منال رضوان تكتب غواية التوتر الدلالي في “أحبك وكفى” قصيدة الشاعر البحريني القدير علي الستراوي
نقد

النص الذي بين أيدينا “أحبك وكفى” للشاعر والأديب البحريني القدير علي الستراوي، لا ينتمي إلى الغنائية المباشرة في الشعر وحسب؛ بل يتحرك في طبقات مركبة من التخييل والتورط الوجداني، حيث يتداخل صوت العاشق مع صوت الوجود المتألم، ويُعاد تشكيل العلاقة بين الذات والآخر عبر خطاب شعري متوتر، مشحون بإشارات الزمن والمكان، وموارب في دلالاته الحدية، بين التماسك الظاهر والانهيار الداخلي.
علي الستراوي، الشاعر والكاتب والإعلامي البحريني، يعد من الجيل الرابع، ولد في المنامة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، ويعمل صحفيًا متخصصًا في المجال الثقافي، يكتب الشعر الفصيح والعامي والمقالة النقدية والقصة القصيرة والرواية وأدب الطفل، وله حضور بارز في الصحافة الثقافية البحرينية؛ حيث يشرف على تحرير الملحق الثقافي لجريدة “أخبار الخليج” ويرأس القسم الثقافي بها.
عمل الستراوي طوال مسيرته منذ 1992، في عدة صحف مهمة مثل جريدة “الأيام” وجريدة “الميثاق” وجريدة “الوطن”، مؤسسًا ومحررًا لصفحات ثقافية متخصصة، وله إصدارات شعرية معتبرة، مثل: “المرافيء المتعبة” (1995)، “فضاء” (2001)، و”على راحة قلبي” (2008)، بالإضافة إلى دواوين أخرى، وهو عضو بارز في أسرة الأدباء والكتاب والعديد من الهيئات الثقافية المهمة.
وبالعودة إلى القصيدة موضوع القراءة فإننا نجد الاشتغال الشعري عند الستراوي في “أحبك وكفى!” يتموضع ضمن ما يمكن أن يُصطلح عليه بـ..الحساسية المتأخرة في التعبير العاطفي، وهي مرحلة في الكتابة لا تُعنى بالتجريب اللغوي الظاهري الفج، بقدر ما تُراهن على الانزياح العاطفي الناضج، وعلى احتشاد الصورة لا كمجاز براق، بل كأثر باق؛ فثنائية (هي والعيد) مثلًا لا تُقرأ بوصفها استعارة لفرحٍ مؤقت، بل كتمركز للكينونة حول حدثٍ يتجدد عمله في النفس كلما تكرّر، ويتكرر كلما استُحضر ذكره، أو تجددت ذكراه.
في هذا السياق، تبدو اللغة مشبعة بعناصر الطقس المحبب والاحتفال، واقتران ذلك بالغياب، إلا أنها لا تنحاز إلى الحسية المباشرة أو النوستالجيا المفرغة من التاريخ، بل تستثمر المفردات التي تبدو يومية وعادية ك.. (“وشوشتك”، “الغياب”) لتؤسس توترًا بين محمولاتها العاطفية وتأثيرها، وحمولاتها البنيوية داخل النص ذاته؛ فالشاعر في هذه القصيدة لا يكتفي بإنتاج العاطفة، بل يحرّض على تفكيكها وإعادة ترتيبها، كما في قوله: “لا الحرب فاصلةٌ بين محيطين / ولا غبارُ العواصفَ حكمة الأغبياء”،
هذا التركيب لا يُقصد به مجرد إثبات أو نفي واقعة، أو التمسك أو الإفلات من شعور، بقدر ما يُراد منه تقويض المرجعية الحسية للحدث، وتشييد بنية شعرية مستحدثة الأثر على حافة المعنى.
أما من ناحية الشكل، فمن الملاحظ أن الستراوي اتبع أسلوب الموجة الحرة، التي تتجنب الانتظام الإيقاعي التفعيلي الصارم، لكنها تعوّض ذلك بإيقاع داخلي، تدفق من تعاقب الصور، واختلاط الجمل الفعلية بالإنشائية، كما يُلاحظ في السطرين التاليين -على سبيل المثال-:
“دعيني .. فالغياب بعدكِ ضياع / لا الحرب فاصلةٌ بين محيطين”.
هذا التفاوت البنائي لا يشي بالفوضى أو الاضطراب التأويلي للمعني، بل ينتج عنه توتر إيقاعي محسوب، يمكّن القصيدة من التزلج داخل بنية شبه سردية، تقترب أحيانًا من الحكي الحميم، وتبتعد حينًا لصالح الرمز والاحتمال وغيرهما من سمات النص الشعري.
تتجلى أيضًا ثيمة “الانتظار” في النص بوصفها بنية زمانية ودلالية في آن واحد، الانتظار، ذلك الشعور الرتيب المؤرق، لا يعني هنا مجرد الوقوف على تخوم الحضور، والتأرجح بين النقيض ونقيضه؛ بل هو فاعلية تأويلية تُبقي المعنى معلّقًا، بين الواقع والمأمول، كذا يؤكد النص بقول..”شموعها في دماء قصائدي”، بشكل يحوّل المرأة إلى تجسيد لمثيولوجيا الحب، ليست محددة بهوية بيولوجية أو ظرفية، بل بوصفها هي في حد ذاتها علّة الكتابة وعزف أوتار البوح.
بل إن جملة ك.. “هوى امرأة أحبها” تنسحب من سياقها العاطفي؛ لتصبح بيانًا وجوديًا لشاعر تتماهى في كلماته التجربة الحسية مع التجربة الجمالية؛ فالهوى الذي يمكن ذكره مع الغواية والرغبة، يقطعه نصل الحب؛ ليعمق من أثر التجربة وألمها.
أما على مستوى البنية الخطابية؛ فإن الانزياح المستمر بين “هي” و”أنتِ”، وبين “قال” و”دعيني”، يكشف عن نوع من التصدع في موقع المتكلم، ومدى قربه أو بعده من ذلك الحبيب؛ فالعاشق لا يتكلم من موقع السيطرة أو الامتلاك، بل من موقع المفعول به، الغارق في أزمنة المعاودة والانكسار في بعض الجمل، في الوقت ذاته، من موقع المتحدث الذي يحاول أن يقف على قدم المساواة في ضبط الشعور مع الطرف الآخر.
كما يتبدى لنا النص وهو يخاتل قارئه بمفارقات تقترب إلى السردية، كقوله: “أُبقيتُ ما لم يكن هنا”، وهو تركيب يستند إلى نفي مزدوج يشي بالحضور في الغياب، وعمق عمله، ويُذكّر بالآليات التأويلية التي اشتغل عليها فلاسفة اللغة ومنظريها أمثال دريدا وبول ريكور.
فالنص، إذًا، لا يُقرأ في معزل عن التوتر السياسي والاجتماعي الذي يسكن خلفيات الكتابة العربية الحديثة، لا سيما الخليجية؛ حيث يُصبح الحب مساحةً لاستعادة الذات في مواجهة المادة، وزمنًا مضادًا لزمن الاستهلاك؛ فالمرأة ليست فقط ذاتًا محبوبة، كما كنا نراها في أشعارنا التراثية العربية بل أيضًا ضميرًا ثقافيًا، وهويّة يُعوَّل عليها في ترميم الفقد المعنوي الذي يعيشه الشاعر ليرنم لها في بوح شفيف: “لأني بعدكِ يعصرني التراب”.
ختامًا، يمكن القول إن علي الستراوي في “أحبك وكفى!” يعيد صياغة خطاب العشق ضمن بنية تأملية، تتداخل مكونات الذات فيها والعالم، الحرب والسلام، الحضور والغياب، البقاء والعدم، ليكتب نصًا يتحرك على حدود الشعر والاعتراف، دون أن يُفلت من قبضة الشعرية للحظة واحدة.
القصيدة
أحبك وكفى شعر – علي الستراوي
هي مدركة ..
إنها والعيدُ سرَّ شغفي
احتضنك في هدوء الكون
أذهبُ حيث تذهب بك الموسيقى
لا أغنية أرق من وشوشتك
دعيني .. فالغياب بَعْدِك ضياع
لا الحرب فاصلةٌ بين محيطين
ولا غبارُ العواصفَ حكمة الأغبياء
كوني كما عرفتك ..
أول هلال الشهر ..
وآخر اكتمال البدر ..
في مدن لا تحبُ الضوضاء
ولا تنشغلُ ببكاء الأطفال
لأنكِ في وسط زوبعةِ البحر
هوى امرأةٌ احبها ..
وأعيدُ شموعها في دماء قصائدي
وانتظر ..
لا لحرب الغباءُ تركتكِ
ولا لشهوةُ السقوط في الدم ..
شرَّعت للسفن ابوابها ..
وأبقيتُ مالم يكن هنا ..
أضمحلَّ ..
ليعودُ من جديد
كالموج يغسلُ الرملَ
ويتنفسُ صبا ولهكِ ..
من رئتي الهواء
لأني بعدكِ يعصرني التراب
واذوب في قلقٍ لا يرحم ..
ولا يدرك إن ابوابنا المشرعة
لا يدخلها الغزاة ..
احبك وكفى !
8 مارس 2022