روضى الشريف تكتب وقفتُ على عتبة التاريخ ورأيتُ مصر بأعين العالم

عندما عزفت مصر على وتر العالم فلم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا ثقافيًا عابرًا، ولا احتفالًا بروائع الماضي فحسب؛ بل كان إعلانًا له معنى أبعد كثيرًا من الحجر والذهب والزمن. كان لحظة تتكلم فيها الحضارة المصرية بلسان الحاضر، وتذكّر العالم — بهدوء الواثق — أن الأمم التي صنعت التاريخ قادرة أن تصنع المستقبل أيضًا.
ولأن الرؤية ليست في المشهد وحده، بل في زاوية النظر إليه، فقد اخترت أن أرى الحدث بعينٍ مختلفة؛ لم أكتفِ بالمشاهدة، بل تتبعتُ ردود الأفعال في كبريات الصحف العالمية، لأفهم كيف رآه العالم… وكيف قرأت القوى الدولية الرسائل التي حملها هذا المشهد الاستثنائي عن مصر ومكانتها المتجددة. ومن هنا جاء اليقين: ما جرى لم يكن حدثًا يُشاهد، بل رسالة تُقرأ.
الأيام الماضية شهدت اندفاعًا غير مسبوق من كبريات الصحف ووكالات الإعلام العالمية لرصد المشهد. لم يكن فضولًا سياحيًا؛ بل رصد لعودة دولة تُعيد ترتيب موقعها في الوعي العالمي. رويترز وصفت المتحف بأنه «هبة مصر للعالم»، والغارديان ولوموند وغيرهما أكدوا أنه أكبر متحف مكرّس لحضارة واحدة في التاريخ الإنساني كله.
ذلك لم يكن مديحًا معماريًا أو انبهارًا بصالات العرض؛ بل اعترافًا صريحًا بأن القاهرة تعود ليس فقط كعاصمة لواحدة من أعرق حضارات العالم، ولكن كصانعة لمشهد عالمي جديد، تعيد به تشكيل القوة الناعمة وتدير به حوارًا حضاريًا وعقليًا مع العالم.
ويكفي أن تعتمد ١٨٠ وسيلة إعلام كبرى إرسال ٤٥٠ مراسلًا دوليًا إلى القاهرة لتغطية الافتتاح، كي ندرك أن الأمر لم يكن حدثًا مصريًا يُشاهده العالم من بعيد، بل حدثًا عالميًا كان العالم مضطرًا أن يأتي إليه بنفسه… ليرى، ويشهد، ويكتب.
ولم يكن المشهد دبلوماسيًا أقل قوة؛ فالدولة التي تنتج مشروعًا بهذا الحجم، وتستقبل العالم بهذا الوعي، تُدرك أن الثقافة ليست حدثًا محليًا، بل قوة مصقولة لإدارة العلاقات الدولية ، صدرت رسالة غير مباشرة للعالم: هذه مصر التي لا تُستعرض… بل تُحترم.
ثم جاء المشهد الذي حمل توقيعًا فنيًا بليغًا، ليس في القاهرة فحسب، بل في أربع نقاط هي رموز للعالم نفسه ، عزفت المقطوعة المصرية في لحظة واحدة تحت تمثال الحرية بنيويورك، وأمام تمثال المسيح بريو دي جانيرو، وفي قلب طوكيو، وتحت برج إيفيل في باريس ، لم تكن تلك موسيقى تُسمَع؛ بل رسالة تُشعَر — قوة ناعمة تمتد دون حدود، تلامس المخيلة، وتقول للعالم: الحضارة التي بدأت التاريخ لا تزال تعرف طريقها إلى القلب الإنساني الحديث.
فأن تُسمَع أنغام وادي النيل في مراكز النفوذ والجمال العالمية في توقيت واحد، فذلك ليس احتفالًا… بل إعلان عن دولة تدير هويتها كقوة عميقة التأثير، تدخل العالم من بوابات الوعي والروح، وليس من صخب الشعارات.
وهكذا بدا المشهد كله نسيجًا واحدًا؛ مشروع عملاق، تغطية عالمية، حراك دبلوماسي رفيع، ورسالة ثقافية تتردّد في سماء العالم من القاهرة حتى نيويورك وباريس وطوكيو وريو. لم يكن المتحف مشروعًا أثريًا؛ بل مشروع دولة تُدير تاريخها كقوة استراتيجية، وتُوظف حضارتها كطاقة سياسية واقتصادية وثقافية في آن واحد.
المتحف المصري الكبير ليس مبنىً وُلد ليمجد الماضي فقط، بل بوابة مصر الجديدة للعالم؛ دولة تحترم جذورها كما تحترم مستقبلها، وتعرف أن القوة لا تُفرض صخبًا، بل تُبنى حضاريًا، وتُقدّم للعالم بثقة وصبر ووعي.
مصر لم تفتح أبواب المتحف…
بل فتحت صفحة جديدة في كتاب الحضارة البشرية — صفحة ثرية، واثقة، ولامعة.
ولأن التاريخ لا يكذب، فهو يقول دائمًا:
هناك حضارات تعود… أما مصر فلا تعود ولا تزول؛ هي فقط تُزيح غبار القرون عن تاجها، فيرتجّ الكون، ويستيقظ الزمن ليكتب من أول السطر ، صُنع في مصر .



