
لم تكن الكاميرا بين يدي هاني جوهرية مجرد آلة باردة تلتقط اللحظة، بل كانت روحًا ثانية تحرس الذاكرة الفلسطينية وتقاوم النسيان. في كتابه “الكاميرا تشرق من القدس” (دار هبة، عمّان 2019)، يعيد الكاتب الفلسطيني سليم النجار رسم سيرة الفنان الشهيد الذي جعل من عدسته بندقية، ومن صورته وطنًا مصغّرًا يقاوم الاندثار.
وُلد جوهرية في القدس عام 1939، درس التصوير السينمائي في القاهرة ولندن، ثم عاد محمّلًا بشغف الفن ليجد مدينته رازحة تحت الاحتلال. لم يكن الانتماء بالنسبة إليه شعارًا بل فعلًا، فانضم إلى حركة فتح عام 1967، ليصبح أحد مؤسسي قسم التصوير والسينما في الثورة الفلسطينية. منذ تلك اللحظة، تحوّلت الكاميرا إلى موقع اشتباك، ، قبل أن يستشهد في معركة تل الزعتر عام 1976 وهو يحمل كاميرته، تاركًا خلفه إرثًا بصريًا ما زال ينبض حتى اليوم.
يعتمد النجار في كتابه على شهادات أصدقاء وزملاء جوهرية، مثل المخرج صلاح أبو هنود وشقيقه رياض، ليبني نصًا يتنقّل بين الذاكرة الفردية والجماعية. لكنه لا يكتفي بالاستذكار، بل يرسم سيرة فنية-نضالية تنبض بالحميمية، وتجعل القارئ كأنه يتابع فيلمًا حيًّا أكثر من كونه يقرأ كتابًا. كل فصل من فصول العمل يبدو وكأنه مشهد سينمائي مكتمل، تُحرّكه كاميرا الكاتب لتعيد للأحداث وهجها الأول.
أهمية الكتاب لا تكمن فقط في استعادة شخصية هاني جوهرية، بل في إبراز دور الصورة بوصفها أداة مقاومة. فالصورة عند جوهرية لم تكن ترفًا فنّيًا، بل فعل بقاء، ووسيلة لتثبيت الهوية في وجه رواية استعمارية سعت إلى طمس التاريخ الفلسطيني. لقد فهم الشهيد أن الذاكرة البصرية هي الحصن الأخير أمام المحو، وأن الفن حين يقترن بالنضال يتحوّل إلى خلود.
أسلوب النجار يتميز بالشاعرية والحميمية، إذ يمزج بين الرواية الأدبية والتحليل التاريخي. يقدم جوهرية ليس فقط كمصور، بل كرمز للاقتران بين الفن والنضال، حيث “الكاميرا لا تخاف الرصاص”، كما كان يردد. هذا الاقتران يجعل الكتاب وثيقة مقاومة بصرية، تعيد قراءة الثورة الفلسطينية من خلال عدسة فنية. ينجح النجار في إحياء لحظات مأساوية، مثل تصوير جوهرية للفدائيين تحت القصف، وتحويلها إلى شهادات خالدة، مستلهمًا فكرة أن الصورة ليست مجرد توثيق، بل تحدٍ للرواية الاستعمارية.الكاميرا تشرق من القدس إذن ليس سيرة رجل بقدر ما هو سيرة وطن مصوَّر بعدسة واحدة. كتاب يُقرأ كفيلم وثائقي مكتوب، يحمل القارئ من أزقة القدس إلى خنادق الأغوار، ومن لحظات الإبداع إلى التضحية. ينجح النجار في تقديم جوهرية كـ”مسيح” لا يموت، إذ تستمر كاميرته في “الإشراق” عبر أجيال المقاومة البصرية. الكتاب موجه لكل من يهتم بالفن الفلسطيني أو تاريخ الثورة، وهو دعوة لاستعادة الإرث الذي بدأه جوهرية: كاميرا لا تقيد، بل تُحرر. في زمن تتجدد فيه الانتفاضات الرقمية، يظل هذا العمل شاهدًا على قوة الصورة في صناعة التاريخ ؛ يذكّرنا بأن الضوء قادر دائمًا على أن يبدّد الظلام، وبأن القدس التي أنجبت جوهرية ستظل تشرق بالكاميرا، كما تشرق بالصمود، مهما اشتدّ الحصار.
وفي إحدى صفحات الكتاب يكتب سليم النجار واصفًا جوهرية: «لقد شكّل هاني حالة إبداعية في اشتباكها مع التاريخ، فحوّل الصورة إلى شهادة، والشهادة إلى ذاكرة، والذاكرة إلى صفحات مجيدة في سجل الثورة الفلسطينية».
في زمن تُحاول فيه السرديات المزيفة أن تملأ فراغ الذاكرة، يعيدنا هاني جوهرية إلى يقين بسيط: أن الصورة أقوى من الرصاصة، وأن الفن حين يُولد من رحم المعاناة يتحوّل إلى شهادة خالدة. جوهرية لم يرحل، لأنه ترك لنا ما هو أبقى من الجسد: الضوء الذي يشرق من القدس ويواصل فضح الظلام.