د. محمد سعيد شحاتة عكَّاز فاطمة الوجود والهشاشة الإنسانية
في تجربة محمود حسن الشعرية

(الجزء الأول)
تُعد قصيدة «عكَّاز فاطمة» للشاعر محمود حسن نموذجًا بارزًا للشعر الحديث الذي يجمع بين الجمالية اللغوية والعمق الفلسفي والوجودي، بحيث يتجاوز النص حدود التعبير الشعري التقليدي ليصبح فضاء معرفيًا متعدد المستويات، وتأتي هذه الدراسة لتقدم قراءة متكاملة ومتعددة المناهج للقصيدة، تهدف إلى الكشف عن الرؤية الفكرية والفلسفية للشاعر، وفهم كيفية تشكيل النص لشبكة دلالية معقدة تجمع بين الانفعال الإنساني، والتأمل الفلسفي، والرمزية الشعرية.
يعتمد المنهج المتبع في الدراسة على تطبيق تحليلي متعدد المستويات والمناهج، يشمل:
1. التحليل الفلسفي والوجودي: ويدور حول دراسة هشاشة الإنسان أمام الزمن والموت، والصراع بين الجسد والروح، ووعي الذات بالحرية والمسؤولية، وتناول القضايا الوجودية مثل الفناء، والولادة، والمعاناة الإنسانية.
2. التحليل السيميائي والرمزي: يسعى هذا التحليل إلى الكشف عن العلامات والدلالات الرمزية في النص، مثل: العكاز، والرحم، والفارس، والأرض الميتة، وربطها بالقيم الفلسفية والاجتماعية، بما يعكس الصراع الداخلي والخارجي للإنسان.
3. التحليل اللغوي والمعجمي: ويسعى إلى دراسة الألفاظ، والتركيبات، والإيقاع الداخلي، والتكرار، والأسلوب البلاغي؛ لتوضيح كيفية بناء المعنى، وإبراز الانفعال النفسي والفلسفي للنص.
4. البعد السردي والتكويني: يسعى هذا البعد إلى دراسة الزمن، والفضاء، والشخصيات الرمزية، وتسلسل الأحداث الرمزي؛ لبيان كيفية بناء النص شعريًا وفكريًا على مستويات متعددة.
5. الصورة الشعرية وعلاقتها بالرؤية الفكرية: ويسعى هذا التحليل إلى دراسة أنواع الصور المختلفة: الانفعالية، والرمزية، والزمنية والمكانية، والصوتية، وربطها بالرؤية الفكرية للقصيدة، وإظهار دورها في تكثيف التجربة الشعرية والفكرية.
يهدف هذا المنهج التحليلي إلى تقديم قراءة شاملة وعميقة للقصيدة، بحيث تتضح شبكة العلاقات بين الفلسفة، والرمزية، واللغة، والصورة الشعرية، والبعد السردي، بما يعكس الرؤية الفكرية للشاعر حول المعاناة، والتجدد، والحرية، والصراع مع الواقع والزمن. ومن خلال هذا المنهج، تصبح قصيدة «عكَّاز فاطمة» تجربة شعرية وفكرية وجودية متكاملة، تتيح للقارئ الغوص في أبعادها الوجدانية والفلسفية، وفهم التفاعلات بين الذات الإنسانية والكون والمجتمع ضمن فضاء شعري متعدد الطبقات.
أولا: الرؤية الفكرية في القصيدة
قصيدة «عُكَّاز فاطمة» تمثل رؤية فكرية مركبة تجمع بين الوجود الإنساني المتألم، والبحث عن الخلاص الروحي والمجتمعي، والصراع بين الذات والمحيط، وتتسم الرؤية بالتشظي النفسي والفلسفي؛ إذ يجمع الشاعر بين التأمل في الجسد المريض والمستضعف وبين الإحساس بالظلم الاجتماعي والروحي، وبين استدعاء الرموز الدينية والاجتماعية لإيصال رؤيته.
القصيدة تنسج عالمًا شعوريًا وجوديًا-ميتافيزيقيًا؛ حيث يتقاطع وجع الفرد مع وجع المجتمع، ويصبح الألم أداة لفهم الواقع، والتحرر من القيود الداخلية والخارجية. وهذه الرؤية تتماهى مع فلسفة سارتر وهايدغر ودريدا من حيث إدراك الألم كشرط أساسي للوعي، واعتبار الجسد والروح مواقع للتجربة الإنسانية العميقة، وتتشكل الرؤية الفكرية في القصيدة من خلال خمسة محتور أساسية.
المحور الأول: الوجود الإنساني والألم
تعكس القصيدة رؤية وجودية صافية للألم الإنساني، حيث يكون الجسد والهشاشة محور التجربة، يقول الشاعر:
عكَّازُ عُمْركِ مِيقاتٌ أَتقْرِضُهُ دُوَيْبة الأرضِ أوْ يهوي بهِ الجسَدُ؟
هنا يسائل الشاعر الزمن والجسد، والوجود يصبح مقياسًا للألم والمعاناة، في انسجام مع فلسفة سارتر حول الوجود المأزوم والحرية في مواجهة الواقع المأساوي، ويقول أيضا:
يَسْطُو الوَباءُ بِلَا خوْفٍ على رِئَتِي وجسْميَ الهشُّ صَوْبَ الدَّاءِ يجْتَهِدُ
يشير إلى هشاشة الجسد أمام الأمراض والموت، وهو تصوير فلسفي للموت المحتمل كحقيقة وجودية دائمة، والوعي بها يجعل الوجود أكثر حضورًا وتأملًا.
المحور الثاني: الذات والتفكك النفسي
يعبر الشاعر عن تفكك الذات وانقسامها بين الألم، والوجع، والحاجة للحنان، يقول:
ذاتِي تُشاطِرُني حُزني وتَشْطُرُنِي تبَّتْ يدا أَلَمٍ … قدْ ملَّهُ الجَسَدُ
يمثل البيت الشعري السابق تجسيدًا للثنائية الداخلية للذات؛ حيث الذات الواعية تواجه الألم والاضطراب، وتمثل مفهوم التفكيك الذاتي الذي يناسب فلسفة دريدا حول تفكيك الثنائية بين الذات والآخر، والذات المتشظية، كما يشير البيت في شطره الثاني إلى رفض الجسد للمعاناة المستمرة، وهو تصوير فلسفي للعلاقة المتوترة بين الجسد والوعي، كما في فلسفة هايدغر عن الجسد كموقع للتجربة الإنسانية والوجود في العالم.
المحور الثالث: العلاقة بالآخر والرموز الاجتماعية
القصيدة توظف شخصيات رمزية مثل «أم» و«فاطمة» للتعبير عن صلة الإنسان بالآخر، والبحث عن الانتماء والأمان، يقول الشاعر:
هيَّا احملِيني ولاَ تَخْشَيْ رُؤُا وجَعٍ إنِّى جَنِينٌ ودِيعٌ .. ..سوفَ ينْخَمِدُ
هنا، العلاقة بالأم تتجاوز الحنان لتصبح أرضًا للوجود الجديد والولادة الرمزية، وهي رؤية فلسفية عن الآخر كشرط أساسي لوجود الذات، في انسجام مع فكر سارتر في العلاقة بين الذات والآخر، ويشير البيت في شطره الثاني إلى الاستسلام للألم والولادة الروحية الجديدة، مما يرمز إلى التجدد وإعادة بناء الذات عبر الآخر أو المجتمع، وهو بعد ميتافيزيقي للحياة الإنسانية.
المحور الرابع: الصراع مع الظلم والفساد
تحمل القصيدة رؤية اجتماعية وفكرية نقدية، يقول الشاعر:
يا أمُّ قد سرقوا يُمْناي واحتَرَفُوا وقد أصاب عُيُونِي… ذلكَ الرمَدُ
يشير إلى الاعتداء على البراءة والحق الشخصي، ويعكس فلسفة أخلاقية ترى أن العالم متشابك بين الخير والشر، والوعي بالظلم جزء من الوعي النقدي للوجود، ويقول:
غصْباً ظُلِمْنا نفوساً …غيْرَ مُذْنِبَةٍ إنَّــا وإيَّاكَ يا أيُّوبُ نتَّحِدُ
وهنا يشير إلى المسؤولية الأخلاقية للوجود في مواجهة الظلم، وهي رؤية فلسفية تعكس صراع الإنسان مع القوى الخارجية والقدر، ومفهوم العدالة الذي يرتبط بالوجود الإنساني.
المحور الخامس: الرمزية الدينية والميتافيزيقية
القصيدة توظف الرموز الدينية لتوسيع أفق الفكر الإنساني، يقول الشاعر
غصْباً ظُلِمْنا نفوساً …غيْرَ مُذْنِبَةٍ إنَّــا وإيَّاكَ يا أيُّوبُ نتَّحِدُ
يربط الشاعر بين تجربة الألم الفردي وتجربة أيوب في الصبر والتحمل، وهو استدعاء فلسفي للمعاناة كشرط للنضج الروحي والفكري.
لنْ أرْفُسَ الجنْبَ ياَ أمَّاهُ معْتَرِضاً وليُبْقِني فى دُجَى ظَلْمَائِهِ الجَسَدُ
يشير إلى الاستسلام الميتافيزيقي للقدر، والتقابل بين الحياة والموت، الجسد والروح، وهي رؤية فلسفية عميقة تعكس التأمل في وجود الإنسان ككائن هش ومحدود أمام القوى الكونية.
خلاصة الرؤية الفكرية
قصيدة «عُكَّاز فاطمة» تمثل تجربة وجودية متكاملة:
1. الوجود الإنساني هش ومعذب أمام الزمن والمرض والموت.
2. الذات الإنسانية مشطورة ومتفككة، تبحث عن توازن بين الألم والحنان والأمل.
3. العلاقة بالآخر والمجتمع ضرورية لفهم الوجود وإعادة البناء الروحي.
4. الوعي بالظلم والشر يشكل أساسًا لفلسفة أخلاقية واجتماعية.
5. الرموز الدينية والميتافيزيقية توظف لتوسيع فهم الإنسان لمعنى الألم، الخلاص، والولادة الجديدة.
القصيدة – إذن – تقدم رؤية فلسفية مركبة، حيث يتداخل الألم الجسدي والروحي مع النقد الاجتماعي والبحث عن المعنى، في انسجام مع تيارات الفلسفة الوجودية والميتافيزيقية المعاصرة.
من ديوان ” التَّسبيح بالجسد “
عُكَّازُ فَاطِمَة
عكَّازُ عُمْركِ مِيقاتٌ أَتقْرِضُهُ دُوَيْبة الأرضِ أوْ يهوي بهِ الجسَدُ ؟
طافتْ على عجلِ تسْتَاكُ أُغنِيةً
عينُ المحبِّ وقلْبٌ دمعُهُ زَرِدُ
يا لوعةَ القلبِ …لمَّا راحَ يوجعُهُ
عجزُ الكلام وضاقَ المنْطِقُ الأَحَدُ
يا أيُّها الوجعُ الملغومُ… صاحبَهُ همٌّ على رهَقٍ فى حبْلهِ عُقَدُ
ذاتِي تُشاطِرُني حُزْني وتَشْطُرُنِي
تبَّتْ يدا أَلَمٍ … قدْ ملَّهُ الجَسَدُ
يَسْطُو الوَباءُ بِلَا خوْفٍ على رِئَتِي
وجسْميَ الهشُّ صَوْبَ الدَّاءِ يجْتَهِدُ
يَا أُمُّ..
قدْ سَرَقوُا يُمْنايَ واحتَرَفُوا
وقدْ أصابَ عُيُونِي… ذلكَ الرَّمَدُ
إنِّى لهَيْكَلُ إنسانٍ .. ولا عجَبٌ
فَلْتَنْفُخِي الرّوُح فى جسمِي وأنْتَقِدُ
أوْ أدْخِلينا إلى الأرحامِ ثانيةً
بذْراً لتنْمُو خلايَا غيْرُها جُدُدُ
هيَّا احملِيني ولاَ تَخْشَيْ رُؤُا وجَعٍ
إنِّى جَنِينٌ ودِيعٌ .. ..سوفَ ينْخَمِدُ
لنْ أرْفُسَ الجنْبَ ياَ أمَّاهُ معْتَرِضاً
ولْيُبْقِني فى دُجَى ظَلْمَائِهِ الجَسَدُ
ما دُمْتُ فىِ رحمٍ يوماً سيبعَثُنِي
إنْ تصْحَبيني؛ يقولوا هاَ هُوَ الولدُ
هيَّا صِلي حبْلنا السُّرِّي فقدْ فُصِلَا
كيفَ الحياةُ بغيرِ الزَّادِ تَنْعقِدُ ؟!
هيَّا اعقْدي ذلكَ العِقْد الذي انْفَرَطَا
لاَ تَخْلُقنَّ عمىً فى خيطِهِ العُقَدُ
هذا حصانُك لمَّا شجَّ جمْجُمتِي
اغْرَوْرَقتْ عينُ أرْضِ ماؤُهَا جَمَدُ
هذا الفتى فارِسٌيحْمي أجنَّـتَـنَـا
هذا فتىً عادلٌ … مُسْتَنْفَرٌ أسَدُ
رُدِّي جواهرَكَ الأَلْماسَ … راضِيةً
أنَا مدينٌ لِحُلْمٍ …كانَ يبْتَعِــدُ
رُدِّي الهِبَاتِ وردِّي كُلَّ مَغْنَمــةٍ
ردِّي القصورَ وعطراً قَوْمُهُ زَهِدُوا
قالتْ رُوَيْدَكَ ..قدْ ألْقتْ ضمائِرُنَا
زيْفَ الحياةِ؛ فكانَ الثَّلْجُ والبَرَدُ
كلُّ النَّعيمِ قرابينٌ… أقدِّمُهاَ
فاحذَرْ جنودكَ يا طالوتُ قدْ وَرَدُوا
جرْحي المُدَمَّمُ والمسْمومُ يعْتِبُنِي
لمْ يكْفِنوا جسَدي عمداً وما لحَدُوا
رَأَيْتُهُمْ.كشَفُوا عنْ خِدْرِ فاطمَةٍ
لمْ يُؤْوِهَا نَسَبٌ .أوْ جاءَهَا مَدَدُ
أُخْفِي جراحِي فلا فى نيَّتي عبَثٌ
ولستُ رابِعَهُمْ لَمْ يرْتَجِفْ
أُحُدُ
غصْباً ظُلِمْنا نفوساً …غيْرَ مُذْنِبَةٍ
إنَّــا وإيَّاكَ يا أيُّوبُ نتَّحِدُ
قدْ مَسَّنَا ضُرُّ سَالُومِي وَفِتْنَتُهَــا
تَجْرِي لِتَسْبِقَنَا والأهلُ ما شَهِدُوا
لا ترْسُمِينِي على نهْدَيْكِ…مُنْفَلِتاً
نَجَوْتُ منْكِ فلَا خمْرٌ ولا جَسَدُ
برِئْتُ ياامرَأَةً قدْ ضاجعت وطَناً
فى ثَوْبِ راهِبَةٍ والطفلَ قدْ عَبَدُوا
ولْتَسْأَلى طفلكَ المزعومَ والدَهُ
ذِى أمَّةٌ طَهٌرَتْ ما مسَّها أَحَدُ
هيَّـا ارْكَبِي فلْكَكِ المشْبُوهَ قافِلـةً
يـا تِلْكَ لمْ تبْلُغي لاتٍ ولا سَجَدوا
إنَّ الصلاةَ بمزمارٍ تصنِّعه يداكِ ألغازُ سفْرٍ ليْسَ يُعْتَمَــدُ
ألَّفْتِهِ جُمَلاً لا شكَّ كاذِبـــة
مُسْتَنْسَخٌ ماؤُهاَ الرقْراقُ والزَّبَدُ
يقْطينَةٌ زحَفَتْ كالْأَيْمِ ساتِرَةً
وجهَ الزُّناة ِوتحتَ الخَصْرِ ما رَشَدُوا
عوراتُهُمْ حدُّ خيْطِ الحدِّ جارِحُهَـا
حُشاشَةٌ بَرَزَتْ .. والرَّاجمونَ يَدُ
محمود حسن