حمص بين الأسطورة والذاكرة: حوار مع كاتبة “مطارح”
تبارك الياسين تحاور الكاتبة سحر ملص

في روايتها “مطارح”، تغزل الكاتبة بخيوط الحنين والأسطورة حكايةً عن مدينة حمص، حيث تتقاطع الذاكرة الطفولية مع البحث التاريخي، والواقع اليومي مع الخيال الشعبي.
بين حجارة البيوت السوداء وسهرات الدالية، تنبض الحكايا القديمة عن الجن والعشق والماء، وتنهض المدينة كشخصيةٍ حيّة تضج بالحياة والأسرار.
في هذا الحوار، تكشف الكاتبة عن البذرة الأولى التي أنبتت الرواية، وعن علاقتها العميقة بمدينة حمص، وعن الصراع بين المقدس والمدنس، والأنثى والذاكرة، والتراث والحداثة في عالمٍ سردي يجمع بين الواقعية والفنتازيا.
حاورنها تبارك الياسين
١ـ كيف جاءت فكرة “مطارح”؟ هل كانت الرواية مستوحاة من ذكريات شخصية عن مدينة حمص، أم من بحث تاريخي عميق؟
ج: البذرة في الرواية هي مزيج من الذكريات الطفولية، حين كنت أسافر مع أمي إلى مدينة حمص العريقة لزيارة خالٍ لنا يقطن هناك، خالٍ جميل الروح والفكر والعطاء. ففي كل سنة نزور فيها دمشق مسقط رأسي، كانت أمي الدمشقية تأخذنا إلى مدينة حمص لزيارة أخيها، وكانت المدينة مميزة جداً، أولاً بحجارتها السوداء التي تُبنى بها بعض البيوت القديمة، وبالفناء الجميل الذي تتوسط ساحته دالية تتعربش على معرش، نقضي تحتها سهرات طويلة نستمع فيها إلى القصص والحكايا المعتقة، والتي كانت ترتبط بحكايا الجن هناك.
وفي نهرها العاصي الذي كنا نزوره ونقضي يوماً كاملاً في مقهى (ديك الجن)، كان اسم المقهى يثير الكثير من التساؤلات في نفسي وأنا طفلة. كانت تلك القصص والحكايا التي سمعتها، إضافة إلى البحث التاريخي العميق والبحث في تاريخ مدينة حمص وتاريخ شاعرها (ديك الجن الحمصي)، كل ذلك حفّز في أعماقي حبكة الرواية.
وقد قرأت كيف تصدى أهل المدينة للقائد تيمورلنك الذي كان يريد احتلال المدينة، فتحايل عليه أهلها بطريقة ذكية بأن أطلقوا إشاعة أن أهلها مجانين، وأن كل من يدخل مدينتهم ويشرب من نهر العاصي يُصاب بالجنون، مما جعل تيمورلنك يتجنب احتلالها بعدما قام بمجازر كبيرة في حلب وشيد قناطر من رؤوس القتلى من السكان. كل ذلك دفعني لكتابة مثل هذه الرواية.
٢ـ ما الذي دفعكِ لاختيار عنوان “مطارح”، وكيف يعكس هذا العنوان جوهر الرواية وعلاقتها بالأماكن والطقوس؟
ج: كما هو معروف، “مطارح” جمع كلمة “مطرح” وتعني الأماكن البعيدة، أو المسكن والمجلس، أو المواقع التي يقذفها الدهر وتُلقى إليه. أنا لم أَختر العنوان، بل هو الذي فرض نفسه عليّ، فأنا أتحدث عن حقبة في الزمان البعيد، وكذلك عن مدينة بعيدة لا يعرفها الكثير، ولكنها تضج بالحياة، وغُلّف تاريخها بالكثير من الحكايا والخرافات والأساطير، ويُقال إنها مسكونة بالجن، وأن أهلها اتصفوا بالذكاء، وإن بدا الأمر في ظاهره غير ذلك.
ثمة علاقة وطيدة بين العنوان وأماكن الرواية وطقوسها، فهي مدينة الحكايا والخرافات، ويُطلق على أهلها بعض الفكاهات للتندر. ويُعتقد أنهم يحتفلون في يوم الأربعاء من كل أسبوع بعيد خاص بهم يسمى “عيد الحماصنة”، ثم نشاهد كيف كان أهلها يحتفلون في مواسم الربيع والمطر. فهي حقاً مدينة قديمة عريقة ضاربة جذورها في عمق التاريخ، ولها خصوصية تميزها عن باقي مدن سوريا.
٣ـ في روايتك، تتداخل الحياة اليومية مع العناصر الأسطورية؛ كيف تعاملتِ مع هذا التداخل أثناء الكتابة؟
وهل واجهتِ تحديات في الحفاظ على التوازن بين الواقعية والخرافة؟
ج: أكيد، من يكتب مثل هذا النوع من الروايات كمن يسير على حبل مشدود في السيرك، عليه المحافظة على التوازن؛ فتارةً هو في واقع الحياة يصوّر وقائعها، وأخرى يرحل إلى عالم الفنتازيا والخيال والخرافة. لكن ما ساعدني هو أن المدينة فعلاً كان أهلها يعيشون ويعشقون حكايا الأساطير والجن والخرافات.
٤ـ الشخصيات الرئيسية مثل الشيخ درويش وولده وليد تبدو مستمدة من نسيج اجتماعي حقيقي؛ هل استلهمتِها من قصص عائلية أو شخصيات تاريخية حقيقية في حمص؟
ج ـ نعم ثمة جذور حقيقية لهاتين الشخصيتين، ولكن لا شك أن الخيال قد اضاف لهذه النواة الكثير بما يتناسب مع أحداث الرواية وليس بالضرورة ان تكون كل أفعالها حقيقة بعضها من نسج الخيال، وبعضها حقيقي ولا تنس ابداً أنني عشت طفولتي ما بين أبوبين قاصين بالفطرة يقصان على أولادهما، بعض القصص التي تحمل الحكمة ، وبعضها للفكاهة والتندر٠ ثم أن الكاتب يختار نواة الشخصية ثم يرسم الكثير من تصرفاتها، وشكلها بما يميله عليه الموقف ، وما يجود به الخيال
٥ـ كيف سعيتِ إلى بناء التوتر بين المقدس والمدنس في الرواية، خاصة في مواضيع الحب، الدين، والجنس؟ وما الرسالة التي أردتِ إيصالها من خلال ذلك؟
ج: التوتر في الرواية ما بين المقدس والمدنس يعكس صورة الحياة تماماً كما نعيشها، فثمة صراع أبدي في حياة الإنسان؛ تشده غرائزه إلى الأرض، ويتوق قلبه إلى الروحانيات، فهو في صراع أبدي. البعض يغلبه شيطانه فينسى دينه وحياته، كما في بعض الشخصيات في الرواية، والبعض الآخر ينسى حياته مثل الشيخ درويش الذي قاده تعصبه وخلواته إلى ضجر زوجته وهلاك أسرته.
لقد أتت الأديان لتهذيب النفوس وجعل الإنسان معتدلاً، فلا هو عبد للمقدس فينسى دنياه ويظلم غيره، ولا هو عبد للشهوات. وما نراه من صراعات في الحياة والدين والسياسة إنما هو انعكاس للهوى والتطرف، وهذا ما أشقى الإنسان.
٦ـ نهر العاصي وشاعر “ديك الجن الحمصي” يلعبان دوراً بارزاً؛ كيف ساهما في تشكيل مسار الشخصيات؟ وهل كانا رمزاً للصراع بين التراث والحداثة؟
ج: تماماً مثل ارتباطهما الحيوي في مدينة حمص، فَنهر العاصي شريان المدينة الذي يجري معاكساً للطبيعة في مسارات الأنهار، فهو يسير من جنوب لبنان وحتى لواء الإسكندرونة. كذلك ارتبط تاريخياً بالشاعر ديك الجن بأسطورة حياته وحبه المجنون وقتله لزوجته، ثم ندمه. لا شك أن النهر والشاعر شكّلا جزءاً كبيراً من تراث المدينة، وإذا كان ماء النهر يتجدد بمسيره عاصياً عكس مسار الإنسان، فإن ديك الجن باقٍ كأسطورة بحياته وارتباطه بحمص، ولكنهما كانا وما زالا جزءاً من تاريخ المدينة وحياتها.
٧ـ الرواية تصوّر طقوس أهل حمص وأماكنها بدقة، مثل الحمامات والأغاني الشعبية؛ ما هي المصادر التي اعتمدتِ عليها لإعادة إحياء هذه التفاصيل الحية؟
ج: بعضها حقيقي من أصل المدينة، ومن جدتي لأمي التي تعود بأصلها إلى مدينة حمص، والبعض الآخر قرأت عنه في الإنترنت وبعض الكتب القديمة التي تحدثت عن المدينة وأساطيرها. وقد كان لزيارتنا السنوية للمدينة أثناء زيارتنا دمشق أثراً كبيراً في نفسي، دفعني لإحياء تاريخ المدينة الشعبي بأغانيها وعاداتها ومعتقدات أهلها عن الجن من خلال روايتي “مطارح”.
٨ـ كيف تعكس “مطارح” صورة المرأة في المجتمع الحمصي التقليدي؟ وهل كانت هناك شخصيات نسائية ساعدتِ في تمكين صوتها داخل السرد؟
ج: إن صورة المرأة قد اختلفت الآن بعدما التحقت بالجامعات وسوق العمل، وأكيد أنه في كل مجتمع مغلق كما في الزمن القديم، ثمة من تبرز شخصيتها من النساء، إمّا كقيادية في مجتمعها الأسري والنسائي، أو بتلون شخصيتها ودسائسها كما في بطلات “مطارح” مثل زوجة الباشا التي تخلّصت من زوجها بمكيدة وارتبطت بالقاضي بعدما شاهدت حياة زوجته المرفهة أثناء ذهابها إلى حمام السوق والاحتفال هناك بمناسبة خاصة.
٩ـ الرواية تتناول مواسم المدينة وحياة الدراويش؛ ما الذي أردتِ قوله عن تأثير السياسة والتاريخ على الحياة اليومية في تلك الفترة؟
ج: دعني أقول إن الرواية ركزت على مواسم المدينة وحياة الدراويش آنذاك، وبالمقابل ذكرت حياة ديك الجن الشاعر، ولم تظهر معالم السياسة والحكم بوضوح، ولكن ظهر المشهد التاريخي في تصدي أهل المدينة لتيمورلنك الذي أراد دخول المدينة واحتلالها ليشيد قنطرة من الرؤوس نتيجة قتل رجالها كما فعل في حلب. لكن أهلها تخلصوا منه بذكاء وتجنبوا المواجهة من خلال ادعاء الجنون، وإطلاق إشاعة أن من يشرب من نهرها يُصاب بالجنون، فخرجوا لاستقباله وجنوده بطريقة مضحكة ساخرة توحي بإصابتهم بلوثة عقلية، وسط تعليق الأحذية على رقابهم ووضع الطناجر على رؤوسهم، مما أفزعه وجعله يصدق جنونهم ويتجنب دخول المدينة، فنجا أهلها الأذكياء.
سيرة ذاتية ومهنية
الاسم الكامل: سحر ياسين ملص
مكان الولادة وتاريخها: دمشق بسوريا في 12 أبريل عام 1958
الجنسية: أردنية
السيرة الحياتية:
درست المراحل التعليمية قبل الجامعية في الأردن ثم التحقت بجامعة دمشق وحصلت على بكالوريوس في علم الصيدلة عام 1979. حصلت على دبلوم دراسات عليا في التأهيل التربوي من من كلية التربية بالجامعة الأردنية عام 1987. تتقن بالإضافة الى اللغة العربية اللغتين الإنجليزية والفرنسية. عملت رئيسة لقسم المهن الطبية المساعدة في كلية المجتمع الأردني، ومدرسةً للمواد الصيدلانية في الكلية العربية، والكلية الوطنية، وكلية المجتمع الأردني. ساهمت في تأليف المناهج المدرسية، ولها العديد من المؤلفات الأدبية والعلمية، ونشر لها العديد من المقالات في الصحف والمجلات الأردنية والعربية. عضو في نقابة الصيادلة الأردنية، ورابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الكتاب والأدباء العرب، والجمعية العربية للتوعية من العقاقير الخطرة والمخدرات. تشغل منصب نائب المدير التنفيذي في منتدى الرواد الكبار بالأردن وتدير العديد من الندوات والأمسيات الثقافية.
النتاج الروائي:
“العين الزجاجية”، 2012.
“مطارح”، 2014.
“الصندوق الأسود”، 2021.
النتاجات الأخرى:
• “علم العقاقير والنباتات الطبية” (كتاب علمي)، 1984
• “شقائق النعمان” (مجموعة قصصية)، 1989
• إكليل الجبل” (قصة طويلة عن الانتفاضة)، 1991
• “ضجعة النورس” (مجموعة قصصية)، 1991
• “مسكن الصلصال” (مجموعة قصصية)، 1995
• “الوجه المكتمل” (مجموعة قصصية)، 1997
• “محطات في عالم الدّواء” (قصة علمية للأطفال)، 1997
• “سِفْر الرحيل” (نصوص أدبية حول المكان ورحلات الكاتبة)، 2000
• “الشمعة والظل: ذكريات من بيت الشعر الأردني”، 2001
• “صحوة تحت المطر” (مجموعة قصصية)، 2003
• “من ذاكرة المكان” (نصوص)، 2004
• “أختي السرية” (مجموعة قصصية)، 2005
• “الدفء” (مجموعة قصصية) 2009
• “رحيل” (مجموعة قصصية)، 2011
• “معطف أمي” (مجموعة قصصية)، 2014
معلومات أخرى (جوائز، ندوات، استضافات.. إلخ):
• جائزة القصة القصيرة للأدباء الشباب من رابطة الكتاب الأردنيين عام 1987
• جائزة الملكة نور لأدب الطفل التعليمي لعام 1997
• الميدالية الفضية (الجائزة الفضية) من مهرجان البرامج الإذاعية والتلفزيونية في تونس عام 2001 عن قصة “بائع الأنتيكا” من مجموعتها (الوجه المكتمل)