ميتافيزيقا الشعر بين يقين العقل وانكشاف الجمال: جدل الأبستمولوجيا والاستطيقا
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

في تخوم الفكر الكوني، حيث تتقاطع الفلسفة بالشعر، ويتداخل السؤال الميتافيزيقي مع الرؤيا الجمالية، يتبدّى الوجود لا كيقين مكتمل، بل كنداءٍ مفتوح على اللانهائي. هناك، لا يُنظر إلى الحقيقة بوصفها امتلاكًا نهائيًّا، بل كمسار تأويلي دائم، ولا يُقارب الجمال بوصفه ترفًا بلاغيًّا، بل كحالة انكشاف أنطولوجي تعيد تشكيل علاقتنا بالعالم.
فالميتافيزيقا، حين تتحرر من الوثوقيات الدوغمائية، تلتقي بالشعر في فضاءٍ أرحب من المعقول، حيث تصبح اللغة معبرًا نحو الكينونة لا قيدًا لها، ويغدو الجمال أثرًا كاشفًا لا زخرفًا شكليًّا. وفي هذا التواشج الدقيق بين الأبستمولوجيا والاستطيقا، ينبثق سؤال الإنسان: لا ككائن عاقل فقط، بل ككائن مُندهش، يُعيد صياغة العالم على مقام الحيرة ودهشة الجمال.
— أولًا: الميتافيزيقا بوصفها نقدًا لدوغمائية المعرفة
الميتافيزيقا، في أفقها العميق، لا تُؤسِّس لليقين بقدر ما تفضح وهمه. إنها لا تسعى لامتلاك الحقيقة، بل تُعرّي بنيتها وتفكك ادّعاءاتها. فالدوغمائية، كما يقول بول ريكور، هي انسدادٌ في الوعي، يتجلّى في إعادة إنتاج المعنى داخل نسق مغلق يقوم على الإيمان الأعمى، لا على التجربة النقدية.
وهنا، يصبح التفكّر الميتافيزيقي تمرينًا وجوديًّا على الشك، لا من باب النفي العدمي، بل من باب استعادة القلق بوصفه طاقةً خلاقة، كما عند كيركغور، الذي رأى أن القلق هو العلامة الأولى للحرية.
الفكر الذي لا يُساءل يقيناته يغدو عقيدة، والعقيدة التي لا تنفتح على التأويل تتحوّل إلى أداةٍ لإخراس الأسئلة.
وهكذا، فإن الميتافيزيقا ليست استجابة للبحث عن جواب نهائي، بل مقاومةٌ لصيغة السؤال المغلَق. إنها عودةٌ دائمة إلى الحيرة بوصفها مقامًا فلسفيًّا أعلى، وإلى القلق بوصفه علامة الكائن المفكّر.
— ثانياً: الشعر كتجلٍّ جماليّ للكينونة
في مقابل انغلاق الأبستمولوجيا على معايير الحقيقة والبرهان، تنفتح الاستطيقا الشعرية على أفقٍ وجوديّ مختلف، يجعل من الجمال نمطًا في الإدراك، ومن الشعر وسيلةً لانكشاف الكينونة لا لوصفها.
الشعر، في عمقه، ليس قولاً عن الشيء، بل صيرورة الشيء في القول. هو انفلات الوجود من قبضة المفاهيم، وتمظهره في المجاز، والتوتر، والإيقاع، والحدس.
يقول هايدغر:
“اللغة هي بيت الكينونة، والشعر هو سكناها الأعمق.”
وهكذا، تصبح القصيدة مساحةً تنبجس فيها الحقيقة لا كبرهان، بل كانتشاء. فالقصيدة ليست خطابًا معرفيًّا، بل هي حضورٌ حيّ للجمال في لحظة انكشافية، تُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم.
–ثالثًا: الجمال كأثرٍ ميتافيزيقي لانزياح اللغة
إن الجمال الذي يولده الشعر ليس جمالاً شكليًّا زخرفيًّا، بل هو تحوّلٌ في بنية الإدراك، ناتج عن انزياح اللغة من سياقها التواصليّ إلى أفقها الإيحائيّ والرمزيّ.
ففي لحظة الشعر، لا تكون اللغة أداةً، بل كينونة. ويصبح المعنى ليس ما يُقال، بل ما يُلمَح ويُستشعر في توتر الدلالة.
إن الانزياح هنا ليس مجازًا بلاغيًا، بل حدثًا أنطولوجيًا، يُحرّض الذات على مغادرة المعهود، ويجعلها تواجه وجودها العاري. وهذا ما عبّر عنه رولان بارت حين قال:
“الشاعر لا يقول الحقيقة، بل يخلق إمكانيات جديدة للوجود.”
فكل قصيدة هي تمرين على المجازفة، لا بمعناها الجمالي فقط، بل بوصفها تحديًا للراكد، وتمزيقًا لسطح الواقع.
— رابعاً: الشعر كرؤية كينونية لا كوظيفة أدبية.
في ذروة هذا التصوّر، يمكن القول إن الشعر ليس فعلًا لغويًا فحسب، بل هو انكشافٌ وجوديّ للكينونة في حالتها الأكثر صفاءً.
فالقصيدة لا تُستهلَك، بل تتجدّد في كل قراءة. ليست وثيقة، بل كائن حيّ يتنفّس داخل اللغة، ويتجاوزها في آن.
هي ليست محاكاةً للعالم، بل خلقٌ لعالم آخر، لا مرآة، بل نافذة.
يقول غاستون باشلار:
“القصيدة لا تُشرح، القصيدة تُسكن.”
لذلك، فإن الشعر لا يعلّمنا عن الوجود، بل يُسكننا فيه، ويجعلنا نراه بكثافةٍ جديدة، بعينٍ تنظر من الأعماق لا من السطح.
— خاتمة: نحو ميتافيزيقا منفتحة على الشعر.
لقد آن الأوان لتحرير التصوّر الميتافيزيقي من سطوة النسق العقلي، وإعادته إلى فضائه الأول: الحيرة، الجمال، الانخطاف، والدهشة. فالميتافيزيقا ليست علمًا للماوراء، بل هي حساسية كينونية تُصغي للوجود لا لتفككه، وتُنصت للجمال لا لتخضعه لمنطق البرهان.
وحده الشعر، بما هو انكشاف لا يُدوَّن، قادرٌ على أن يكون الوجه الأعمق للفلسفة.
ووحده الجمال، بما هو أثرٌ لا يُمتلك، قادرٌ على أن يُعيد للوجود دهشته الأولى.
وهكذا، يصبح الفكر الشعريّ استكمالًا للميتافيزيقا لا نقيضًا لها، وتغدو القصيدة هي الأخرى ضربًا من الحفر الوجوديّ في طبقات الظهور، ونداءً ساطعًا في ليل اليقين.