أ.د ربيع عبد العزيز يكتب مراجعات نقدية (١)
مراجعات نقدية:(1)
ارتبطت قضية موت المؤلف بالناقد الفرنسي البنيوي رولان بارت(١٩١٥-١٩٨٠) وقد عرض لها أول مرة في مقالة نشرها عام ١٩٦٧ في العددين الخامس والسادس من مجلة ( أسبين) الأمريكية. وتهدف فكرة موت المؤلف عند رولان بارت إلى قطع الروابط بين الأديب والنص، وإلى عكوف النقاد على النص الأدبي؛ ليفككوا مكوناته ويدرسوا أثرها في إعطاء النص أدبيته وتماسكه وشخصيته. وهي رد فعل على إسراف مناهج النقد التاريخي والنفسي والاجتماعي في الاهتمام بالمؤثرات التي تحيط بالنص والأديب ؛ فالمنهج التاريخي يربط عبقرية الأديب بنشأته وحياته ولذلك اتجهت أقلام نقاد عديدين منذ خمسينيات القرن العشرين إلى دراسة حياة الشاعر وشعره وتعقب النقاد تفاصيل حياة الأدباء حتى إذا وصلوا إلى النصوص الأدبية تقطعت منهم الأنفاس وتبدد أكثر جهدهم البحثي فيما هو خارج النصوص، وفي هذا إغماط لما في النصوص الأدبية من تكوينات جمالية تميزها من غيرها من الكتابات التاريخية أو الفلسفية.
أما نقاد المنهج النفسي فقد أسرفوا في البحث عن نفسية الأديب في أدبه على أساس إيمانهم بأن الأديب وأدبه كالمرء وظله، أو هما وجهان لعملة واحدة، حتى إن العقاد ظل – بوصفه من أبرز نقاد المنهج النفسي- مؤمنا بأن الشاعر الذي لا يعرف من شعره لا يستحق أن يعرف ولو كانت له عشرات الدواوين. وظل البحث عن نفسية الأديب في أدبه هو الشغل الشاغل لنقاد هذا المنهج ؛ فهم ينقبون في نصوص الأدب عما يعانيه الأديب من علل نفسية: الفصام والقهر والتشاؤم وما إلى ذلك. وفي تنقيبهم عن هذه العلل يغفلون أن الأدب فن لغوي جميل وليس وثيقة نفسية، وأن الأديب عبقرية فردية وليس مريضا نفسيا.
وأما نقاد المنهج الاجتماعي فهم يبحثون في نصوص الأدب عن الصراع بين طبقات المجتمع، ويهتمون بتفسير قضايا الكادحين ومعاناتهم.
و لم ينل جمال النص وفنياته عند نقاد هذه المناهج اهتماما يوازي اهتمامهم بحياة الأديب ونفسيته وصراع الطبقات وقضايا الكادحين، ولهذا فقد كانت الظروف مهيأة أمام رولان بارت لكي يدعو إلى موت المؤلف.
وخلافا لما يذهب إليه رولان بارت لا أظن أنه لابد أن يموت المؤلف حتى يحيا النص، بل إن بالوسع أن يحتفظ الاثنان بحياتهما بشرط ألا يطغى اهتمام النقاد بالمؤلف على اهتمامهم بالنص. وفي تقديري أنه لا يمكن للنقاد أن يدرسوا شعر حسان بن ثابت دون التمييز بين شعره الجاهلي وشعره الإسلامي.
ولا يمكن للنقاد أن يدرسوا ما في شعر المتنبي من غريب الألفاظ، ومن نزوع إلى المبالغة نزوعا يصل إلى حد تقديس الذات، ومن آثار صوفية، بدون أن يتقصوا حياة المتنبي ويربطوا بين تفاقم حسه بالأنا ونزوعه إلى التشبه بالأنبياء وتصغير أهيل زمانه.
وأية دراسة نقدية عن الزندقة في شعر أبي نواس لا يمكن أن تصل إلى نتائج جديرة بالتقدير إلا إذا أحيت أبا نواس وتقصت دقائق حياته وقيم عصره وربطت ذلك بنزوعه إلى التزندق.
كذلك لا يسع الناقد المقارن أن يدرس التأثيرات الفرنسية في أدب توفيق الحكيم دون أن يتتبع رحلته إلى فرنسا وتأثره بكتابات كورني وموليير وغيرهما من أدباء فرنسا.
ولن يصل الناقد المقارن إلى نتائج سديدة في دراسة يعدها عن التأثيرات العربية والإسلامية في أدب جوته أو أدب ليرمنتوف وتولستوي بدون أن يتتبع حياة أولئك الأدباء ويعرف المعابر التي انتقلت عبرها التأثيرات العربية إلى أن وصلت إلى جوته وليرمنتوف وتولستوي، فإذا أمات المقارن أولئك الأدباء فلن يكون بوسعه أن يكتشف تلك التأثيرات، بل قد يمر عليها مرور الكرام، وحتى إذا اكتشفها فلن يستطيع أن يردها إلى مصادرها وأن يحدد المعابر التي انتقلت عليها ما دام مصرا على إماتة المؤلفين اكتفاء بنصوصهم.
إن رولان بارت لا يميت المؤلف فحسب بل يميت معه آلاف الدراسات النفسية التي حاولت تفسير الإلهام والعبقرية واللاشعور وعلاقته بالإبداع.
ومع أن رولان بارت اكتشف مع الوقت أن المؤلفين الأفذاذ لا يموتون فإن أقلاما عربية تسابقت في الكتابة عن موت المؤلف إصرارا منها على مواكبة الموضات النقدية.