حين يسكن الماضي الحاضر .. رحلة الفهم والتعافي من اضطراب ما بعد الصدمة
بقلم : نسرين معتوق

تمر بنا في الحياة عواصف عابرة ننجو منها ببعض الخدوش ، و لكن أحياناً تكون العاصفة من القوة بحيث تترك في الروح جرحاً لا يندمل بمجرد مرور الوقت . هذا ما يُعرف بـ “اضطراب ما بعد الصدمة”( PTSD ) تلك الحالة التي تجعل المرء سجين لحظة مؤلمة مضت ، لكنها ترفض أن تغادر مخيلته و جسده .
الصدمة التي لا تنتهي بانتهاء الحدث
اضطراب ما بعد الصدمة ليس مجرد حزن أو خوف عابر ، بل هو حالة صحية عقلية تنتج عن التعرض لحدث مخيف ، سواء عاشه المصاب بنفسه أو كان قدره أن يكون شاهد عليه .
ففي الحالات الطبيعية، يميل البشر للتعافي تدريجياً بعد الأزمات ، لكن بالنسبة للمصاب بهذا الاضطراب تظل أجراس الخطر تدق في عقله و تعمل بكامل طاقتها ، كما لو كان الخطر مازال قائم .
و يأتي هنا السؤال .. كيف يمكن أن ندرك أننا بحيال هذا الاضطراب ؟
يمكن رصد مجموعة من الأعراض الرئيسية – التي تتراوح ما بين عقلية و جسدية معاً – و التي تظهر على المصاب ..
أولها الذكريات الحاضرة : و تظهر في صورة كوابيس تزور المريض ليلاً ، أو ما يمكن أن يطلق عليه ” الفلاش باك ” و التي تجعله يشعر و كأن الحادث يتكرر أمامه بكل تفاصيله المرعبة ليل نهار .
ثانيها التجنب و الإنسحاب : بحيث يتجنب المصاب الأماكن ، الأشخاص ، و حتى الأفكار التي قد تذكره بما حدث ، و هو نوع من الحماية الذاتية ، و لكنها تتحول مع مرور الوقت إلى سجن من العزلة .
ثالثها ضبابية المزاج : حيث تتغير نظرة الشخص لنفسه و من ثم للعالم ، فيفقد الشغف لما كان يحب ، و يتبلد عاطفياً ، و كأنه بنى جداراً عازلاً بينه و بين أحبائه .
رابعها الشعور الدائم بالاستنفار : و الذي ينتج عنه أرق مزمن ، و غضب لأتفه الأسباب .
و يجدر هنا الإشارة إلى أن في حالة ما إذا كان المصاب طفل في عمر ال 6 سنوات أو أقل فإن الاضطراب يظهر
على شكل تمثيل الصدمة أثناء اللعب ، أو في صورة كوابيس غير واضحة المعالم .
و لكن لماذا يصاب البعض دون غيرهم ؟
في الحقيقة الأمر لا يرتبط بضعف في الشخصية ، بل هو في المقام الأول كيمياء و معادلات ، تحكمها شدة الصدمة و نوعها من جهة ، و العوامل الوراثية للمصاب (ما إذا كان هناك تاريخ عائلي مع القلق أو الاكتئاب) و
بنية الدماغ و طريقة تنظيمه للهرمونات المسؤولة عن التوتر من جهة أخرى .
و هنا نصل للنقطة الأهم ألا و هي.. كيف نعبر لبر الأمان؟
الخبر الجيد هو أن التعافي ممكن جداً ، المهم ابتداءاً هو الاعتراف بالمشكلة و أن اللجوء للعلاج النفسي ( التحدث عن الصدمة مع متخصص ) ضرورة و ليس رفاهية ، لإعادة ترتيب الأفكار المشوهة ، أو العلاج بالتعرض الذي يساعد على مواجهة المخاوف في بيئة آمنة .
و هناك أيضاً تقنية حديثة يمكن أن يخضع لها المصاب و هي تقنية EMDR: و هي تعتمد على حركة العين لمساعدة الدماغ على “معالجة” الذكريات العالقة و تخفيف حدتها المؤلمة.
بالإضافة طبعاً للعلاج الدوائي و الذي قد يحتاج له البعض ، كمضادات الاكتئاب أو القلق لتهدئة العاصفة الكيميائية في الدماغ ، و التي بالتبعية تمهد الطريق للعلاج النفسي ليؤتي ثماره.
أخيراً اضطراب ما بعد الصدمة ليس نهاية العالم ، بل هو إشارة من العقل بأنه يحتاج للمساعدة ليتحرر من ثقل الماضي . و هذا ما يتطلب كخطوة أولى الاعتراف بالألم ، و كخطوة ثانية مد اليد لطلب المساعدة، و من ثم الخضوع لخط العلاج حتى العبور بسلام ، حيث أن
اللجوء للمختصين في وقت مبكر يعمل كحائط صد يمنع تحول رد الفعل الطبيعي إتجاه الصدمة إلى اضطراب مزمن ، كل ذلك مع عدم إغفال أهمية دور الدعم الإجتماعي من الأهل و الأصدقاء .





