دراسات ومقالات

محمد سعيد شحاتة يَكتُب : حكايات وحياكات شعراء الحداثة الإماراتية

قراءة في كتاب (مشيئة) للشاعر الإماراتي عبد الله محمد السَّبَب

الشاعر عبد الله محمد السبب من الرعيل الأول لشعراء قصيدة النثر في الإمارات العربية المتحدة، وإلى جانب ذلك فهو يكتب القصة القصيرة، وقصص الأطفال، وقد فاز سنة 1995م بالجائزة التقديرية في مسابقة غانم غباش للقصة القصيرة، كما يعد رائد القصة القصيرة جدا في الإمارات، إلى جانب تجربته في المسرح؛ فله تجربتان مسرحيتان، هما مسرحية (مذاق الضجيج) ومسرحية (الكرسي)، كما كانت له تجربة سينمائية، فقد كتب نص فيلم (القرار) وهو فيلم وثائقي إماراتي للمخرج ناصر اليعقوبي، الذي يعد أول تجربة سينمائية عن الجزر المحتلة: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى، وكان وما يزال الشاعر عبد الله السبب فاعلا ومؤثرا في المشهد الثقافي الإماراتي بصفة عامة، والمشهد الشعري بصفة خاصة، وسوف نتحدث عن كتابه الذي ظهر مؤخرا، وهو (مشيئة: حكايات وحياكات في رحيل شعراء الحداثة الإماراتية) عن دار الكتب والدراسات العربية بالقاهرة.
يبدأ الشاعر كتابه بالإهداء للشاعر العماني محمد الحارثي (1962 – 2018م) وهي لفتة لها دلالتها المعبرة عن أن شعراء الخليج يمثلون كتلة واحدة يتحدثون عن قضايا مشتركة، ويحملون هموم الإنسان الخليجي أينما كان، ويتعايشون معا في إطار فكري مشترك، كما يتحدث عن الشاعر السوري دريد يحيى الخواجة الذي عاش على أرض الإمارات، وكتب عن المبدعين الإماراتيين في لفتة وفاء من عبد الله السبب لبعض من كشفوا اللثام عن ملامح الإبداع الإماراتي، وكأنه يبادله وفاء بوفاء، ثم يلفت نظرنا في مقدمته القصيرة جدا، والمكثفة بدرجة كبيرة، فيشير إلى أن (الكتابة عن الموت هي كتابة عن الذات؛ فلا توجد مسافة بين الإنسان والموت؛ فالموت موجود كمفردة مرافقة لنا باستمرار بجميع أبعادها الحياتية أو الرمزية) وهو بذلك يؤسس لموضوعه تأسيسا علميا؛ إذ يشير إلى أن الكتابة عن الموت هي كتابة عن الحياة؛ لأن الراحلين – وأهمهم المبدعون – قد تركوا لنا مسيرة حياتهم بكل مفرداتها؛ لنستقي منها العبرة، ونستطيع من خلالها الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي قد تبدو غامضة؛ لأن المؤرخين يكتبون الخطوط العريضة في الحياة، ولا يتعرضون لدقائق الحياة اليومية التي قد تفسر لنا اتجاه المبدع للحديث عن قضايا معينة دون غيرها، أو تفسر لنا الظروف التي أحاطت بالكتابة حول موضوع معين، وهنا يأتي حديث الشاعر عبد الله السبب ليمثل نافذة نطلُّ من خلالها على مفردات بسيطة، وخطوط دقيقة في حياة المبدعين تساعد بصورة كبيرة على تفسير إبداعهم، وفهم توجهاتهم الفكرية، وانحيازاتهم الجمالية، كما تأتي كتابة الشاعر وفاء لمن رحلوا عن حياتنا وتركوا إبداعهم أمانة في أعناقنا، ولم يعد لهم تأثير إلا من خلال إبداعهم، وما يقدمه من تعبير عن واقع الحياة، واستشراف للمستقبل، أو قراءة لأحداث، واستنتاج لنتائج، ومن ثم ليس هناك – على حد تعبير الشاعر – أكثر صدقا من الكتابات التي تكتب عن موت إنسان؛ لأننا نكتب في هذه الحالة للتعبير عن أحزاننا، كما نكتب عن جزء من أنفسنا، ولذلك تأتي النصوص محملة بقدر كبير من الصدق والحب والجمال.
تحدث الكتاب عن ثمانية من شعراء الحداثة، ستة منهم إماراتيون، وشاعر عماني هو محمد الحارثي، وشاعر سوري هو دريد يحيى الخواجة، أما الشعراء الإماراتيون فهم: أحمد أمين المدني، وخليفة محمد خليفة المر، وجمعة الفيروز، وعلي العندل، وأحمد راشد ثاني، وناصر جبران.
وعندما يتحدث الشاعر عن الشخصية التي يقدمها لنا فإنه يورد سيرة مختصرة لها، ثم يورد بعض الكتابات عنها، ثم إنتاجها الإبداعي، ثم نماذج من إبداعها، وهكذا يمضي الشاعر عبد الله محمد السبب في حديثه عن حكايات وحياكات شعراء الحداثة، وهو يقدم بذلك خدمة جليلة للأدب والأدباء؛ إذ يؤرخ لفترة من أهم فترات المجتمع الإماراتي، وهي فترة التحولات الكبرى في هذا المجتمع راصدا حياة بعض رموز هذه الفترة، وإنتاجهم، وما كتب عنهم، سواء من الأدباء والمفكرين والنقاد الإماراتيين، أو النقاد العرب، وهو أيضا يرصد رؤية هؤلاء المبدعين لهذه الفترة من التحولات التي شهدها المجتمع الإماراتي، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، وما يطرحه من أفكار، كما تأتي أهمية الحاجة إلى مزيد من هذه الدراسات التي تضع أمام الأجيال القادمة إنجازات مبدعي الحداثة الإماراتية في مراحلها الأولى، فالكتاب يفتح الباب أمام الدارسين لطرح العديد من الدراسات، وتطوير مناهج التناول، وتعميق الأفكار؛ ليكون لدينا سجلا كاملا عن المبدعين نستطيع من خلاله تتبع نشأة الأفكار لديهم، وتناميها، والبيئة التي ساعدت على تطورها، والنقاشات التي دارت حولها بين المبدعين، إنه مجال خصب نستطيع من خلاله رصد حركة المجتمع وتطورها، فيستفيد من ذلك دارسو الأدب وعلماء الاجتماع على حد سواء.
يعتمد الكاتب في حديثه عن الشعراء على ثلاثة محاور: الأول تقديم سيرة موجزة عن حياة الشاعر تقف عند المحطات الرئيسية والأحداث المؤثرة في توجيه حياة الشاعر دون الخوض في التفاصيل الكثيرة لحياته تاركا ذلك للدراسات التي تنفرد بالحديث عن الشاعر تفصيليا، ثم يأتي المحور الثاني وهو الإشارة إلى بعض الدراسات التي تحدثت عن الشاعر وتلخيص النقاط الرئيسية لها دون إيراد الدراسة كاملة بكل تفاصيلها، أما المحور الثالث فهو إيراد بعض النماذج الشعرية للشاعر مع الإشارة إلى إصدارات الشاعر من الدواوين والدراسات.
وإذا أخذنا نموذجا لذلك حديث الكاتب عن الشاعر الدكتور أحمد أمين المدني فإن الكاتب توقف أولا عند حياة المدني فذكر أنه ولد في دبي سنة 1931م وأنه كان الابن الثالث من بين عشرة أبناء، وكشف الكاتب عن ميول المدني المبكرة إلى العلم ومجالسة أهله، بل مناقشتهم في أفكارهم، وأحيانا تخطئتهم مما أثار حفيظة والده عليه، ولكن المدني هرب من العائلة بعد تعنيف حاد من والده له إثر عدم تراجعه عن رأيه في أحد العلماء، بقوله (لا يوجد شخص لا تمكن مناقشته، وأن العالِم على خطأ فيما يقول) وقد أثارت هذه الكلمات غضب الوالد الذي همَّ بضربه، ولكن الشاب يهرب فيغادر دبي إلى الكويت ثم يغيِّر وجهته إلى العراق؛ لينغمس في الحياة الفكرية والثقافية ببغداد التي فتحت له آفاقا جديدة، ويلتقي الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، ويتتلمذ على أيدي كبار العلماء العراقيين أمثال اللغوي الشهير مصطفى جواد، والدكتور صبحي الصالح، والدكتور عبد الرحمن الفرغلي والدكتور نمر الخطيب، ثم يعود بعد سبعة أعوام إلى دبي ليغادرها مجددا إلى بريطانيا لدراسة الآداب الإنجليزية، فيلتقي هناك بالمفكرين الكبار أمثال ت س إليوت وأرنولد توينبي وبراتراند رسل، وغيرهم، وينتقل إلى كمبردج لدراسة الدكتوراه في الفلسفة حول فكرة التوحيد في الإسلام، ليعود المدني حاملا لواء الريادة العلمية، وبذلك يكون أول إماراتي يحصل على درجة الدكتوراه.
وهكذا نجد المؤلف عبد الله محمد السبب يصبُّ اهتمامه على الأحداث المؤثرة في حياة أحمد أمين المدني دون التطرق إلى التفاصيل الكثيرة التي لا تخدم موضوعه، ثم ينتقل إلى المحور الثاني من محاور دراسته عن المدني، فيتوقف أما ثلاث دراسات عن الشاعر الإماراتي الكبير أحمد أمين المدني، الأولى للأديب الإماراتي إبراهيم مبارك بعنوان (الشاعر المدني .. كلام للغائب) والثانية للأديب الإماراتي بلال البدور بعنوان (حيث النشأة والإبداع) أما الدراسة الثالثة فكانت للأديب الشاعر الإماراتي خالد بدر عبيد بعنوان (البحث عن المدني) ومن الملاحظ أن المؤلف لم ينقل الدراسات الثلاثة نقلا حرفيا، ولكنه لخصها بحيث لا تتكرر المعاني، وقد قال صراحة (ونحن إذ نتناول تلك الأوراق الثلاثة بشيء من التقصي في المحتوى المعلوماتي فإننا سنعمد إلى تلخيصها أو تبديل أماكن فقراتها بما يؤدي إلى وضوح الفكرة التي نود إيصالها إلى القارئ، مع المحافظة على روح معانيها والرسالة التي تضمنتها، ومع الاعتذار سلفا للأدباء الثلاثة على ما سيجدونه من تغير في ملامح أوراقهم المشاركة، والاعتذار لمجلة شؤون أدبية لعدم التزامنا بالترتيب الذي جاء به الملف التأبيني) ومعنى ذلك فإن المؤلف عبد الله محمد السبب كان مدركا تماما أنه يريد أن يقدم مضمون الدراسات الثلاثة، وليس نص الدراسات، ولذلك لجأ إلى تلخيصها، وأشار إلى ذلك من باب الأمانة العلمية.
أما دراسة الأديب إبراهيم مبارك فقد ركَّزت على حياة أحمد أمين المدني القاسية ومن خلالها سرد صورة البيئة الإماراتية في ذلك الوقت المبكر من حياة المدني، ثم انتقل إلى الإهمال الذي عانى منه المدني، فقال (الشاعر المدني عاش في أيامه الأخيرة ظروفا صعبة، الله وحده يعلم بحاله بعد أن هدَّه المرض، وهو الذي لا عمل له ولديه طفلان من الذكور أكبرهما في السنة الثالثة عشرة من عمره والآخر في الثانية عشرة تقريبا … مرت الأيام ولم نسمع عن الشاعر شيئا سوى أنه مريض ثم أخيرا رحل إلى جوار ربه، والآن ها نحن كعادة العرب الذين لا يتذكرون كتَّابهم إلا بعد رحيلهم خاصة إذا كانوا من الفئات الفقيرة والمعدمة) ويذكر الأديب إبراهيم مبارك موت أحمد أمين المدني وما أحاط به من أحداث مأساوية، فيقول رابطا بينه وبين الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في تشابه ظروفهما الصحية (فمثلما عانى الشاعر السياب من مرض ثم مات في مستشفى الصباح في الكويت، أيضا صديقه الشاعر المدني مات بعد مرض طويل في مستشفى راشد بدبي .. لم يعلم أحد بموته حتى ظل المستشفى يبحث عن معارفه، وأخيرا كان المنقذ لهذا الموقف النائب العام في دبي الأستاذ إبراهيم بو ملحة، ومن ثم تولى الأستاذ بلال البدور الاتصال ببعض إخوانه وبعض الأصدقاء. أولاده لم يعلموا بوفاته أو دفنه إلا من خلال ما نشر في الصحف) وهكذا نرى أن دراسة الأديب إبراهيم مبارك تركز اهتمامها على أحوال الأدباء، ومنهم أحمد أمين المدني في المجتمعات العربية، وأن الناس لا يتذكرونهم إلا بعد رحيلهم.
ويركز الأستاذ بلال البدور في دراسته على الديوان الأخير للشاعر أحمد أمين المدني (عاشق لأنفاس الرياحين) فيربط بين الديوان وحياة الشاعر، فيقول (ديوان عاشق لأنفاس الرياحين صورة حية لحياة المدني في آخر سني عمره.. مشتَّت بين الحب والتأمل واليأس يبوح بدواخله، مرة يرى نفسه غانية لفَّها الخريف، وتارة يرى نفسه تلك الحيزبون التي تعيش مع ذكرياتها، وتارة يعبر عن ذلك بالأرملة الوحيدة، ولئن عبَّر عن حياته في كل ذلك رمزا فقد قالها صراحة بخط يده وهو يسأل أحد المسؤولين قضاء حاجة:
كل الأرامل قد قضَّيتَ حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر؟!
لقد أدت حياته التي عاشها في سني ما بعد الدراسة إلى الانزواء؛ لأنه لم يجد من مجتمعه ذلك التقدير الذي يراه لازما لمن هم مثله، فابتعد) وهكذا نجد بلال البدور يربط بين شعر أحمد أمين المدني وحياته.
أما دراسة الشاعر خالد بدر عبيد فقد ركزت على المفارقة في حياة أحمد أمين المدني، وطريقة تعاملنا معه أديبا وشاعرا ومفكرا كبيرا، وقد عبَّر عن ذلك بقوله (غياب المدني يؤلم، ولكن حياته التي كانت بيننا توجع؛ ذلك أنه لم يستطع إقامة اتصال طبيعي مع من حوله، ولم نستطع نحن مساعدته للتخلص من الحاجة، وآلام الجسد، وغربة الوحدة، علينا أن نعترف الآن أننا أفرادا ومؤسسات ثقافية رسمية أو أهلية بحجم التقصير الذي مورس في حق الرجل، ما كان يحتاجه المدني ليس أمرا صعبا، إنه لم يطلب شيئا، لكن كان علينا توفير مناخ إنساني له يتفرغ فيه للكتابة والبحث دون حاجة له كي يتعذب في البحث عما يسدُّ به الرمق) لقد تناسب كلام الأديب خالد بدر عبيد مع عنوان دراسته (البحث عن المدني) وهكذا نجد المؤلف عبد الله محمد السبب يقدم زوايا مختلفة للحديث عن الدكتور أحمد أمين المدني.
ثم ينتقل المؤلف إلى المحور الثالث من المحاور التي بنى عليها الدراسة، وهو إيراد بعض النماذج الشعرية للشاعر مع الإشارة إلى إصدارات الشاعر من الدواوين والدراسات، فقد أورد أولا الإصدارات الأدبية للشاعر أحمد أمين المدني وتواريخها تحت عنوان (أثر الشاعر) ثم أسماء بالدراسات التي تناولت إبداعه تحت عنوان (أثر الآخر) ثم انتقل إلى مختارات للشاعر فيختار ثلاث قصائد من الديوان الأول للشاعر للدكتور المدني الذي بعنوان (حصاد السنين) وتنتهي بذلك رحلة المؤلف مع الشاعر أحمد أمين المدني.
إن الكتابة عن المبدعين بعد رحيلهم شهادة وفاء من الحياة للموت، وتسجيل للحظات صادقة، وتزداد أهمية هذه الكتابة إذا كانت تسجيلا لأحاديث وحوارات جانبية تعرض عنها كثيرا الدراسات الأكاديمية المتخصصة؛ لأن هذه الحوارات الجانبية تعبر عن البيئة التي نشأت فيها الأفكار وترعرعت الرؤى واستوت على سوقها، كما تعبر بطريق غير مباشرة عن حركة المجتمع وتموجاته وتضاريسه الفكرية المتنوعة، وفي الوقت يعد هذا النوع من الكتابات المادة الخام التي يمكن أن يستغلها دارسو علم الاجتماع بصفة عامة والاجتماع الأدبي بصفة خاصة لرصد طبيعة المجتمعات وتطورها، وكيفية عمل الأفكار وتأثيرها في البنيات الاجتماعية والإبداعية.
وسوف نتوقف فيما بعد مع هذا الكتاب في كل فصوله المختلفة، ومقارنته بغيره من الإصدارات التي تنسج على المنوال نفسه في محاولة لتقديم شكل من أشكال الكتابة يمكن أن يساعد في بلورة صورة لحركة الحداثة العربية في بداياتها الأولى.

 

 

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى