حقيقية من محيطه ليكتب عنها؛ حيث يُعد ذلك ممارسة فنية متجذرة في الأدب العالمي إذ يرى النقاد أن تحويل شخصية واقعية إلى عمل أدبي لا يقتصر على نقل الواقع فقط؛ وإنما يتجاوزه ليصبح شكلًا من أشكال الخلق الفني الذي يعكس رؤية الكاتب ووعيه الاجتماعي والسياسي.
ولذلك، يطرح هذا التوجه تساؤلات عميقة حول حدود الخصوصية، والأمانة الأدبية، وحرية الإبداع في معالجة الواقع ضمن النصوص.
على سبيل المثال، نجد أن فيودور ديستايفسكي (دوستويفسكي) استوحى شخصية “راسكولينكوف” في الجريمة والعقاب من واقع ملفات جنائية حقيقية، مما أضفى على الرواية واقعية نفسية عميقة، كما أبرز ذلك “ميخائيل باختين” في دراسته للنصوص الحوارية.
كذلك، تُعد شخصية دون كيخوته التي صاغها “ميغيل دي ثيربانتس” نموذجًا بارزًا على استلهام نماذج من النبلاء الإسبان، حيث وظفها للتعليق على التحولات الاجتماعية والثقافية في عصره، وبالمثل، استوحى “شكسبير” العديد من شخصياته، مثل الملك لير وهاملت، من شخصيات تاريخية وأحداث واقعية، ليقدم من خلالها تحليلات درامية ونفسية عميقة تسلط الضوء على تعقيدات الطبيعة البشرية.
وفي أدبنا العربي، استلهم أديبنا “نجيب محفوظ” شخصية سعيد مهران، بطل اللص والكلاب، من قصة حقيقية لأحد المجرمين المعروفين في خمسينيات القرن العشرين،
ووفقًا للنقاد مثل “محمد مندور”، فإن محفوظ لم يكتفِ بنقل شخصية سعيد مهران، بل أعاد تشكيلها لتكون رمزًا يعبر عن قضايا الانحراف الاجتماعي والصراع الطبقي.
كما استلهم الأديب “إبراهيم عبد المجيد” شخصية البهي في روايته لا أحد ينام في الإسكندرية عن شخصية حقيقية أيضًا.
وهنا، يبرز مفهوم “رولان بارت” عن “موت المؤلف”؛ حيث يرى أن الشخصيات الأدبية ليست مجرد انعكاس للواقع، بل إعادة ترتيب للتجربة الإنسانية داخل النصوص.
ومن جهة أخرى، يوضح “نورثروب فراي” في نظريته البنيوية أن استلهام الشخصيات الواقعية يمكن أن يعيد إنتاج الميثولوجيا البشرية بصور معاصرة.
وبالإضافة إلى ذلك، يرى “لوكاتش جورج” أن الشخصيات المستوحاة من الواقع تُتيح للكاتب معالجة التوترات الاجتماعية والاقتصادية بأسلوب يحقق البعد الجمالي والفكري، علاوة على ذلك، يؤكد “باختين” أهمية التعددية الصوتية في الروايات التي تستوحي الواقع، حيث تصبح الشخصية مجالًا لتفاعل أنماط خطابية مختلفة، كما يضيف “جاك دريدا” أن الكتابة عن الشخصيات الواقعية تفتح النص على احتمالات لا نهائية، تعيد إنتاج “الاختلاف” في السرد.
هكذا، يتحول استلهام الشخصيات الحقيقية إلى أداة تعبير تتجاوز حدود الشخصية الواقعية، ليصبح النص الأدبي فضاءً ديناميكيًا يعكس قضايا اجتماعية وفكرية وإنسانية أكثر اتساعًا.